يُعد ملف الطاقة من أهم الملفات التي ستؤثر في رسم خريطة القوى العالمية المستقبلية وفي صعودها او هبوطها، فقدرة أي قوة عالمية على تأمين الطاقة لمصانعها في الحاضر والمستقبل تحدد حجم مقعد هذه القوة على الساحة العالمية، وعليه أصبح مفهوم أمن الطاقة أحد المفاهيم الأمنية التي بدأت تتشكل وتأخذ مكانها ضمن العديد من المتغيرات والمفاهيم التي تلت حقبة ما بعد الحرب الباردة، ومن خلال ملاحظة الصراعات الدولية الراهنة نجد أن أمن الطاقة أضحى شأنه شأن العديد من المحددات التقليدية الأخرى مثل الحفاظ على مكانة الدولة والتوسع وتأمين الحدود لا سيما بالنسبة للدول الكبرى.
إن سعي دول العالم لا سيما القوى الصناعية الكبرى للحصول على المواد الأولية يُعد هدفاً مهماً بالنسبة لها، إذ أن حيوية هذه المادة (النفط)، وعدم القدرة على تحقيق الإكتفاء الذاتي قد جعل الحصول عليها غالباً ما يصبح هدفا ملحاً من أهداف السياسة الخارجية للدول. ومما زاد من أهمية النفط هو فشل المحاولات العديدة التي جرت وما زالت جارية من قبل الدول الصناعية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية لتوفير طاقة بديلة للنفط كالطاقة الشمسية والطاقة النووية، وذلك لإرتفاع سعر تكلفة هذه البدائل، وعدم جاهزيتها لتغطية كل الاستعمالات التي يوفرها النفط.
تشير التقديرات إلى أن الإحتياطيات المتبقية من النفط تقدر ما بين (1,2-1,3) تريليون برميل، أما الغاز الطبيعي فتتراوح الإحتياطيات بنحو (180) تريليون من الأمتار المكعبة. كما تشير المعلومات المتوفرة بأن الطلب العالمي على النفط سوف يرتفع بمعدل ثابت يبلغ حوالي 1,7% سنوياً للمدة من 2000-2020، مما يعني أن الطلب على النفط سيرتفع الى نحو (107) مليون برميل يومياً في عام 2020، مقارنة بنحو (90) مليون برميل يومياً في عام 2010، ويرجح أن ترتفع النسبة إلى نحو (120) مليون برميل يومياً في عام 2025. في حين تشير التقديرات بأن الطلب العالمي على الغاز الطبيعي سيرتفع إلى نحو (4,7) تريليون متر مكعب سنوياً في عام 2020، مقارنة بنحو (2,5) تريليون متر مكعب سنوياً في عام 2000.
وفي ضوء ذلك فقد أدرك صانع القرار السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية الأهمية الإستراتيجية لإمدادت الطاقة ودورها في إدامة وتعزيز نمو الاقتصاد العالمي لا سيما في الدول المتقدمة، وهو ما مهد لاحقاً لظهور مفهوم " أمن الطاقة ".
ومما سبق، نجد إن قضية ضمان إمدادات مصادر الطاقة أصبحت بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية تدخل في صلب إهتمامات الأمن القومي الأمريكي، وهو ما دفع بالولايات المتحدة إلى البحث عن مصادر جديدة للطاقة تكون أكثر أمناً، وأقل ضرراً، نظراً لحاجة الصناعات المستقبلية الأمريكية لاسيما في المجالات ذات التقنية العالية إلى الطاقة المهمة ولاسيما النفط.
وفي هذا الإطار أكد الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون في عام 1991 على أهمية ضمان التدفق المتواصل لإمدادات الطاقة، لا سيما النفط وضرورة الدفاع عنه بقوله: " إننا لا نذهب إلى هناك دفاعاً عن الديمقراطية ولا نذهب إلى هناك لمحاربة الدكتاتورية، ولا نذهب إلى هناك للدفاع عن الشرعية الدولية، إننا نذهب إلى هناك وعلينا أن نذهب لأننا لن نسمح بان تمس مصالحنا الحيوية ".
فالسياسة الأمريكية تجاه الدول النفطية لم تعد محكومة بمصالح أيديولوجية ضيقة في فترة ما بعد الحرب الباردة، وإنما أصبحت الإعتبارات الإقتصادية هي المتحكمة في تلك السياسة، من خلال ضمان حصول الإقتصاد الأمريكي على موارد كافية من الطاقة، ولا سيما النفط وبأسعار معقولة، وبصورة يمكن التعويل عليها ضمن شروط وأوضاع تدعم النمو والإزدهار الإقتصادي في الولايات المتحدة.
إذ يُعد الإقتصاد الأمريكي اكبر اقتصاد مقارنة بالإقتصاديات العالمية الأخرى، ففي الوقت الذي بلغ عدد سكان الولايات المتحدة الأمريكية نحو (322) مليون نسمة في عام 2014، وبنسبة تقدر بنحو 5% من سكان العالم، فان الإقتصاد الأمريكي يعد اكبر اقتصاد منفرد في العالم بنسبة 20,9% من إجمالي الناتج العالمي، تليها الصين بنسبة 11,4%، ثم الهند وروسيا بنسبة 4,6% و 3,2% على التوالي.
ولا شك فإن ضخامة حجم الإقتصاد الأمريكي، جعل الولايات المتحدة الأمريكية تحتل المرتبة الأولى كأكبر دولة مستهلكة للنفط على الصعيد العالمي، وطبقاً للأرقام الصادرة عن وزارة الطاقة الأمريكية، فان الولايات المتحدة تستهلك أكثر من (20) مليون برميل يومياً، وبنسبة تقدر بنحو 23,9% من إجمالي الإستهلاك العالمي، وهو ما يعادل إستهلاك الصين واليابان وروسيا وألمانيا والهند مجتمعة، في حين يصل إنتاجها إلى حوالي (8) مليون برميل يومياً، مما يعني أن الولايات المتحدة تستورد يومياً ما يزيد على (12) مليون برميل.
ومن المتوقع أن يزداد الطلب الأمريكي على النفط إلى نحو (27) مليون برميل في عام 2025، بزيادة سنوية تبلغ 1,7% في المتوسط، مما يعني إن الولايات المتحدة سوف تضطر إلى تأمين أكثر من ثلثي إحتياجاتها، وتحديداً 68% منها بحلول عام 2025.
وعليه فان السيطرة على مناطق النفط العالمية الرئيسة من قبل الولايات المتحدة هي جزء من السياسة القومية للطاقة التي وضعتها إدارة الرئيس الاسبق جورج دبليو بوش، والتي تعد "أمن الطاقة" مكون أساسي للأمن القومي وشرط مسبق لضمان النمو الاقتصادي المستديم". فضلاً عن إحكام السيطرة على مخزونات النفط العالمية، مما يسهل عملية التحكم في الاقتصاد العالمي، واقتصاديات الدول المنافسة بشكل اكبر.
وفي هذا الصدد فقد أشار وزير الدفاع الأمريكي الأسبق (وليم كوهين) في تقرير قدمه إلى الرئيس والكونغرس عام 1997 بقوله: " نحن لا نريد الصراع نداً لند بل نريد إمتلاك إمكانات تضمن لنا التفوق الحاسم، إننا نعيش عصر الإمكانات الإستراتيجية، وبدون هذا التفوق ستكون قدرتنا على تحقيق السيادة العالمية موضع شك".
وبما أن المصلحة القومية لا تزال المحرك الرئيس للسياسات والتفاعلات الدولية المختلفة، فقد أصبح ضمان إمدادات الطاقة (النفط والغاز الطبيعي) هدفاً إستراتيجياً مهماً للولايات المتحدة، وهو ما يعني إن الإدارات الأمريكية المتعاقبة مهما كانت مسمياتها (جمهورية أم ديمقراطية) أصبحت تنطلق من حقيقة: إن ضمان الأمن القومي الأمريكي، وحماية المصالح الحيوية تُعد من الثوابت والمنطلقات التي لا يمكن التنازل عنها.
إذ أن إستمرارية إعتماد الولايات المتحدة الأمريكية على النفط المستورد، سوف يجعل من الإضطرابات وعدم الإستقرار في مناطق الإنتاج الرئيسة تؤثر تأثيراً سلبياً على الإقتصاد الأمريكي، مما يجعل الولايات المتحدة أمام ثلاثة بدائل مرشحة هي:
1. إستخدام المخزون الإستراتيجي الأمريكي لتعويض النقص، إذ يبلغ إجمالي المخزون الحالي من النفط الخام نحو (727) مليون برميل.
2. زيادة الإنتاج الأمريكي من النفط، وهذا البديل لا يحقق سوى زيادة مباشرة ضئيلة لا تكفي لسد الإحتياجات من الطاقة.
3. خفض الطلب على الإستهلاك، وهو ما ينعكس سلباً على نمط الحياة السائد في الولايات المتحدة الأمريكية.
وإزاء تلك المخاوف من ندرة مصادر الطاقة والإنعكاسات السلبية التي تتركها على الواقع الأمريكي، فقد قامت إستراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية للطاقة عموماً وللنفط والغاز الطبيعي بصورة خاصة على أربعة مبادئ رئيسة هي:
1. تعدد مصادر النفط والطاقة عموماً، بدلاً من الإعتماد على مصدر واحد، فإلى جانب منطقة الخليج العربية، توجهت الولايات المتحدة نحو جمهوريات آسيا الوسطى ونفط بحر قزوين الذي يُقدر مخزونه بحوالي (200) مليار برميل، فضلاً عن التوجه نحو القارة الأفريقية التي تمتلك إحتياطيات نفطية تُقدر بأكثر من (117) مليار برميل وبنسبة 9,7% من الإحتياطيات العالمية لعام 2006، في حين بلغت إحتياطات القارة من الغاز الطبيعي ما نسبته 7,8 % من الإحتياطيات العالمية لعام 2006.
2. تعدد طرق النقل وخطوط الإمداد، إذ لا يكفي تعدد المصادر بل يجب كذلك تعدد المسارات لتقليل إحتمال تعرضها للمخاطر.
3. الحصول على النفط بأسعار مناسبة (رخيصة)، وهو ما يوفره تعدد المصادر والطرق الآمنة.
4. حرمان خصوم الولايات المتحدة الأمريكية ومنافسيها من الوصول إلى مصادر الطاقة الرئيسة، فضلاً عن الحيلولة دون حصولها على تكنولوجيا النفط، إذ أضاف الكونغرس الأمريكي عام 1997 مبدأ رابع للإستراتيجية الأمريكية في هذا الجانب يتمثل بحرمان الدول المتمردة على الولايات المتحدة من تطوير صناعاتها النفطية.
وإزاء تلك المخاوف من ندرة مصادر الطاقة ولا سيما النفط، فقد أصدر المجلس الأمريكي للعلاقات الخارجية ومعهد (جيمس بيكر) للسياسة العامة في آذار 2001 تقريراً ورد فيه أنه: " مع بداية القرن الواحد والعشرين يعيش قطاع الطاقة حالة أزمة، أزمة يمكن أن تنشب في أي وقت نتيجة عدد من العوامل، وستؤثر حتماً على كل بلد في هذا العالم المعولم...لا يخفي أن إضطرابات الطاقة يمكن أن يكون لها أثر محتمل على الولايات المتحدة والإقتصاد العالمي، وسوف تؤثر على الأمن القومي والسياسة الخارجية للولايات المتحدة تأثيراً دراماتيكياً.
كما أشار تقرير مجلس الإستخبارات الوطنية الأمريكية National intelligence council المعنون بـ: "الإتجاهات العالمية 2025: عالم متحول" الصادر في تشرين الثاني 2008 إلى أن السنوات الخمسة عشرة القادمة سوف تشهد صراعاً شديداً على مصادر الطاقة، نظراً لتغير موازين القوى العالمية، وإعتماد كثير من الدول في صعودها على القوة الإقتصادية، مما دفعها لتأمين إحتياجاتها من الطاقة.
وإنطلاقاً من أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تعد تواجه عدواً واضحاً ومحدداً يهدد أمنها ووجودها بصورة فعلية، فقد إنصرف إهتمامها الأمني إلى مواجهة المخاطر والتحديات التي تهدد مصالحها الحيوية، إذ أن الشك وعنصر عدم اليقين حيال إمكانية ظهور تهديدات جديدة تهدد مصالح الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها يمكن أن يشكل في المستقبل عنصراً ضاغطاً على الفكر الإستراتيجي الأمريكي. وهو ما يعني أن ضمان أمن الولايات المتحدة ومصالحها الحيوية لا يكتمل إلا ببقائها متفوقة عسكرياً على الصعيد العالمي، وعلى المستويين الإستراتيجي والتقليدي لمنع ظهور قوى جديدة يمكن أن تشكل بحسب الرؤية الأمريكية تهديداً لأمنها ولمصالحها الحيوية.
ومما يدفـع فـي هذا الإتجاه هو أن الإدارات الأمريكية المختلفة لا تزال خاضعة لتأثير اللوبي النفطي الأمريكي الذي يهيمن على شركات النفط الكبرى، والذي يمتلك تأثيراً كبيرأ مما يدفع بإتجاه خوض مغامرات خارجية لضمان أكبر قدر من التأمين النفطي، وهو ما يصب في النهاية في تدعيم مصالح شركات النفط الأمريكية.
وإذا كان الهدف الرئيس للسياسة الأمريكية في مجال الطاقة هو ضمان حصول إقتصادها على موارد كافية من الطاقة بثمن معقول ولا سيما النفط، إلا أن طبيعة سوق النفط المعولمة والطلب المتزايد على مصادر الطاقة يجعلان من الممكن للأحداث المؤثرة سلباً أو إيجاباً على قطاع الطاقة في أي بلد التأثير على أمن الطاقة في الولايات المتحدة، فعلى سبيل المثال إن مهاجمة أنابيب النفط في نيجيريا والتوتر بشأن برنامج إيران النووي والنمو الإقتصادي السريع في الصين والهند، فضلاً عن الكوارث الطبيعية كلها أمور لها تأثير مباشر على أمن الطاقة العالمي، ومن ثم فإن إتخاذ خطوات لتعزيز أمن الطاقة العالمي هو أفضل طريقة لتعزيز أمن طاقة الولايات المتحدة.
ولعل من تلك الخطوات هو تأسيس (الحوار الإستراتيجي) حول الطاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين في عام 2005 الـذي توصل إليه مساعد وزيـرة الخارجيـة الأمريكية الأسبـق (روبرت زوليك) مع الهيئة الوطنية للتنمية والإصلاح الصينية NDRC والذي تم فيه جعل أمن الطاقة أحد البنود الرئيسية على جدول أعمال المباحثات جنباً إلى جنب مع مسائل أمنية وإقتصادية أخرى. كما أطلقت الولايات المتحدة الأمريكية في عام 2006 الحوار الإستراتيجي الإقتصادي الأمريكي ـــ الصيني، والذي أسسه وزير الخزانة الأمريكي (هنري بولسون)، وتناول الحوار عدداً من القضايا المشتركة لعل أبرزها التعاون في مجال الطاقة.
ومما سبق، يتضح أن إستمرار الإعتماد الأمريكي على إمدادات النفط من الخارج بشكل رئيس أصبح يمثل مشكلة أمن قومي بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، لا سيما وأن إحتياجاتها من مصادر الطاقة مرشحة لأن تكون الأكبر من أي بلد آخر، في الوقت الذي تتجه فيه لآن تصبح في عداد الدول غير المالكة لهذه المواد الاستراتيجية.
اضف تعليق