بعض المراقبين للشأن السياسي وصف موقف العراق هذا من الأزمة بأنه يمثل مسك العصا من المنتصف ويؤشر حالة من الضعف لا تتناسب مع مقومات القوة العراقية سواء المادية أو المعنوية، ويمكن القول، بأنه لا مصلحة للعراق استراتيجياً في أي انقسام أو تصادم بين دول المنطقة وشعوبها...
شهدت منطقة الشرق الأوسط تحولات عديدة تركت تداعياتها على مختلف الأطراف الإقليمية وطريقة تعاملها مع جميع القضايا المؤثرة في المنطقة، إذ برزت مؤشرات على حدوث تحولات جوهرية في طبيعة أدوار القوة الإقليمية وتبدلاً في المصالح الحيوية والقوة الكبرى الفاعلة في النظام الدولي، فطبيعة الأزمات التي تتسم بها المنطقة كرست غياب الثقة بين الأطراف الإقليمية من جهة، وحالة من الإرباك السياسي على مستوى التعامل مع هذه الأزمات من ناحية أخرى، الأمر الذي يفرض على الدول أن تتعامل مع هذه الأزمات وتداعياتها بمنطق التحليل الدقيق لمكامن وعوامل حدوثها.
وقد مثلت الأزمة الخليجية-القطرية حدثاً مهماً ضرب المنظومة السياسية والأمنية والاقتصادية لمجلس التعاون الخليجي، فضلاً عن تداعياتها على أطراف إقليمية أخرى ومنها العراق، ولا يمكن حصر أسباب الأزمة الخليجية-القطرية على خلفية التصريحات التي بثتها وكالة الأنباء القطرية الرسمية التي نسبت إلى أمير قطر تأييده لإيران وحماس وحزب الله، وهو ما نفته الحكومة القطرية سابقاً.
بل يمكن القول، أن وراء الأزمة أبعاداً إستراتيجية مختلفة يمكن إجمالها بما يلي:
قضية دعم الإخوان المسلمين والجماعات الإرهابية التي تعد من القضايا الخلافية الكبرى بين أطراف الأزمة، فالدعم القطري اللامحدود لجماعة الإخوان والجماعات الأخرى التي تصنف بالإرهابية مثل جبهة النصرة المرتبطة بتنظيم القاعدة تعدها أطراف الأزمة الأخرى تهديداً لأمنها واستقرارها.
الإعلام القطري متمثلاً بقناة الجزيرة وانتهاجها سياسة التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى بإتباع مبدأ التضليل والتشتيت الذهني لتحريض الرأي العام العربي على بعض الحكام وحلفاءهم في المنطقة.
العلاقات القطرية-الإيرانية وهي بمثابة العقدة السياسية الأكبر، السعودية والإمارات اللتان ترفضان أي شكل من أشكال التقارب والتعاون مع الجانب الإيراني.
طبيعة العلاقة القطرية-التركية التي تطورت بشكل كبير ونتجت عنها في عام 2014 التوقيع على اتفاقية تسمح بإنشاء قاعدة تركية في قطر.
الدور الإقليمي المتصاعد لقطر، وهو ما عدته السعودية منافساً لدورها المحوري في المنطقة مما يستدعي مواجهته والحد منه.
التنافس والصراع على الغاز القطري، إذ يبلغ احتياطي الغاز في قطر نحو 14% من احتياطي الغاز الطبيعي المكتشف في العالم، مما جعل قطر ثالث أكبر مصدر للغاز الطبيعي في العالم.
طبيعة الدور الأمريكي الذي دفع السعودية إلى تصعيد الأزمة مع قطر سيما بعد زيارة الرئيس الأمريكي ترامب إلى الخليج ونجاحه في عقد صفقة سلاح تقدر بأكثر من 400 مليار دولار مع السعودية، وهو ما أجبر الجانب القطري على عقد صفقة سلاح (حماية) مع الجانب الأمريكي.
لقد انطلقت السياسة الخارجية العراقية في توجهاتها الخارجية ولمواجهة الأزمات الإقليمية والدولية من جملة من الثوابت الدستورية والقانونية والتي بدورها وضعت ضوابط وآليات للتعامل العراقي الخارجي، ولعل أهم تلك المنطلقات:
- استقلالية القرار السياسي الخارجي العراقي وعلوية المصالح القومية للعراق.
- الابتعاد عن سياسات التحالفات العدائية في إطار الدائرة الإقليمية.
- نبذ سياسة المحاور والاستقطاب في المنطقة التي تعاني أصلاً من تصارع وتنافر بين المحاور الإقليمية المختلفة، مما ينعكس سلباً على مصالح العراق الداخلية والخارجية.
- رفض الصراعات والحروب كآلية لتسوية الخلافات بين الدول الإقليمية واعتماد منطق السلم والحوار الدبلوماسي البناء من أجل حلحلة تلك الخلافات.
- عدم التدخل في الشؤون الداخلية في الدول الأخرى كأساس جوهري تبنى عليه السياسة الخارجية العراقية في الدائرتين الإقليمية والدولية.
وفي ضوء ما تقدم، فقد انطلق العراق في توجهاته السياسية الخارجية من التأكيد على مبادئ حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، إذ جاء في المادة (8) من الدستور العراقي: (يراعي العراق مبدأ حسن الجوار ويلتزم بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى ويسعى لحل النزاعات بالوسائل السلمية، ويقيم علاقاته على أساس المصالح المشتركة، والتعامل بالمثل، ويحترم التزاماته الدولية)، ولا شك في أن هذه الثوابت أصبحت تتحكم في مسار السياسة الخارجية العراقية سواء على المستوى الإقليمي أو الدولي.
وقدر تعلق الأمر بالأزمة القطرية، فقد أعلن العراق موقفه منها بأنه ضد الحصار على أي دولة حتى وإن كانت لا يتفق معها -في إشارة إلى مقاطعة السعودية ودول أخرى لقطر-، إذ دعا رئيس مجلس الوزراء العراقي حيدر العبادي في 13/6/2017 إلى ضرورة أن: "يتم وقف الدعم للإرهاب من أي جهة أو أي دولة كانت"، وأضاف: "إن قرار العراق السياسي مستقل وعلاقاته الخارجية مبنية على تغليب المصلحة العليا للعراق وشعبه والابتعاد عن التشنجات والمحاور وكسب الأصدقاء بدلا عن زيادة الأعداء".
وعلى الرغم من أن بعض المراقبين للشأن السياسي وصف موقف العراق هذا من الأزمة بأنه يمثل مسك العصا من المنتصف ويؤشر حالة من الضعف لا تتناسب مع مقومات القوة العراقية سواء المادية أو المعنوية، ويمكن القول، بأنه لا مصلحة للعراق استراتيجياً في أي انقسام أو تصادم بين دول المنطقة وشعوبها فالخلافات والصدامات لم تنفع أحداً ولم تؤدي لانتصار طرف على آخر بل ستنتفع منها الأطراف الخارجية التي ستوظفها لصالح تحقيق مصالحها العليا.
ومن هنا، انطلق العراق في موقفه السياسي الخارجي في تعامله مع الأزمة الخليجية - القطرية وفقاً لعدة مبادئ أهمها:
- اعتماد سياسة خارجية مستقلة من خلال الابتعاد عن أي موقف متخندق مع أي طرف من أطراف الأزمة، فالعراق اتجه نحو خيار حاول من خلاله الحصول على بعض المكتسبات من خلال توظيف الخلاف بين النقائض الخليجية وإدارة دفة الأزمة بما يتلائم مع الأهداف السياسية العراقية.
- النظر إلى الأزمة القطرية من منظار تقسيم المواقف والتوجهات، إذ تعامل العراق مع كل طرف بتوجه يختلف عن تعامله مع الأطراف الأخرى، وهو ما أعطى مجالاً للمناورة الإستراتيجية لحلحلة المواقف من الأزمة بما ينسجم وأهداف السياسية الخارجية العراقية.
- أدرك العراق أن نجاح المحور السعودي في إرغام قطر على الخضوع يشكل تهديداً كبيراً على مصالحه الوطنية، إذ قد تتبع السعودية وحلفائها السياسة نفسها حيال العراق، ومن ثم سعى العراق إلى أن تخوض أطراف الأزمة ما يمكن تسميته بالاحتواء المزدوج فيما بينها وهو ما سينعكس إيجاباً على العراق.
- إن استمرار العراق بسياسة احتواء أطراف الأزمة من شأنه أن يوسع دوره في المنطقة المرتبكة استراتيجياً نتيجة تخلخل موازين القوى وإمكانية بروز العراق كقوة حاملة لميزان التوازن والاستقرار في المنطقة، وهو ما يعني نقل ساحة الصراع الإقليمي الدائرة في العراق نحو الخارج وكسر حاجز سياسة رد الفعل وتبني سياسة المبادرة والتأثير بأسلوب استراتيجي مؤثر.
وعليه، وفي ظل ارتباك الوضع الإقليمي وتعدد أزماته، يمكن القول: إن الحنكة السياسية الدبلوماسية العراقية تستوجب فرضية عدم استعداء أي طرف إقليمي والشروع بمرحلة انفتاح دبلوماسي إقليمي على دول الإقليم عموماً، وعلى المنظومة العربية والخليجية تحديداً، فمن منطق الحكمة في الاستثمار السياسي أن يكون موقف العراق متوازناً مراعياً بين ثوابته الدستورية ومصالحه الوطنية العليا، وأن تكون لديه الإرادة التامة في لعب دور الوسيط إذا ما طلب أحد أطراف الأزمة ذلك صراحة مع عدم اعتراض الطرف الآخر، إذ أن المقبولية لأطراف الأزمة فضلاً عن الحيادية من العوامل المهمة لإنجاح جهود الوساطة.
وعليه، فقد استطاع العراق من تحقيق بعض المكتسبات الاقتصادية نتيجة للموقف العراقي من الأزمة الخليجية - القطرية أهمها التحولات الكبيرة التي شهدتها العلاقات العراقية - السعودية إذ أدركت السعودية أن العراق يتجه نحو مرحلة تأريخية جديدة تحتم عليها توطيد علاقاتها السياسية مع العراق كدولة وليس مكونات أو طوائف، ووضع موطأ قدم لها في العراق من بوابة القوة الناعمة، وهو ما تجسد في تأسيس مجلس التنسيق الاستراتيجي بين البلدين للارتقاء بالعلاقات وفتح آفاق جديدة في مختلف المجالات بما في ذلك السياسية والأمنية والاقتصادية والتنموية والتجارية والاستثمارية والسياحية والثقافية وتنشيط الشراكة بين القطاع الخاص بالبلدين.
فضلاً عن ذلك شهدت العلاقات العراقية - القطرية انفتاحاً كبيراً عبر زيارات متكررة بين مسؤولي البلدين، وترحيب قطر بالانتصارات العسكرية العراقية على تنظيم داعش الإرهابي واستعداد قطر للتعاون مع العراق في جميع المجالات.
وهنا يمكن القول، أن العراق في سياسته تجاه الأزمة القطرية نجح في الحفاظ على حالة الإنفتاح في العلاقات مع المملكة العربية السعودية والعمل على تعزيزها سيما وأنها الطرف الرئيس وقائد محور المقاطعة لقطر ويمكن ملاحظة ذلك النجاح في الزيارات المتبادلة بين البلدين وطبيعة الاتفاقيات الموقعة بينهما سيما الزيارة الأخيرة التي قام بها رئيس مجلس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي إلى السعودية في نيسان 2019، فضلاً عن ذلك، فإن موقف العراق الثابت والمراعي لمصلحته الوطنية ونهجه الدستوري دعا قطر للانفتاح بصورة أكبر تجاه العراق وتقديم خيارات الدعم والإسناد للعراق كدولة وهو ما يمثل انتقالاً نوعياً في السلوك السياسي الخارجي القطري حيال العراق لم نشهده من قبل. ولا شك فإن تلك المواقف المتخذة سوف تعزز من محورية مكانة العراق الإقليمي في مجاله العربي من ناحية، والمحافظة على علاقات متوازنة وإيجابية مع إيران من ناحية أخرى.
ولا شك فإن استمرارية السياسة الخارجية العراقية بهذا النهج والسلوك الخارجي يتوقف على ثلاث متغيرات رئيسة هي:
1- طبيعة الوضع الداخلي العراقي من حيث تكريس مبدأ الديمقراطية التوافقية والمحاصصة السياسية، وتباين الطروحات الفكرية والإيديولوجية والرؤى بين القوى والأحزاب السياسية أدى إلى تباين المواقف حيال العديد من الأزمات الإقليمية، وإنطلاقاً من أن السياسة الخارجية هي إمتداد للسياسة الداخلية مما يتطلب توحيد الجبهة الداخلية وضرورة الموازنة بين منهج الدولة الثابت ومراعاة الخصوصية السياسية لهذه القوى في سبيل كسب الأطراف الإقليمية والدولية للحصول على الدعم اللازم الذي يحتاجه العراق مستقبلا.
2- طبيعة الوضع الإقليمي الذي يمثل ساحة جيبوليتيكية لصراع الإرادات الدولية وتنافس القوى الإقليمية سعياً لصيرورة عالم ما بعد سايكس بيكو، فما يجري في الإقليم يمثل منهج ورؤية الفاعلين الدوليين الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد الروسي، مع تقارب مصلحي فلسفي إقليمي إيراني سعودي مما يجعلنا أمام صورة صراع، أزمة، حرب وكالة بين هذين الفاعلين الإقليميين، إذ كل منهما يمثل منهج ومصلحة ورؤية دولية وأن كانت جذور الصراع تتراوح بين بسط النفوذ تارة وبين توظيف الفكر المذهبي تارة أخرى.
3- الوضع الدولي الذي يمثل حالة من الاستقطاب الشديد التي يتسم بها النظام الدولي بين معسكر الولايات المتحدة ومن يسانده في المنطقة، ومعسكر روسيا وحلفائها الذي أصبح حقيقة لا يمكن نكرانها، وهو ما له آثار سلبية على الوضع الداخلي لدول المنطقة عموماً وعلى العراق تحديداً مما يستدعي من صانع القرار السياسي الخارجي العراقي اعتماد منهج الوسطية في القرار الخارجي وعدم الاصطفاف أو التمحور في أي من سياسات المحاور في المنطقة، فلدى العراق خلافات ومشاكل مع دول المنطقة وأن سياساته يجب أن لا تبنى على هذه الخلافات وإنما العلاقات يجب أن تبنى على أساس المشتركات وهي كثيرة والانطلاق منها لتوسيع المساحات المشتركة والمنافع المتبادلة التي تسمح بحل الخلافات لاحقاً.
اضف تعليق