من المتوقع نمو سكان المناطق الحضرية بما يقرب من 2.5 مليار نسمة بحلول 2050، بما يؤدي إلى تزايُد الانبعاثات الحرارية، نتيجة الأنشطة البشرية المرافقة للنمو السكاني المتزايد، فيما يتضمن مفهوم مرونة المسكن مجموعةً من المعايير، منها ما يتعلق بالمواد المستخدمة في البناء، ومنها ما يختص بتصميمات المباني، بما يعزز قدرتها على الصمود...
بقلم محمود العيسوي
يتضمن مفهوم مرونة المسكن مجموعةً من المعايير، منها ما يتعلق بالمواد المستخدمة في البناء، ومنها ما يختص بتصميمات المباني، بما يعزز قدرتها على الصمود في وجه أي تغيرات مفاجئة، أو التكيف مع التداعيات الناجمة عنها.
أظهر تصاعد معدلات حدوث موجات الحرارة الشديدة والفيضانات والجفاف وحرائق الغابات التي شهدها العالم، على مدار الـ20 عامًا الماضية، أن غالبية المدن والمناطق الحضرية التي نعيش فيها ربما تصبح غير محتملة للعيش أو قابلة للحياة فيها، ما لم يتم تعزيز قدرتها على الصمود في وجه تقلبات الطبيعة، المتمثلة بشكل أساسي في التغيرات المناخية الحادة، أو غيرها من الظواهر البيئية السلبية الأخرى.
ووفقًا لتقديرات إدارة مخاطر الكوارث، التابعة لمجموعة البنك الدولي، فقد تسببت الكوارث الطبيعية، منذ عام 1980، في إزهاق أرواح ما يقرب من 2.4 مليون شخص، كما أدت إلى خسائر اقتصادية بقيمة تزيد على 3.7 تريليونات دولار، مع زيادة إجمالي الأضرار بنسبة أكثر من 800%، من 18 مليار دولار سنويًّا في الثمانينيات، إلى 167 مليار دولار سنويًّا في العقد الماضي.
ووفق تقرير موجات الصدمة، الصادر عن البنك الدولي، بتمويل من الصندوق العالمي للحد من الكوارث والتعافي من آثارها (GFDRR)، فإن ما يقرب من 75% من الخسائر التي يتكبدها العالم سنويًّا ترجع في الأساس إلى الأحداث المناخية المتطرفة وبالغة الشدة، كما تنذر التغيرات المناخية بسقوط ما يقرب من 100 مليون شخص آخرين في براثن الفقر بحلول عام 2030.
وتشير منظمة (C40) -التي تضم مجموعةً من المدن الرائدة في العمل المناخي- إلى أنه بحلول عام 2050 يمكن أن تتعرض 970 مدينة لموجات من الحرارة الشديدة، كما أن أكثر من 570 مدينة قد تتأثر بارتفاع مستوى سطح البحر، بالإضافة إلى أن عددًا قليلًا للغاية من تلك المدن قد يكون لديه الجاهزية لهذه التغييرات.
تعزيز قدرة مناطق التجمعات البشرية على الصمود في وجه الكوارث الطبيعية، وفي مقدمتها التغيرات المناخية، كان أحد المحاور التي تطرَّق إليها مؤتمر أطراف اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ (COP 27)، الذي عُقد في مصر، خلال شهر نوفمبر 2022، بما في ذلك تعزيز مرونة المسكن، باعتبارها أحد المفاهيم المرتبطة بالمباني الخضراء، لتخفيف حدة التغيرات المناخية والتكيف مع تداعياتها.
تضمَّن مركز شرم الشيخ للمؤتمرات -الذي استضاف أكبر حدث عالمي حول تغير المناخ في 2022- جناحًا خاصًّا للبناء (Buildings Pavilion)، شهد تنظيم عدد من الفعاليات، من قِبل التحالف العالمي للمباني والتشييد (GlobalABC)، بالتعاون مع المجلس العالمي للأبنية الخضراء (WorldGBC)، تناولت معظمها سبل جعل قطاع البناء والتشييد خاليًا من الانبعاثات، وأكثر مرونةً وفاعلية.
الدكتور طارق وفيق، أستاذ التخطيط العمراني، ووزير الإسكان الأسبق، قال في تصريحات لـ«للعلم»: إن المدن تُعتبر إحدى الجهات الفاعلة الرئيسية في أزمة التغيرات المناخية، مشيرًا إلى أنه من المتوقع نمو سكان المناطق الحضرية بما يقرب من 2.5 مليار نسمة بحلول عام 2050، مما يرفع نسبة سكان الحضر إلى 68%، مقارنةً بالمناطق الريفية ومناطق التجمعات البشرية الأخرى، وهو ما يؤدي إلى تزايُد الانبعاثات الحرارية، نتيجة النمو السكاني المتزايد والأنشطة البشرية المرافقة له.
وأكد «وفيق» أن الاستثمار في البنية التحتية بالمناطق الحضرية للتكيف مع التغيرات المناخية ليس كافيًا، مشيرًا إلى أن حوالي 11500 حكومة محلية أعلنت التزامها بتقليل غازات الاحتباس الحراري، من خلال الميثاق العالمي لرؤساء البلديات، بينما وقعت ما يقرب من 1000 مدينة وحكومة محلية، يعيش فيها نحو 722 مليون شخص، على ميثاق «السباق إلى الصفر».
كما لفت وزير الإسكان الأسبق إلى التقرير الأخير للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ، الذي تناول دور المدن في التخفيف من التغيرات المناخية والتكيف مع تداعياتها، محذرًا من أن ظاهرة الاحتباس الحراري تنجم عنها أحداث مناخية قاسية، عادةً ما تكون عواقبها وخيمةً على المدن، وأضاف أنه من دون إجراء تخفيضات جذرية في انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، لن يتم تقييد الاحترار العالمي عند هدف 1.5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل عصر الثورة الصناعية.
وعن مفهوم مرونة المسكن، قال إن ذلك يتضمن مجموعةً من المعايير، منها ما يتعلق بالمواد المستخدمة في البناء، ومنها ما يختص بتصميمات المباني، بما يعزز قدرتها على الصمود في وجه أي تغيرات مفاجئة، أو التكيف مع التداعيات الناجمة عنها، مثل الارتفاع أو الانخفاض الكبير في درجات الحرارة، أو التعامل مع الكميات الهائلة من مياه الأمطار، ويتم ذلك عبر آليات الاستفادة بهذه المياه، أو على الأقل التخلص منها بطريقة آمنة.
إحدى الفعاليات التي استضافها جناح البناء بمؤتمر شرم الشيخ، جاءت تحت عنوان «مقاومة المناخ في البيئة المبنية: التكيف مع المناخ المتغير»، أظهرت أن نظم الأبنية البيئية تنمو نموًّا مستمرًّا لتلبية متطلبات النمو السكاني المتزايد في المناطق الحضرية، مع الإشارة إلى أن المدن ستكون مكتظةً بأكثر من ثلثي سكان العالم بحلول عام 2060، رغم أن المرافق والبنية التحتية اللازمة لاستيعاب كل هذا العدد لم ينتهِ تجهيزها بعد.
وقالت كريستينا جامبوا، الرئيس التنفيذي للمجلس العالمي للأبنية الخضراء: إن خطط الاستثمار في الأبنية البيئية والتصميمات الصديقة للبيئة يجب ألا تقتصر على مفاهيم العمارة الخضراء فقط، بل تأخذ في اعتبارها أيضًا حجم التغيرات المناخية ونطاقها وشدتها وتأثيرها على الأصول الإنشائية، بما يعزز من قدرتها على الصمود في وجه أي تقلبات طارئة.
أضافت «جامبوا»، ضمن الجلسة الجانبية على هامش مؤتمر (COP 27)، أن الأبنية البيئية تتمتع بفرصة لقيادة أجندة المرونة في قطاع العمارة الخضراء، ووضع محور التكيف على قدم المساواة مع محور التخفيف، من خلال كيفية تصميم المباني والبنية التحتية، ووضع الضوابط الملائمة لشَغلها من قِبل السكان في مختلف أنحاء العالم، باعتبار أن ذلك يمثل أحد الحلول ذات الأولوية للتكيف مع التغيرات المناخية.
واستعرض تفلافيا هاورد-رئيس تعميم المرونة المناخية ضمن أبطال الأمم المتحدة رفيعي المستوى للمناخ- تقريرًا أكدت فيه أنه على الرغم من الزيادة الكبيرة في استثمارات خفض كثافة استخدام الطاقة في قطاع البناء على مستوى العالم، فإن إجمالي استهلاك الطاقة وانبعاثات ثاني أكسيد الكربون الناتجة عن القطاع في عام 2021 ارتفع إلى مستويات قياسية أعلى بكثير مما كانت عليه قبل جائحة «كوفيد-19».
واعتبرت «هاورد» أن قطاع البناء أصبح بعيدًا عن المسار الصحيح لتحقيق هدف إزالة الكربون بحلول عام 2050، مشيرةً إلى أن القطاع يمثل 40% من الطلب على الطاقة في أوروبا، وأن 80% من مصادر الطاقة تأتي من الوقود الأحفوري، كما أعربت عن توقعها أن تؤدي التقلبات في أسعار الطاقة، وارتفاع أسعار الفائدة، إلى الحد من الدفع بمزيد من الاستثمارات باتجاه تحقيق هدف إزالة الكربون.
وفي جلسة أخرى بعنوان «مسارات لأبنية بيئية مستدامة في أفريقيا»، قال تإيرينا ليكاتشوفا، كبير مسؤولي العمليات في مؤسسة التمويل الدولية (IFC): إن المناطق الحضرية تؤوي نحو 62% من مجموع السكان في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مع توقعات بمضاعفة سكان المدن بحلول عام 2040، مشيرةً إلى أن تلك المناطق عادةً ما تواجه مخاطر الفيضانات بصورة مستمرة، في ظل ضعف نظم الحماية، وتدهور البنية التحتية، وعدم فاعلية الإجراءات المتخذة لتخفيف وطأة تلك المخاطر على السكان المحليين.
وأضافت «ليكاتشوفا» أن نحو 21% من الاعتمادات المخصصة لتمويل العمل المناخي تذهب إلى أنشطة التكيف والمرونة، أي حوالي 16.7 مليار دولار سنويًّا، كما أن 10% فقط من استثمارات العمل المناخي تصل إلى المستوى المحلي، مشيرةً إلى أنه بحلول عام 2030 سيتعين على الدول النامية تدبير اعتمادات إضافية بنحو 300 مليار دولار للتعامل مع التداعيات الناجمة عن التغيرات المناخية.
وقال إيهاب شلبي، رئيس مؤسسة «دي كربون مصر»، والذي أدار الحوار: إن المناقشات تطرقت إلى مجال مرونة المسكن، وإلى ضرورة زيادة الاستثمارات في كفاءة استخدام الطاقة في المباني، إذ ارتفعت بنسبة تصل إلى 16% خلال عام 2021، مقارنةً بالعام السابق، لتصل إلى حوالي 237 مليون دولار، كما أن العام الماضي شهد ارتفاعًا في عدد شهادات المباني الخضراء -يُطلق وصف مبنى أخضر على أي منشأة بعد حصولها على شهادة بذلك من مجلس الأبنية الخضراء- في مختلِف أنحاء العالم، بنسبة تصل إلى 19%، مقارنةً بعام 2020.
وأضاف «شلبي»، وهو أيضًا خبير ومحاضر في مجال التنمية المستدامة، في تصريحات لـ«للعلم»، أن قيمة قطاع البناء في القارة الأفريقية تبلغ حوالي 5.4 مليارات دولار، ومن المتوقع أن ينمو هذا القطاع بمعدل سنوي 6.4%، ولفت إلى أن الدول الأفريقية تتميز بأنها غنية بمصادر الطاقة المتجددة، مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، التي يمكن استخدامها في قطاع البناء بشكل مستدام، واعتبر أن ممارسات البناء التقليدية المعروفة في كثير من دول القارة يمكن أن تمثل حجر الزاوية لبناء مساكن مستدامة وأكثر مرونة، بحيث تكون ميسورة التكلفة، وقابلةً للتكيف مع الظروف المناخية.
وفي جلسة جانبية ثالثة، تحت عنوان «بناء مستقبل مرن وخالٍ من الانبعاثات»، قال جوناثان دوين، مسؤول برامج في وحدة المدن، ضمن برنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP): إن أعمال البناء والتجديد والهدم ينتج عنها ما يقرب من 100 مليار طن من النفايات سنويًّا، على الصعيد العالمي، يتم التخلص من حوالي 35% فقط منها في مدافن النفايات، مشيرًا إلى أن المواد الخام المستخدَمة في قطاع البناء -مثل الفولاذ والخرسانة والإسمنت- تُسهم في انبعاثات غازات الاحتباس الحراري إلى حدٍّ كبير، ومن المتوقع أن يتضاعف استخدام هذه المواد بحلول عام 2060.
وبينما أشار «دوين» إلى أن المواد المستخدمة في تشييد المباني مسؤولة بالفعل عن حوالي 9% من إجمالي انبعاثات ثاني أكسيد الكربون المرتبطة بالطاقة، أكد أنه يمكن لقطاع البناء أن يؤدي دورًا كبيرًا في التخفيف من حدة التغيرات المناخية، من خلال استخدام المواد البديلة، وإزالة الكربون من الخامات التقليدية، مثل المواد الداخلة في صناعة الإسمنت لتقليل الانبعاثات الناتجة عنها.
من جانبها، أكدت المهندسة أميرة أيوب-رئيس برامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المجلس العالمي للأبنية الخضراء- أن الكثير من المناطق الحضرية في دول المنطقة تعرضت لأضرار واسعة النطاق، نتيجة التدهور البيئي، والتغيرات الشديدة في درجات الحرارة، والإجهاد المائي، وعند التخطيط لإعادة إعمار المناطق المتضررة، يجب ألا يكون ذلك بمنأى عن الاعتبارات البيئية، بما يسهم في دعم صمود البنية التحتية أمام التغيرات المناخية، فضلًا عن دعم الاستقرار الاجتماعي والتعافي الاقتصادي.
وعن دور المجلس العالمي للأبنية الخضراء في تعزيز مفهوم المسكن المرن، قالت «أيوب»، في تصريحات لـ«للعلم»: إن المجلس يعمل على تشجيع الأبنية البيئية المستدامة، لجميع الأفراد وفي كل مكان، وذلك من خلال 3 مجالات رئيسية تشمل الإجراءات التى تتعلق بالتغير المناخي، والصحة والرفاهية، والاستغلال الأمثل للموارد وإعادة التدوير، بهدف تحسين جودة المعيشة للبشر، وتحقيق أقصى فوائد اقتصادية ممكنة.
وتطرقت رئيس برامج المجلس العالمي للأبنية الخضراء في منطقة الشرق الأوسط إلىإطار العمل لإعادة البناء المستدام، الذي تم إطلاقه مؤخرًا، بهدف العمل على إنشاء مجتمعات صحية وذات موارد مستدامة، ولديها القدرة على الصمود أمام التغيرات المناخية، لتجنُّب خطر الكوارث أو الحد منها، مع العمل على إعادة إحياء سبل العيش، ودعم الحياة الاجتماعية والثقافية.
وأوضحت أن هذا الإطار يتضمن 6 محاور رئيسية، يمكن من خلالها تحويل التحديات إلى فرص، وتعزيز الأبنية البيئية في المنطقة، وتشمل استخدام الموارد بكفاءة، والقدرة على تحمُّل التغيرات البيئية والمناخية، والتنقل المستدام، والصمود الاجتماعي والاقتصادي المتكامل، والصحة والرفاهية، والتراث، مشيرةً إلى أن إطار العمل يتضمن مجموعةً من المؤشرات لتقييم مدى تطبيق كل هذه المحاور.
اضف تعليق