نحن بحاجة إلى نظرة أكثر إمعانًا وتعمقًا إلى أنظمة العنصرية البيئية، أي تلك الأنظمة التي تتمخض عن عدم مساواة في التعرُّض للملوِّثات البيئية، بل وترسِّخ وجودها. فهذه الأنظمة يمكنها أن تستمر حتى في غياب الضغائن. وأهم مسبباتها هي اللامبالاة، والجهل، وعدم كفاءة اختبارات المواد الكيميائية الصناعية...
بقلم: هارييت إيه. واشنطن
تزيد الظروف المعيشية الضارة من معدلات الوفيات بـ«كوفيد-19» COVID-19؛ ومن ثم يجب على العلماء تتبع كيفية حدوث هذه الزيادة، وأسبابها.
في الوقت الذي تتراكم فيه البيانات التي تشير إلى أن الأشخاص الملونين في بعض الأماكن أكثر عرضة من البيض للإصابة بمرض «كوفيد-19» COVID-19، والوفاة بسببه، تزايد النقاش الذي يتشبث بعوامل تتجاوز العِرْق لتفسير هذه الظاهرة. إنني معتادة على ذلك؛ فعندما نُشر كتابي عن العنصرية البيئية في العام الماضي، كان أحد أكثر الأسئلة التي تلقّيتها شيوعًا يتعلق بالتفسيرات البديلة لتدهور الصحة الذي يزداد في أوساط مجموعات الأقليات العرقية. وقد وُجهت إليَّ أسئلة –بلا شك- عما إذا كانت القضية تتعلق بالعِرْق، أم ترتبط بالفقر.
صحيحٌ أن الفقر أحد عوامل الخطر التي تؤدي إلى المرض، لكن التفاوُّت بين الأعراق في التعرض للملوثات البيئية يشكِّل عوامل خطر أكبر، تبقى حتى بعد التحكُّم في مستوى الدخل. فالأمريكيون الأفريقيون الذين يحققون دخلًا سنويًّا يتراوح بين 50 ألف دولار، و60 ألف دولار، وينتمون بوضوح إلى الطبقة الوسطى، يتعرضون لمستويات أعلى بكثير من المواد الكيميائية الصناعية، وتلوُّث الهواء، والمعادن الثقيلة السامة، إلى جانب المُمْرِضات، مقارنةً بالبيض شديدي الفقر، ممن يبلغ دَخْلهم السنوي 10 آلاف دولار. ويظهر هذا التفاوُت في كل من المناطق الحضرية، والريفية.
ومن ثم، نحن بحاجة إلى نظرة أكثر إمعانًا وتعمقًا إلى أنظمة العنصرية البيئية، أي تلك الأنظمة التي تتمخض عن عدم مساواة في التعرُّض للملوِّثات البيئية، بل وترسِّخ وجودها. فهذه الأنظمة يمكنها أن تستمر حتى في غياب الضغائن. وأهم مسبباتها هي اللامبالاة، والجهل، وعدم كفاءة اختبارات المواد الكيميائية الصناعية، وكذلك العنصرية، والتمييز في السكن، وجشع الشركات، وأخيرًا.. التهاوُن في إصدار التشريعات من قِبَل وكالة حماية البيئة التي أصابها الوهن (في الولايات المتحدة). وللتصدي لهذه الأسباب.. يتعين على المجتمع أن يتحمل مسؤولياته بفاعلية. ومن خلال استباق الاعتداءات البيئية الهائلة التي يتعرض لها الأشخاص الملونون، يمكننا العمل على حماية الأرواح أثناء الجائحة الحالية، وكذلك في حالات تفشي الأمراض المستقبلية.
صحيحٌ أن المُمْرِضات تساوي بين الجميع بطبيعتها، لكنْ من الثابت أيضًا أن مجموعات الأقليات العرقية المُهَمّشة تتعرض بشكل أكبر للتلوث البيئي، كما أنها أقل قدرة على الانتفاع بالرعاية الصحية. ويخلق كل ذلك مَواطن ضَعف جسدية واجتماعية تجعل الأشخاص الملونين أقل قدرة على مقاومة العدوى والنجاة منها، مثلما هو الحال مع فيروس كورونا.
وهذه ليست مشكلة في الولايات المتحدة فحسب، ففي إبريل الماضي، أشارت تقديرات المركز الوطني البريطاني للتدقيق والبحوث في شؤون وحدات العناية المركزة إلى أن 35% من الأشخاص المحتجَزين في هذه الوحدات من جرّاء الإصابة بـ«كوفيد-19» هم من السود، أو من الآسيويين، أو ينتمون إلى مجموعات أقليات عرقية أخرى، أي يشكلون ما يقرب من ثلاثة أضعاف نسبتهم بين سكان المملكة المتحدة.
كما أن أول عشرة أطباء عُرفت وفاتهم تأثرًا بالإصابة بـ«كوفيد-19» في المملكة المتحدة كانوا أيضًا من السود، أو من الآسيويين، أو مجموعات الأقليات العرقية الأخرى. وقد رُجِّح أن يكون سبب هذا التفاوُت هو الإسكان المكدس، وظروف العمل، إذ يعيش 2% فقط من البيض داخل المملكة المتحدة في أوضاع مزدحمة، بينما يعيش 30% من الأُسَر البنجلاديشية، و16% من الأُسَر الباكستانية، و15% من الأفريقيين السود في مساكن مكتظة بالقاطنين. ويُعتبر السود والمنتمون إلى الأقليات العرقية أيضًا أكثر عرضة للعيش في المناطق التي تعاني «الحرمان» من موارد الحياة الأساسية، والأقرب إلى مصادر التلوث الصناعي؛ من المياه الملوثة بالرصاص في مدينة فلينت بميشيجان، إلى غاز الأعصاب، والزرنيخ، وثنائي الفينيل متعدد الكلور في أنيسون بألاباما.
تزداد أيضًا احتمالات عيش المجموعات السكانية من السود والأقليات العرقية في أحياء يتعرضون فيها إلى مستويات مرتفعة من الرصاص وتلوُّث الهواء. وقد ربط العلماء منذ فترة طويلة بين التعرض المكثف لتلوث الهواء من جانب، وبين قِصَر متوسط العمر المتوقَّع. كما يمكن أن يؤدي هذا التعرُّض الخَطِر إلى تفاقم أمراض القلب، وتحفيز الإصابة بارتفاع ضغط الدم، وتقويض أجهزة المناعة.
وقد رَبطت دراسة أولية نُشرت على أحد خوادم ما قبل الطباعة (Wu, X. et al. Preprint at medrxiv https://doi.org/10/ggrpcj; 2020) هذا التعرُّض بزيادة احتمال الوفاة، نتيجة الإصابة بـ«كوفيد-19»، إضافة إلى أن صعوبة الحصول على الأطعمة المغذية تزيد من سوء أوضاع هذه الفئات.
ويُستخدم مصطلح «الصحاري الغذائية» غالبًا للإشارة إلى الأحياء التي تفتقر إلى محلات البقالة، وبائعي المنتجات الطازجة الأخرى، لكنني أفضل تسمية هذه الأحياء بـ«المستنقعات الغذائية»، لأنها غالبًا ما تكتظ بالأماكن التي تبيع الأطعمة غير الصحية، والكحول، والتبغ. وهو ما يؤدي إلى زيادة حالات السمنة، وحالات نقص التغذية، وهو ما يضاعف بدوره من أضرار التلوث البيئي. من ناحية أخرى.. فإنّ توفُّر فيتامين (سي)، والكالسيوم، والحديد في النظام الغذائي -على سبيل المثال- يمنع الجسم من امتصاص الرصاص، وهو معدن سام. ويمكن أن نسوق الحجج نفسها فيما يتعلق بإمكانية الاستفادة من المساحات الخضراء، ومَرافق ممارسة الرياضة.
وللتقليل من أوجه التفاوت هذه وغيرها، ومَنْع حدوثها، فإننا بحاجة إلى جمع بيانات أدقّ، ونشرها. فالسلطات بحاجة إلى توثيق العِرْق، وعدم افتراض أن بإمكانها الحصول على ما تحتاجه من معلومات من الوضع الاجتماعي والاقتصادي للأشخاص.
إنّ المراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والوقاية منها لم توافق على الإبلاغ عن حالات الوفاة على أساس العِرْق والانتماء الإثني، إلا عندما واجهَتْ ضغوطًا، وحدث ذلك بعد عدة أسابيع من أول حالة وفاة أمريكية. وبحلول يوم السادس عشر من مايو، كانت 40 ولاية فحسب قد أبلغت عن الأصول العرقية للأفراد الذين قضوا نَحْبهم بسبب الإصابة بـ«كوفيد-19»، وثلاث ولايات منها فقط قد أبلغت عن الأصول العرقية للأفراد الذين خضعوا لاختبارات الكشف عن «كوفيد-19».
ومن الجدير بالذكر أنه في تسعينيات القرن الماضي، تبين أن علماء الصحة وممارسي الطب غير مدركين لارتفاع معدلات العدوى بفيروس نقص المناعة البشرية (HIV)، والوفيات الناجمة عنه في مجتمعات الأفراد الملونين. ويتكرر هذا النمط الآن في حالات الوفاة الناجمة عن الإصابة بـ«كوفيد–19». ويحتاج صناع السياسات إلى إدراك ذلك، والبدء في توجيه تدخُّلاتهم؛ ربما عن طريق زيادة الاختبارات التي تخضع لها الشرائح السكانية الأكثر عرضة للإصابة بالمرض.
كما نحتاج إلى نظرة أبعد من الافتراضات التي تلقي باللوم على الاختلافات الجينية، و«خيارات» نمط الحياة، باعتبارهما تفسِّران أوجه التفاوُت الطبية. وهناك مخاطر بعينها، مثل مكان إقامة الشخص، أو ما يتناوله من طعام، تعكس غالبًا حقائق خارجة عن إرادة هذا الشخص. فالتباعد الاجتماعي مستحيل بالنسبة إلى أشخاص يعيشون في شقق مكدسة، ويتوجب عليهم العمل متلاصقين في مصنع لتعبئة اللحوم مثلًا.
وبدلًا من ذلك.. يجب تصميم العلاجات والبحوث العلمية باستخدام معلومات حول الاختلافات في مناحي القدرة على الاستفادة من الرعاية الصحية، والتعرُّض للملوثات البيئية. وسيساعد هذا النهج الجميع؛ فكما يقول تيدروس أدهانوم جيبريسوس، رئيس منظمة الصحة العالمية: "لن يكون أحدٌ في مأمن، حتى يكون الجميع كذلك". وقبل كل شيء، يجب أن نتذكر أننا إذا لم نواجه العنصرية البيئية مباشرةً، فلن نستطيع التغلب عليها.
اضف تعليق