في إنجاز غير مسبوق، نجح فريق علماء من منشأة توليد تفاعلات الاندماج النووي الأضخم عالميًا في تحقيق الظاهرة المعروفة باسم "الإشعال"؛ إذ تمكَّنوا من استحداث تفاعلٍ نووي يُولِّد طاقةً تفوق كمًا الطاقة المستهلكة به. وعلى مستوى العالم، عمَّت فرحة وحماس غامرين أرجاء الأوساط العلمية المتخصصة في أبحاث الاندماج النووي...
بقلم: جيف توليفسون وإليزابيث جِيبني
في إنجاز غير مسبوق، نجح فريق علماء من منشأة توليد تفاعلات الاندماج النووي الأضخم عالميًا في تحقيق الظاهرة المعروفة باسم "الإشعال"؛ إذ تمكَّنوا من استحداث تفاعلٍ نووي يُولِّد طاقةً تفوق كمًا الطاقة المستهلكة به. وعلى مستوى العالم، عمَّت فرحة وحماس غامرين أرجاء الأوساط العلمية المتخصصة في أبحاث الاندماج النووي، إزاء نتائج هذا الإنجاز العلمي الهائل، الذي أحرزته منشأة الإشعال الوطنية الأمريكية في الخامس من ديسمبر الماضي، وأعلنت عنه إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن. وتهدف دراسة الفريق إلى تسخير طاقة تفاعلات الاندماج النووي – تلك الظاهرة التي تمد الشمس بالطاقة – من أجل توفير مصدر لا ينضب تقريبًا للطاقة النظيفة على كوكب الأرض. بيد أن الباحثين يُنوِّهون إلى أنه رغم ما تحقَّق مؤخرًا من نجاح، فلا يزال بلوغ هذا الهدف يتطلب قطع شوط طويل آخر.
في ذلك الصدد، يقول مارك هيرمان، نائب مدير أبحاث الفيزياء الأساسية المعنية بالأسلحة في مختبر لورانس ليفرمور الوطني بولاية كاليفورنيا الأمريكية، الذي يضم تحت لوائه مختبر الاندماج النووي المذكور: "إنه لإنجازٌ مذهل!". وتأتي هذه التجربة الفارقة بعد سنواتٍ من جهود بحثية بذلتها فِرَقٌ متعددة وغطت جميع جوانب التجربة، بدءًا من التقنيات الليزرية والبصرية، وصولًا إلى وضع الأهداف والنماذج الحاسوبية، حسبما يفيد هيرمان الذي أردف قائلًا: "هذا بالطبع هو ما نحتفي به".
وتُعد منشأة الإشعال الوطنية الأمريكية المرفق التجريبي الرئيس لمشروعات برنامج الأسلحة النووية التابع لوزارة الطاقة الأمريكية، والذي صُمِّم من أجل دراسة الانفجارات النووية الحرارية المولِّدة للطاقة. وقد هدفت المنشأة في الأساس إلى تحقيق ظاهرة الإشعالٍ بحلول عام 2012، وقد واجهت نقدًا بسبب بطء خطاها في هذه المهمة وتجاوزها التكاليف المُحددة لها. وكان علماء المنشأة قد أفادوا في أغسطس من عام 2021 أنهم استخدموا جهاز ليزر عالي الطاقة من ابتكارهم في توليد تفاعل حطم الأرقام القياسية؛ إذ تخطى عتبةً حرجة على طريق تحقيق الإشعال، لكن تكرار هذه التجربة، أو هذه المحاولة إن صح التعبير، في الشهور التالية لم يُكلَّل بالنجاح. وفي نهاية المطاف، نبذ العلماء هذه المساعي، وأعادوا النظر في تصميم التجربة. وقد حصدوا أخيرًا ثمار هذا التوجُه الجديد الأسبوع الماضي.
فيقول مايكل كامبل، المدير السابق لمختبر تفاعلات الاندماج بجامعة روتشِستر في نيويورك وأحد أوائل المؤيدين لأبحاث منشأة الإشعال الوطنية الأمريكية إبان عمله بمختبر لورانس ليفرمور: "استبعد الكثيرون إمكان تحقيق هذا الإنجاز. لذا، على الصعيد المقابل، أشعر أنا وآخرون ممن ثابروا على التحلي بالثقة في هذا العمل البحثي بنشوة الانتصار. واليوم، ينضم إليّ العالم بأسره في الاحتفاء بهذا الإنجاز ".
من هنا، تُسلِّط دورية Nature الضوء على نتائج آخر تجربة أجرتها المنشأة في هذا الصدد، وما تحمله من مدلولاتٍ لعلوم الاندماج النووي.
ما الذي حققته منشأة الإشعال الوطنية الأمريكية؟
استخدمت المنشأة جعبة أدواتها المؤلفة من 192 جهاز ليزر لنقل 2.05 ميجا جول من الطاقة لأسطوانةٍ ذهبية بحجم حبة البازلاء تحتوي على كُرية متجمدة من نظيري هيدروجين مشعين، وهما الديوتيريوم والتريتيوم. وقد أدت دفقات الطاقة تلك إلى انهيار تلك الكبسولة الصغيرة، منتجةً درجات حرارةٍ لا تتولد إلا في النجوم والأسلحة النووية الحرارية، إذ اندمج نظيرا الهيدروجين لتكوين الهيليوم، ما أدى إلى إطلاق طاقةٍ إضافية وإنتاج سلسلة من تفاعلات الاندماج المتتابعة. ويُشير التحليل المختبري إلى أن التفاعل أطلق نحو 3.15 ميجا جول من الطاقة. وهو ما يتجاوز مقدار الطاقة التي استهلكها التفاعل بنسبة 54% تقريبًا، وما يعادل ضعفي الرقم القياسي السابق الذي بلغ 1.3 ميجا جول.
حول ذلك، يقول كامبل: "الجهود البحثية في مجال تفاعلات الاندماج النووي متواصلة منذ أوائل خمسينات القرن العشرين، وهذه هي المرة الأولى تنتِج فيها تفاعلات الاندماج في المختبر قدرًا من الطاقة يفوق تلك التي يستهلكها".
لكن تجدر الإشارة إلى أنه في حين أن تفاعلات الاندماج ربما تكون قد أنتجت ما يزيد على 3 ميجا جول من الطاقة، وهو قدر من الطاقة يربو على الطاقة التي وجهتها أجهزة الليزر المُستخدمة إلى الهدف في التجربة، استهلكت أجهزة الليزر، وعددها 192 جهازًا، ما يعادل 322 ميجا جول من الطاقة في هذه العملية. ومع ذلك، تستحق التجربة بأن تُوصف بأنها "إشعالٌ"، وهو مقياسٌ مرجعي لتفاعلات الاندماج يركز على مقدار الطاقة التي يُزوَّد بها الهدف مقارنةً بمقدار الطاقة المتولدة منه.
وتعقيبًا على هذا الحدث، يقول ديف هامر، اختصاصي الهندسة النووية من جامعة كورنيل في مدينة إيثاكا في نيويورك: "هذا الإنجاز يُعد محطة بارزة على هذا الطريق، لكن منشأة الإشعال الوطنية الأمريكية ليست مصنعًا لتوليد طاقة تفاعلات الاندماج".
ويتفق معه في الرأي هيرمان، الذي يُشير إلى أن ثمة الكثير من الخطوات التي يجب أن تُقطَع قبل الوصول إلى توليد طاقة اندماج بأشعة الليزر. فيقول: "لم تُصمَّم منشأة الإشعال الوطنية الأمريكية لاستخدام الطاقة بكفاءة، وإنما صُمِّمت لتكون بمثابة أضخم جهاز أشعة ليزر قد يتسنى لنا بناؤه، كي يمدنا بالبيانات التي نحتاج إليها في برنامج [نووي] لأبحاث احتياطي الطاقة.
ولتحقيق الإشعال، أدخل علماء منشأة الإشعال الوطنية الأمريكية تعديلات عديدة على تجربتهم قبل الدفقة الليزرية الأخيرة، وذلك بالاستناد جزئيًا إلى تحليل نتائج التجارب التي أُجريت العام الماضي، وإعداد نماذج حاسوبية لها. وإضافةً إلى رفع مقدار الطاقة الليزرية المُستخدمة بنحو 8%، صمَّم العلماء هدفًا بعددٍ أقل من العيوب، كما عمدوا إلى ضبط الآلية التي يُزوِّدون من خلالها الهدف بالطاقة من أجل تحقيق انفجار داخلي أقرب إلى استدارة. إذ فطن الفريق إلى أن هذه العملية تقترب من تحقيق إشعال إندماجي، وفي منظومة كهذه، حسبما يقول هيرمان: "يمكن أن تصنع التغييرات البسيطة فارقًا كبيرًا".
لم تُعد هذه النتائج مهمة؟
أولًا، يتعلق الأمر بالخروج بإثبات للآفاق المحتملة. ومن هذا المنطلق، أشاد كثير من العلماء بالنتيجة معتبرين إياها إنجازًا فارقًا في علم تفاعلات الاندماج النووي. لكن النتائج تحمل مدلولًا لمنشأة الإشعال الوطنية الأمريكية بالأخص، فقد صُمِّمت المنشأة لمساعدة علماء الأسلحة النووية على دراسة ما تنطوي عليه الانفجارات من حرارة شديدة وضغوط هائلة، ولا يمكن أن يسنح هذا ما لم تُنتِج المنشأة تفاعلات اندماج عالية المردود.
وقد استغرق تحقيق ذلك أكثر من عقدٍ من الزمان، لكن، كما يضيف ستيفن بودنر، عالم الفيزياء الذي تولى سابقًا رئاسة برنامج توليد تفاعلات الاندماج بأشعة الليزر في مختبر أبحاث البحرية الأمريكية في العاصمة الأمريكية واشنطن: يستحق الفريق الثناء لأنه بلغ هدفه". ويرى بودنر أن السؤال الأهم في الوقت الحالي يتمحور حول ما تعتزم وزارة الطاقة الأمريكية تحقيقه في الخطوة التالية؛ فهل سيتضاعف حماسها لأبحاث الأسلحة في منشأة الإشعال الوطنية الأمريكية، أم ستتجه إلى برنامج ينصب تركيزه على أبحاث توليد طاقة تفاعلات الاندماج بأشعة الليزر؟
ما مدلولاتُ هذا الإنجاز فيما يخصُّ طاقة الاندماج؟
في حقيقة الحال، جدَّدت النتائج الأخيرة الشعور بالحماس إزاء مستقبل يعتمد على طاقة الاندماج النظيفة، لكن الخبراء ينبِّهون إلى أن المشوار لا يزال طويلًا.
فجديرٌ بالذكر أن منشأة الإشعال الوطنية الأمريكية لم تُصمَّم من أجل استغلال طاقة تفاعلات الاندماج النووية تجاريًا. من هنا، يتشكك كثير من الباحثين في إمكان أن يصبح توليد طاقة تفاعلات الاندماج النووي بأشعة الليزر النهج المتبع في نهاية المطاف لإنتاج هذا النوع من الطاقة. بيد أن كامبل يرى أن النجاح الأخير الذي حققته المنشأة يمكن أن يعزز الثقة في إمكانية تحقيق الآمال المعقودة على توليد طاقة الاندماج بأشعة الليزر، ويفتح الباب أمام برنامجٍ ينصب تركيزه على تطبيقات الطاقة. فيقول كامبل: "هذا ضروري للغاية إذا أردنا أن نحظى بالمصداقية اللازمة للترويج لبرنامجٍ طاقة".
ومن جانبها، تصف كيم بوديل، مديرة مختبر لورانس ليفرمور هذا الإنجاز بأنه إثبات لصحة المبدأ الذي تقوم عليه التجربة. ففي تصريح في مؤتمر صحفي عُقد في واشنطن، قالت: "لا أريد أن أخلق انطباعًا بأننا سنستغل منشأة الإشعال الوطنية الأمريكية في توليد الكهرباء. في الواقع، هذه ليست الطريقة التي يمكن القيام بها بذلك. لكن ما تحقَّق يُعد أساسًا لتطوير خطة لتوليد طاقة تفاعلات الإندماج عبر حصر البلازما بالقصور الذاتي".
وثمة العديد من التجارب الأخرى لتوليد طاقة تفاعلات الاندماج على مستوى العالم. ويحاول القائمون عليها توليد تفاعلات اندماج من أجل استخدامها في تطبيقات الطاقة باستخدام نُهُجٍ مختلفة، لكن تبقى التحديات الهندسية قائمة، وأحدها تصميم وبناء محطاتٍ نووية قادرة على استخلاص الحرارة التي تَنتج عن تفاعلات الاندماج واستخدامها في توليد كمياتٍ كبيرة من الطاقة التي يمكن تحويلها إلى كهرباء قابلة للاستعمال.
في هذا السياق، جدير بالذكر أنه في تصريحٍ لمركز الإعلام العلمي، قال توني رولستون، الباحث في مجال الطاقة النووية من جامعة كامبريدج في المملكة المتحدة: "صحيحٌ أن هذه الأخبار إيجابية، لكن النتائج التي أُسفر عنها ما زالت تفصلها مسافة بعيدة عن تحقيق القدر الفعلي المطلوب من الطاقة لإنتاج الكهرباء".
ومع ذلك، حسبما تقول آن وايت، اختصاصية فيزياء البلازما من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في كامبريدج: "لا شك أن تجارب منشأة الإشعال الوطنية الأمريكية التي تنصب على توليد طاقة تفاعلات الاندماج تُعد ذات أهمية كبيرة لتحقيق استفادةٍ تجارية من هذا النوع من الطاقة".
ما الإنجازات الكبرى المتوقعة في مجال تفاعلات الاندماج النووي؟
إذا أردنا البرهنة على أن نوع الاندماج النووي الخاضع للدراسة بمنشأة الإشعال الوطنية الأمريكية يمكن أن يخدم كطريقة عملية ومجدية لإنتاج الطاقة، فنحن بحاجةٍ إلى رفع كفاءة مردوده، ويُقصد بذلك زيادة مقدار الطاقة المنتَجة مقارنة بالطاقة التي تُستهلَك في إنتاج نبضات الليزر، بما لا يقل عن قيمتين أُسيتين.
كما سيحتاج الباحثون أيضًا إلى إحداث زيادةٍ كبيرة في المعدل الذي يمكن به لأشعة الليزر إنتاج نبضاتها ومقدار السرعة التي يمكن بها تنقية الغرفة المستهدفة من أجل تهيئتها لإشعال آخر، حسبما أدلى به تيم لوس، رئيس الشؤون العلمية والعمليات بالمفاعل النووي الحراري التجريبي الدولي (ITER)، وهو مشروع دولي للاندماج النووي لا يزال قيد الإنشاء في سان بول لي دورانس، في فرنسا.
أما وايت، فتقول: "سيكون تكرار إنتاج طاقة اندماجٍ كافيةٍ إنجازًا كبيرًا يُثير الاهتمام".
والمفاعل النووي الحراري التجريبي الدولي، هو مشروع بحثي مشترك بين الصين، والاتحاد الأوروبي، والهند، واليابان، وكوريا، وروسيا، والولايات المتحدة، ويهدف إلى توليد تفاعلات اندماج تُستحدث من تلقاء ذاتها، بمعنى أن الطاقة المُنتَجة من الاندماج تُنتِج مزيدًا من الاندماج، عبر تقنية تختلف عن نهج "حصر البلازما بالقصور الذاتي" الذي تتَّبعه منشأة الإشعال الوطنية الأمريكية". إذ من المزمع أن يحتجز هذا المفاعل بلازما الديوتيريوم والتريتيوم في غرفةٍ مُفرَّغة حلقية (أجهزة توكاماك)، وأن يُسخنها إلى أن تندمج أنوية الديوتوريوم والتريتيوم. وعندما يبدأ المفاعل عمله في عام 2035، سيهدف إلى بلوغ مرحلة "الاشتعال"، حسبما توضح لوس، "حيث ستكون طاقة التسخين الذاتي هي المصدر الأساسي للتسخين". وهذا الاندماج الذاتي هو مفتاح إنتاج كمياتٍ من الطاقة تفوق الكميات المستهلكة في التفاعل.
ما مدلولاتُ ذلك لتجارب الاندماج الأخرى؟
تقوم فكرة منشأة الإشعال الوطنية الأمريكية والمفاعل النووي الحراري التجريبي الدولي على تقنيات الاندماج النووي، وهما اثنان فقط من ضمن جملة مشروعات كثيرة مماثلة قيد التنفيذ على مستوى العالم. ومن بين النُهُج المُتَّبعة لتوليد هذا النوع من الطاقة الحصر المغناطيسي للبلازما، الذي تستخدمه أجهزة التوكاماك والستيلاراتور، وحصر البلازما بالقصور الذاتي الذي تستخدمه منشأة الإشعال الوطنية الأمريكية، ومزيجٍ من كلا النهجين.
عن ذلك، تقول وايت إن التقنية المطلوبة لتوليد الكهرباء من تفاعلات الاندماج مختلفة إلى حد كبير عن المفهوم الذي تقوم عليه تلك المشروعات، والإنجاز الأخير الذي تحقَّق لن يدفع بالضرورة الباحثين إلى التخلي عن هذا المفهوم أو تأكيده.
وتختلف التحديات الهندسية التي تواجهها منشأة الإشعال الوطنية الأمريكية عن تلك التي يواجهها المفاعل النووي الحراري التجريبي الدولي وغيره من المنشآت. لكن ما يرمز له هذا الإنجاز يمكن أن تكون له تأثيراتٌ واسعة النطاق. وهو ما يوضحه لوس قائلًا: "إن النتيجة التي تحققت يمكن أن تُعزز الاهتمام بتطوير جميع أنواع تقنيات توليد طاقة الاندماج. لذا، من المؤكد أن لها تأثير إيجابي في أبحاث الاندماج بوجه عام".
اضف تعليق