التغير المناخي يؤثر على كل شيء في حياتنا.. بطرق قد لا نتصورها.. بدايةً من أسعار الغذاء إلى الاضطرابات السياسية وتنامي العنف حين يسمع المواطن العادي مصطلح "التغير المناخي"، فإنه عادةً ما يتولَّد في ذهنه عدة تصورات، يأتي على رأسها الفكرة الشائعة لدى البعض بأن ارتفاع متوسطات درجات الحرارة العالمية...
بقلم: شادي عبد الحافظ
حين يسمع المواطن العادي مصطلح "التغير المناخي"، فإنه عادةً ما يتولَّد في ذهنه عدة تصورات، يأتي على رأسها الفكرة الشائعة لدى البعض بأن ارتفاع متوسطات درجات الحرارة العالمية بمقدار درجة مئوية واحدة يعني ارتفاع درجة الحرارة في ليلة صيفية من 25 درجة مئوية إلى 26 درجة مئوية، لكن في الواقع هذا أبعد ما يكون عن الصواب.
ولفهم الأمر تخيل المنظومة البيئية الكاملة وكأنها شبكة صيد مترابطة، فعلى الرغم من أن كل عقدة في هذه الشبكة تبتعد مسافةً معينةً عن الأخرى، إلا أن فك عقدة واحدة منها يهدد بقية العُقد في كل الشبكة، في حالة التغير المناخي فإن الأمر مشابهٌ لذلك، فارتفاعٌ طفيفٌ في متوسطات درجات الحرارة (عقدة واحدة) يؤثر في كل شيء آخر في حياتك!
الأمر لا يقف عند الأرز
عمَّ تأثير التغير المناخي واحدًا من أهم الأغذية: الأرز، ثاني أهم محاصيل الحبوب في العالم بعد الذرة، خلال العام الماضي تم إنتاج حوالي 510 ملايين طن متري من الأرز المطحون، في كثير من دول الوطن العربي، يؤكل الأرز بشكل يومي كوجبة رئيسية، لكن خلال العقود القليلة القادمة قد يصبح وجبةً صعبة المنال حتى على الفقراء.
فوفق نتائج دراسة نُشرت في دورية "بي إن إيه إس" PNAS فإن تحليل بيانات الطقس من عام 1979 إلى 2003 وجد أن المتوسط السنوي لدرجات الحرارة القصوى والدنيا قد زاد بمقدار 0.35 درجة مئوية و1.13 درجة مئوية على التوالي في مزارع المؤسسة الدولية لبحوث الأرز، وتزامن ذلك مع انخفاض محصول الحبوب بنسبة 10% لكل زيادة في درجة الحرارة بمقدار درجة مئوية واحدة.
وتقول دراسة أخرى صادرة من وزارة الزراعة الأمريكية عام 2018 إن درجات الحرارة المرتفعة قد تؤدي إلى خفض محصول الأرز بنسبة تصل إلى 40% بحلول نهاية القرن الحالي، كما أن الإجهاد الحراري سيؤدي إلى سلسلة من التغيرات الفسيولوجية في نبتة القمح، قد تسبب عقمًا في النبات.
وهناك أسباب ترجح حدوث مشكلات شبيهة في معظم المحاصيل، بدايةً من الأرز ووصولًا إلى القهوة؛ فدرجات الحرارة المرتفعة تزيد معدلات البخر من التربة، ما يؤدي إلى جفافها بنسبة أعلى من المعتاد، وبالتالي تزداد احتمالات إجهاد النبات، بالإضافة إلى ما سبق، فالتغيرات المناخية تُخل عادةً بمواعيد إزهار النباتات، فإما أن تُزهر مبكرًا جدًّا أو متأخرًا جدًّا، ما يؤدي بالتبعية إلى اختلال الإنتاجية.
الموجات الحارة
تتأثر المحاصيل بالموجات الحارة الأكثر قسوة، يعرف العلماء اليوم أن ارتفاع متوسطات درجات الحرارة العالمي يرفع من شدة تلك الموجات حول العالم وتردُّدها وطول مددها، أظهرت نتائج دراسة نُشرت قبل عدة سنوات في دورية "ساينس أدفانسز" أن ارتفاعًا في متوسطات درجات الحرارة بالهند مقداره 0.5 درجة مئوية تسبَّب في ارتفاع معدل الموجات الحارة التي تضربها بنسبة 25% إضافية.
والموجات الحارة هي ارتفاعٌ شديدٌ في درجة الحرارة بمنطقةٍ ما، في فترةٍ ما، مقارنةً بمعدلاتها الطبيعية، إذ تزداد احتمالات التأثير على جودة المحاصيل، كما يتأثر البشر كذلك، إذ ترفع الموجات الحارة من فرصة حدوث الإجهاد الحراري، خاصةً بالنسبة لأولئك الذين يعملون تحت أشعة الشمس مباشرةً، مثل رجال المرور وعمال البناء.
حاليًّا، يتعرض حوالي 30% من سكان العالم لظروف حرارية خطيرة لمدة 20 يومًا على الأقل في السنة، لكن وفق دراسة نُشرت في 2017 بدورية "نيتشر كلايمت تشينج" فإنه بحلول عام 2100، من المتوقع أن ترتفع هذه النسبة إلى 48%، وهذا سيحدث فقط في سياق سيناريو يتضمن تخفيضاتٍ كبيرةً في انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، إذ إنه في حال لم يحدث ذلك التخفيض، فإن النسبة قد تصل إلى 74% من سكان العالم.
الأسوأ من ذلك أن هؤلاء الذين يضافون إلى فريق الأيام شديدة الخطورة الحرارية يكونون عادةً غير مؤهلين للتعامل مع طقس من هذا النوع، وبالتالي يُتوقع أن يكون التأثير عليهم كبيرًا.
ارتفاع نِسب المرض
ولا يقف الأمر عند الإجهاد الحراري، أو عدم قدرة الجسم على التكيف مع درجات الحرارة المرتفعة، وبالتالي يصاب بأعراض تبدأ من الصداع الشديد وتهيُّج الجلد، وقد تصل إلى فقدان الوعي والوفاة في الحالات المتطرفة، ولكن يمتد أثر التغير المناخي إلى صحتنا من نواحٍ عدة.
وكما أفادت منظمة الصحة العالمية فإن التغير المناخي سيتسبب في حدوث ما يقرب من 250 ألف حالة وفاة إضافية سنويًّا بين عامي 2030 و2050، بسبب سوء التغذية والملاريا والإسهال إلى جانب الإجهاد الحراري، وتقدر التكاليف السنوية للأضرار المباشرة بما يتراوح من مليارين إلى 4 مليارات دولار أمريكي سنويًّا، ووفق المنظمة، فإن التغير المناخي هو "أكبر تهديد صحي يواجه البشرية"، وهذا مفهوم بالطبع، ارتفاع درجات الحرارة يرفع بالتبعية نسب عدم قدرة البشر على تحمُّل ظروف طقس قاسية، كذلك يرفع من معدلات انتشار الحشرات الناقلة للعدوى والتي تنشط في الطقس الحار، ولأن نسب تحمُّل الهواء لبخار الماء تكون أعلى في ظل درجات الحرارة المرتفعة، إلى جانب ارتفاع معدلات العواصف الرملية والترابية، فإن ذلك يرفع من نسب الإصابة بالأمراض التنفسية، وقد يحيل غرفةً عاديةً إلى جحيم بالنسبة لمريض بالربو، على سبيل المثال.
ويبدو أن الأزمات لا تأتي فرادى، فارتفاع متوسطات درجات الحرارة عالميًّا يؤثر بالتبعية في شدة موجات الجفاف وترددها وطولها، ولا يوجد نموذج في هذه الحالة أشهر حاليًّا من موجة الجفاف الأوروبية الأخيرة التي أشار مركز البحوث المشتركة التابع للمفوضية الأوروبية (EC-JRC) إلى أنها الأشد منذ خمسمئة سنة، بل تشير دراسة نُشرت بدورية "كلايمت تشينج" إلى أن موجات الجفاف الأوروبية التي تحدث كل مئة عام ستتكرر كل 10-50 عامًا بحلول نهاية هذا القرن!
الجفاف يؤثر في كل شيء، ليس الزراعة فقط -وبالتبعية أسعار الطعام والمياه- ولكن حتى نقل البضائع والطاقة، موجة الجفاف الأخيرة جففت بعض الأنهار، وبالتبعية أوقفت حركة التجارة في نهر الراين بألمانيا، الذي يُعد طريق نقل رئيسيًّا، كذلك فإن محطات الكهرباء التي تعتمد على الأنهار واجهت مشكلات في معدلات إنتاجها اليومي، ما اضطر بعض الدول إلى البحث عن مصادر أخرى للطاقة.
ولا يقف الأمر عند أوروبا، فقد توصلت دراسة لوكالة الفضاء والطيران الأمريكية (ناسا) إلى أن موجة الجفاف الطويلة التي بدأت في عام 1998 في منطقة شرق البحر المتوسط، والتي تضم قبرص وفلسطين والأردن ولبنان وسوريا وتركيا، قد تكون الأسوأ على الإطلاق خلال القرون التسعة الماضية.
تنامي العنف
لكن كل ما سبق يقود إلى طريق آخر ربما لا يتصوره البعض، وهو أن هذا الاضطراب الحاصل على نطاقات واسعة كما نلاحظ، لا بد وأنه في مرحلةٍ ما سيؤثر على المجتمع ككل، وقد يؤدي إلى مشكلات سياسية، ليس هذا جديدًا؛ فقد أشارت بعض الدراسات بالفعل إلى أن تأثير موجات الجفاف على سبيل المثال كان له دورٌ في انتهاء العصر البرونزي سنة 1200 بمنطقة شرقي البحر المتوسط، حيث انتشرت المجاعات والحروب بالتبعية، ما أدى إلى تفكُّك الحكومات القائمة في ذلك الوقت.
وتشير دراسات معاصرة إلى أن التغير المناخي يؤدي دورًا لا يُستهان به في تنامي العنف بين الدول أو داخل الدولة الواحدة، بل تشير بعض الأبحاث إلى أن الاضطرابات السياسية التي حدثت في سوريا في عام 2011 تتعلق إلى درجةٍ ما بموجة جفاف سابقة لهذا التاريخ استمرت ثلاث سنوات، وكانت الأشد قسوةً منذ عقود.
وبشكل عام، فإن التغير المناخي عادةً ما يؤثر في الدول التى تعاني هشاشةً من الأساس، وتواجه مشكلاتٍ اقتصاديةً وسياسية، وبالتبعية يمكن أن يكون أثر موجات الجفاف أو غيرها من الاضطرابات المتعلقة بالتغير المناخي كارثيًّا.
في النهاية، لا تظن أن آثار التغير المناخي بعيدة عنك، إنه يؤثر في كل شيء، بدايةً من تكلفة الطاقة التى تدفعها لشحن هاتفك، ومرورًا بتوافر الأغذية المعتادة في السوبرماركت، ووصولًا إلى الأمن الغذائي والاستقرار السياسي.
اضف تعليق