بعد أكثر من سنتين من انخفاض أسعار النفط خرجت علينا الأمانة العامة لمنظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) في 2016 بتقريرها السنوي "توقعات النفط العالمي 2016" الذي سندعوه اختصارا "التقرير"، والذي ظهر في وقت يشير إلى نوع من التعافي في السوق رغم أن الأسعار الحالية ما زالت نصف ما كانت عليه قبل 2014، اذ قفزت أسعار النفط أكثر من واحد بالمئة مدعومة بهبوط غير متوقع في مخزونات الخام الأمريكية وبيانات من وكالة الطاقة الدولية تظهر أن خفض إنتاج منظمة أوبك ربما يدفع سوق النفط إلى تسجيل عجز في النصف الأول من 2017.
وأظهرت بيانات من إدارة معلومات الطاقة الأمريكية أن مخزونات الخام في الولايات المتحدة انخفضت الأسبوع الماضي بعد ارتفاعها على مدى تسعة أسابيع متتالية، وتراجعت المخزونات 237 ألف برميل في الأسبوع المنتهي في العاشر من مارس آذار في حين توقع المحللون ارتفاعها 3.7 مليون برميل، ومما أثر سلبا على المعنويات أيضا صدور تقرير وكالة الطاقة الدولية التي ذكرت فيه إن المخزونات العالمية ارتفعت للمرة الأولى في ستة أشهر رغم تخفيضات إنتاج أوبك لكنها أوضحت أنه إذا واصلت أوبك تقييد الإمدادات فإن السوق قد تشهد عجزا قدره 500 ألف برميل يوميا في النصف الأول من 2017.
وزادت العقود الآجلة لخام القياس العالمي مزيج برنت أكثر من دولار عن إغلاق يوم الثلاثاء إلى أعلى مستوى لها في الجلسة عند 52.08 دولار للبرميل، وارتفع برنت 63 سنتا أو 24,1 بالمئة إلى 51.55 دولار للبرميل بعدما هبط خلال الجلسة السابقة إلى أدنى مستوياته في أكثر من ثلاثة أشهر عند 50.25 دولار للبرميل، وأفادت منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) في نهاية نوفمبر تشرين الثاني إنها ستخفض الإنتاج بواقع 1.2 مليون برميل يوميا خلال النصف الأول من 2017 وذكرت أن منتجين من خارج المنظمة سيخفضون الإنتاج بنحو 600 ألف برميل يوميا
السكان والاقتصاد والأسعار
يفترض التقرير زيادة سكان العالم من 7.3 إلى 9.07 مليارات نسمة بحلول 2040 وأن معظم النمو في نفوس الدول النامية حيث الحاجة الكبيرة للطاقة والنفط، كما أن من المتوقع أن ينمو الاقتصاد العالمي 3.1% سنويا، وأن تنمو الدول النامية بدرجة أعلى من الدول المتقدمة. وافترض التقرير أن سياسات الطاقة هي تلك المعتمدة والمعلنة حاليا، وأنها ستتطور بمرور الزمن، خاصة من حيث تخفيض انبعاثات الغازات الدفيئة والتوجه نحو الطاقات المتجددة في توليد الكهرباء.
لكن أهم الافتراضات يتعلق بسعر النفط، حيث يفترض التقرير أن السعر سيصل إلى 65 دولارا للبرميل اسميا في عام 2021 أو ستين دولارا بالسعر الحقيقي، ولكن في 2040 سيكون السعر الاسمي 155 دولارا والحقيقي 92 دولارا للبرميل، هذا الافتراض ليس خارج المألوف، إذ علينا أن نتذكر أن السعر بلغ 140 دولارا قبل بضع سنوات. ويحذر التقرير من أن هذا "افتراض عملي" وليس مسارا محبذا أو ما سيتحقق فعلا من خلال المتغيرات في وضع السوق عالميا.
الطلب العالمي على الطاقة
بموجب الافتراضات السابقة يقدر التقرير أن الطلب العالمي على الطاقة سوف يرتفع من 273.9 إلى 382.1 مليون برميل نفط مكافئ في 2040 بنسبة نمو 1.3% في السنة، وأن النفط والغاز سيحافظان على نسبتهما الكلية البالغة 53% حاليا، وكما هو متوقع ستكون نسبة نمو الطلب على الغاز 2.1% بالسنة أي أكثر من نسبتي نمو النفط والفحم البالغة 0.6% لكل منهما، وإن نسبة نمو الطاقات المتجددة من الشمس والريح والحرارة الجوفية ستكون 6.6% الأعلى بين الكل لأن التوجه نحو هذه الطاقات لتوليد الكهرباء لم يعد نزوة أو خيالا.
ويبقى التقرير إيجابيا بالنسبة لنمو الطلب على النفط، إذ يتوقع ارتفاعه إلى 99.2 مليون برميل يوميا في عام 2021 أي بزيادة مليون برميل عما كان متوقعا في العام الماضي بفعل استمرار انخفاض أسعار النفط، وسيستمر الارتفاع إلى 109.4 ملايين برميل يوميا في 2040 وهو ما ينقص عن توقعات العام الماضي قليلا بفعل مزاحمة الطاقات المتجددة والكهرباء، وفي الفترة المبحوث عنها سينخفض الطلب في الدول الصناعية بمقدار 8.9 ملايين برميل يوميا بسبب زيادة كفاءة استهلاك السيارات وزيادة أعدادها المعتمدة على الوقود البديل من كهرباء وغاز وسوائل عضوية.
وفي المقابل، سيرتفع الطلب في الدول النامية 24.6 مليون برميل يوميا بسبب نمو اقتصادي أعلى وتوجه هذه الدول نحو التمدن ورغبة السكان باقتناء وسائط النقل الخاصة رغم أن زيادة كفاءة الاستهلاك ستصل إلى هذه البلاد ولو بدرجة أقل مما في الدول الصناعية، وبناء على ما تقدم يقول التقرير إن إنتاج أوبك سيكون مستقرا نوعا ما من 2019 إلى 2025 بين 33.6 و33.8 مليون برميل يوميا، ثم يزداد باطراد بعد ذلك ليصل إلى 41 مليون برميل يوميا في 2040 حيث تكون حصة أوبك في العرض 37% أو بزيادة 3% عما هي عليه الآن، وهذه نتيجة مفاجئة للكثيرين. هذه الصورة الإيجابية أو وسط الطريق أو الحالة الأساس التي يعطيها لنا التقرير يمكن أن تتغير سلبا أو إيجابا بفعل حركية الافتراضات في عالم تسوده المشاكل الاقتصادية والسياسية، حيث ليس هناك من يتنبأ بالمستقبل بدرجة عالية من اليقين، لذا يخصص التقرير فصلا كاملا لمناقشة التحديات والفرص التي تواجه سوق النفط.
وتمثل اتفاقية باريس بشأن التغير المناخي وتحديد انبعاث الغازات الدفيئة -خاصة ثاني أكسيد الكربون- تحديا كبيرا لأسواق الطاقة والنفط منها، وبينما أخذت الحالة الأساس تعهدات الدول المعلنة بالحسبان فإن من المحتمل أن تقوم بعض الدول بما هو أكثر أو أقل من تعهداتها، إضافة إلى أن دولا أخرى قد تلحق بالركب وتتبنى سياسات بيئية متشددة، وإن المساهمات الوطنية المتوخاة بالنسبة للدول المشاركة في تخفيض انبعاثات غازات الدفيئة من الممكن أن تتحقق "بتحسين كفاءة استخدام الطاقة وتخفيض الانبعاثات من خلال تغيير أنواع الطاقة أو من خلال توسيع ما يمكن خزنه في الأرض"، وهذه كلها ستؤدي إلى خفض استهلاك الطاقة والنفط.
ويذكر التقرير إن هذه الاحتمالات قد تؤدي إلى انخفاض الطلب على الطاقة في عام 2040 بما بين 11 و27 مليون برميل نفط مكافئ يوميا من 382 مليونا بالحالة الأساس، وإن كل الخفض سيكون من الوقود الأحفوري، خاصة من الفحم والغاز في توليد الكهرباء، أما الطلب على النفط فقد ينخفض بما بين 2.5 و11 مليون برميل يوميا من مستوى 109 ملايين في الحالة الأساس بموجب تحسن أكبر في كفاءة الأداء واستحواذ السيارات الكهربائية والغازية على حصة أكبر في السوق، إضافة إلى زيادة استهلاك الوقود المتجدد كالإيثانول والديزل العضوي.
ففي الولايات المتحدة فقط يزداد حجم الوقود المتجدد الذي يجب مزجه قانونا سنة بعد أخرى، حيث إن "18.11 مليار غالون كانت الحد الأدنى لسنة 2016 وإنها طفرة كبيرة من 16.93 مليار غالون المقرة في 2015" أي من 1.1 إلى 1.18 مليون برميل يوميا، ويضيف التقرير إن انخفاض أسعار النفط منذ 2014 قد "أدى إلى انخفاض واضح في الاستثمارات في عموم الصناعة النفطية"، حيث كان الانخفاض في 2015 ما يقرب من 25% مقارنة بـ2014 وإن 20% إضافية مقدرة في 2016. وقد يؤدي ذلك إلى نمو أكبر في الطلب وأقل في العرض أو دورة من الانتعاش والكساد، وهذا "غير محبذ من المنتجين والمستهلكين".
عدم اليقين بخصوص وضع الاقتصاد
إن وضع الاقتصاد العالمي يحمل بين طياته درجة من عدم اليقين بموجب مشاكله الحالية وتوقعات النمو المتواضعة، إلا أنه في الوقت نفسه "يعطي مؤشرات إيجابية، خاصة في المدى المتوسط"، حيث الإصلاحات في الصين والهند وغيرهما "يمكن أن تعزز النمو وينسحب ذلك إيجابيا في مناطق أخرى" وعلى الطلب على النفط تبعا لذلك، كما أن حل المشاكل السياسية -خاصة في مناطق الإنتاج- سيعزز النمو الاقتصادي والطلب على النفط، طبعا لا يبدو ذلك سهلا ولكن يبقى الأمل، وحتى العرض من خارج أوبك يكتنفه عدم اليقين كغيره سلبا أو إيجابا، وقد يكون ذلك نتيجة لواقع الاستثمار وتغير كلف الإنتاج والتقنية إضافة إلى العوامل السياسية، ولنا من تطور إنتاج النفط الصخري في الولايات المتحدة مثال واضح عما يمكن أن تفعله القفزات التقنية.
ويستخلص التقرير أن الإنتاج خارج أوبك قد يكون بين 63.2 و55.8 مليون برميل يوميا في حالتيه الإيجابية والسلبية على التوالي مقارنة بـ58.9 مليونا في الحالة الأساس، هذه النتيجة ستؤثر بنفس المقدار على إنتاج أوبك من النفط الخام، إذ قد يصل إلى ما بين 36.6 و44.1 مليون برميل يوميا في 2040 مقارنة بـ41 مليونا في الحالة الأساس، وهذا المدى الواسع يحتم على أوبك أن تكون منتبهة طول الوقت وتعزز تعاونها الحالي مع بعض المنتجين من خارج أوبك محافظة على استقرار السوق.
وبالنسبة للطاقات المتجددة فإن إمكانية انخفاض كلفها قد تستمر وقد تتحسن كفاءتها، وإن مسألة تقطعات إنتاجها -اعتمادا على الشمس والريح- قد تحل بتطوير أنواع جديدة من البطاريات غير عالية الكلفة، وكل ذلك سيؤدي إلى تغير في مزيج الطلب على الطاقة وتحسن فرص السيارات الكهربائية بتوفر مزيد من الكهرباء من هذه المصادر دون اللجوء للوقود الأحفوري.
في السنوات الأخيرة شرعت بعض الدول في إلغاء الإعانات بأسعار الطاقة عامة وأسعار المنتجات النفطية خاصة لتعزيز ميزانية الحكومات ووقف الهدر، وقد تفعل دول أخرى الشيء ذاته، خاصة أن انخفاض أسعار النفط منذ 2014 قد شجع دولا عديدة على معالجة هذا الموضوع المؤجل الذي نرى أن يكون تدريجيا وليس كما يريده صندوق النقد الدولي لتلافي انعكاساته السلبية على المواطنين واستقرار الدول السياسي.
اضف تعليق