من الجوانب الصادمة لجائحة «كوفيد-19»، جانبٌ لا صلة له بالإصابات، أو بالصحة على جملتها؛ وهو أن إغلاق المدارس قد أضر التحصيلَ والتعلُّم لنحو 1.6 مليار طفل حول العالم. مضى عامان منذ بدء الجائحة، خلالهما أُغلقت خلالها المدارس إغلاقًا تامًا فترةً بلغت في المتوسط ما يربو على أربعة أشهر ونصف في بلدان العالم المختلفة...
من الجوانب الصادمة لجائحة «كوفيد-19»، جانبٌ لا صلة له بالإصابات، أو بالصحة على جملتها؛ وهو أن إغلاق المدارس قد أضر التحصيلَ والتعلُّم لنحو 1.6 مليار طفل حول العالم.
مضى عامان منذ بدء الجائحة، خلالهما أُغلقت خلالها المدارس إغلاقًا تامًا فترةً بلغت في المتوسط ما يربو على أربعة أشهر ونصف في بلدان العالم المختلفة. واحدة من كل عشر دول أغلقت مدارسها لأكثر من تسعة أشهر، وفقا لبيانات منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، وملايين الأطفال حول العالم لم يعودوا لمدارسهم أبدًا. وعلى حين لا يزال الباحثون في مرحلة جمع البيانات، فإن ما توافَر منها يؤكد ما كان يخشاه الكثيرون: وهو أن الأطفال الذين نالهم أسوأ الضرر في التعلُّم كانوا من الفئات الفقيرة أو المُهَمَّشة. ومن المعلوم والمستقر أن فرص التعليم الضائعة في الطفولة تترك آثارًا تمتد العمر كله، ولهذا ستكون نتيجة ذلك، على الأغلب، عقودًا من الدخل الشحيح لهؤلاء الذين عانوا اضطراب التعليم.
ترغب دول عديدة في تحجيم تلك الأضرار على تعليم النشء، ولكن الاكتفاء بالعودة بالمدارس لما كانت عليه قبل الجائحة سيكون خطأ. وإنما ينبغي على تلك الدول أن تستغل اللحظة الحالية لتحسين منظومات التدريس والتعلم، على أن يكون ذلك مستندًا إلى أبحاث التعليم، ومسترشدًا بها. فكما يوضح مقال مطول نشرته دورية Nature في عددها الأخير، استخلص باحثون أكداسًا من الشواهد، بعضها من دراسات علمية مُحَكَّمة (بطريقة المجموعة التجريبية والمجموعة الضابطة)، وكلها تشير إلى طرق غير مكلِّفة لتحسين مواظبة التلاميذ على ارتياد المدارس، ورفع مستوى تحصيلهم الدراسي في الدول الغنية والفقيرة على السواء. من بين وسائل تحقيق ذلك، توفير معلومات للتلاميذ وآبائهم على السواء عن الفوائد طويلة المدى للتعلم، ومساعدة الأطفال على فهم ما يقرؤون، وإشراك الآباء في تعليم أبنائهم، وإعداد تقييم لمدى كفاءة العمل الذي ينجزه الطفل، على أن يُصاغ بطريقة تكون مفهومةً له، ويُشارَك معه، وأن يدرب التلاميذ على أن يخططوا بأنفسهم، ويقيّموا أداءهم وتحصيلهم.
المؤسف أنه، في أكثر الأحيان، يُغفل متخصصو التعليم هذه الأبحاث، ويتجاهلها صناع السياسات، متوهِّمين أنهم يعرفون أفضل الطرق لتحسين تحصيل التلاميذ. ولكن وضع الأفكار المستخلصة من البحث العلمي موضع التنفيذ في المدارس حول العالم سيعين التلاميذ على التعافي من الضرر التعليمي الذي سببته الجائحة. كما أنه سيعزز أنظمة تعليمية بأكملها، نسبة منها غير قليلة كانت تخفق في النهوض بمسئولياتها تجاه الأطفال قبل الجائحة بزمن طويل. فأعداد غفيرة من الأطفال تُحرم من التعلم بسبب الصراعات أو الفقر أو التعقيدات السياسية، ومن ذلك أزمات مثل التي نراها في الحرب الدائرة في أوكرانيا، وقرار طالبان منع فتيات كثيرات من التعلم في المدارس في أفغانستان.
وعلى الجانب الآخر، يجدُرُ بالداعين إلى الأخذ بأساليب التعلم التي تنطلق من نتائج الأبحاث العلمية أن يتحلَّوا بالواقعية فيما يتعلق بالتحديات التي تعترض وضع تلك الأبحاث موضع التطبيق. من أكبر هذه التحديات، التنوع الهائل في أساليب التعلم في الصفوف والمدارس في البلد الواحد، فضلًا عن بلدان العالم على اختلافها. فبرنامج تدريس تأكدت كفاءته في هذه المدرسة أو تلك قد لا يكون بالكفاءة ذاتها في مدرسة أخرى، إذا تفاوتت أعمار تلاميذ المدرسة الثانية عن الأولى، أو كان التلاميذ اعتادوا طُرُقًا مختلفة في التعلم، أو لهم خلفيات أسرية متفاوتة، أو ربما لا لشيء إلا لأن البرنامج طُبق بطريقة مغايِرة. فأبحاث التعليم مفيدة على صعيدَي الإرشاد والتوجيه، ولكنها لا تضمن أن تؤتي طريقةٌ ما ثمارَها في صف دراسي معين، أو مع طفل بعينه، ولا تضمن كذلك أن تكون تلك الطريقة ناجعةً حين تُطبَّق على بلد بأكمله. ولهذا، فمن الأهمية بمكانٍ إشراكُ المُدرِّسين بأقصى قدر ممكن في الأبحاث، وفي تطبيق نتائجها.
والمشكلة الأكبر أنَّ أغلب الأبحاث حول التعليم مُنبَتَّة الصلة بالممارسة الواقعية: فأغلب الباحثين في هذا المجال لا يُدَرِّسون، وأغلبُ المدرّسين لا يُطلَعون على أكثر الأبحاث، ولا يشاركون فيها. (قارن هذا بمجال الطب، حيث الممارسون – الأطباء – في الغالب يُطلَعون على الأبحاث خلال سنوات دراستهم، ثم يلجؤون لمصادر إرشادية معتمدة على الدليل العلمي لدى ممارستهم المهنة، وربما يُجرون الأبحاث العلمية بأنفسهم أيضًا.) ولكن هذا الحال لا يصدُق على الدول جميعها. مثلًا، البحث في كفاءة الدروس جزء أساسي من التطور المهني للمدرسين في بلدان مثل الصين واليابان. على باقي الدول أن تحذو حذو السابقين في هذا المضمار.
فضلًا عن ذلك، هناك كم متعاظم من الشواهد المستقاة من الأبحاث يشير لأفضل الوسائل لتوصيل نتائج أبحاث التعليم لصفوف الدراسة. الاعتماد على طريقة فوقية، تفرض طُرقًا جديدة على المدرسين، غالبًا لن يؤدي إلى النتائج المرغوبة. وإنما الأفضل، بحسب روكيمي بانرجي، أن نشجع المدرسين والتلاميذ على أن يجربوا بأنفسهم طرق التعلم المعتمدة على الأبحاث. يقود بانرجي منظمة «براثام» Pratham، وهي منظمة غير حكومية متخصصة في مجال التعليم، ومقرها نيودلهي في الهند.
دروس وفوائد من الجائحة
دفعت الاضطرابات التي أنتجتها جائحة «كوفيد-19» في بعض الأحيان إلى أفكار وممارسات مبتكرة في مجال التعلم؛ رغم ما صاحب تلك الاضطرابات والتغييرات من صعوبة في حينها. فالمدارس ابتكرت وسائل لإتاحة الدروس عبر الإنترنت، والمدرسون صاروا أكثر انخراطًا في الجوانب الاجتماعية والصحية لتلاميذهم، والآباء صاروا أكثر اهتمامًا بما يتعلم أبناؤهم في المنزل. للأسف، لم تحظ تلك التغييرات بما تستحق من البحث، لأنها جميعها حدثت بسرعة لاهثة. على الباحثين والمدارس أن يستفيدوا لأقصى درجة مما تجمع من البيانات، وتسعى بقدر المستطاع إلى جمع المزيد، ليقرروا أي التغييرات التي ثبتت كفاءتها سيتم إقرارها؛ من أجل مساعدة التلاميذ الآن، وتحسين منظومة التعليم ككل.
ومن الأهمية بمكان، أيضًا، تتبُّع أداء الصفوف الدراسية التي تأثرت بالجائحة، للوقوف على الآثار طويلة المدى للحرمان شهورًا – أو أكثر – من الدراسة، وكذلك للوقوف على غير ذلك من آثار الجائحة. وفي المدارس التي تجرب برامج مبتكرة، وطرقًا لمساعدة الأطفال على تعويض ما فاتهم، يجب أن تُقيَّم كفاءة تلك البرنامج، وتقاس في أبحاث منهجية، بحيث تُتاح تلك البيانات حين يحدث اضطراب هائل لمنظومة التعلُّم مماثل لما حدث مع الجائحة.
اقترح البعض أنه قد يكون في مستطاع الأطفال، سريعًا، تعويض ما فاتهم على أثر إغلاق المدارس وقت الجائحة عبر برامج تعليم استثنائية مكثفة. أما المنظور الأكثر واقعية، فهو أن أطفال الأسر الميسورة سيتعافون تعليميًا أسرع من أقرانهم الأفقر، وأن الجائحة ستُفاقم التفاوتات العميقة في ميدان التعليم. ولهذا، يُفترض في كل جهدٍ موجهٍ لمساعدة أطفال المدارس اليوم – ولبناء منظومات التعليم للغد – أن يركز أولًا على الأطفال في الفئات الأشد عوزًا، والأكثر تهميشًا.
اضف تعليق