هل من الأفضل أن تتدرب باستمرار على ضرب كرة الإرسال من نقطة محددة في ملعب التنس؟ أم من الأفضل أن تتمرن على رميها من جميع النقاط؟ قطعًا، من الأسهل تعلُّم ضرب الكرة بمهارة من نقطة واحدة؛ فالتدريب المتواصل من النقطة نفسها سيجعلك تتقن ضربة الإرسال بسهولة...
بقلم محمد منصور
هل من الأفضل أن تتدرب باستمرار على ضرب كرة الإرسال من نقطة محددة في ملعب التنس؟ أم من الأفضل أن تتمرن على رميها من جميع النقاط؟ قطعًا، من الأسهل تعلُّم ضرب الكرة بمهارة من نقطة واحدة؛ فالتدريب المتواصل من النقطة نفسها سيجعلك تتقن ضربة الإرسال بسهولة، لكن ذلك لن يجعلك لاعبًا محترفًا؛ فالأفضل -رغم صعوبته في البداية- هو تعلُّم الرمي من جميع النقاط، إذ التدريب في ظروف متنوعة أكثر سيكون أبطأ في التعلم، لكنه أفضل على المدى الطويل.
وتلك هي النتيجة التي توصلت إليها دراسة نشرتها دورية "تريندز إن كوجنيتيف ساينسس" (Trends in Cognitive Sciences)، وأجراها فريق بحثي دولي تقوده "ليمور رافيف" -الباحثة في معهد ماكس بلانك لعلم النفس- بمشاركة باحثين آخرين من جامعات جلاسكو الأسكتلندية، وفريجي البلجيكية، وويسكنسن -ماديسون الأمريكية.
في ورقة المراجعة الضخمة هذه، عمل الباحثون على تجميع أكثر من 150 دراسة بحثت في كيفية تأثير التعلم بالتبايُن على جدوى العملية التعليمية في العديد من المجالات المختلفة، التي شملت علوم الكمبيوتر، واللغويات، والأحياء، والتعلم الحركي، والإدراك البصري، والتعليم الرسمي.
تقول "رافيف" في تصريحات لـ"للعلم": التبايُن أساس لعملية التعلم الناجحة، إن التعلم من المدخلات الأقل تنوعًا غالبًا ما يكون سريعًا، لكنه قد يفشل في إكساب مهارة التعميم، في المقابل، يكون التعلم بمدخلات أكثر تنوعًا أبطأ في البداية، ولكنه يؤدي عادةً إلى تعميم أفضل، وجدنا الاستنتاج نفسه في جميع المجالات التي درسناها.
ماذا يعني التعميم؟
تخيل أنك تتعلم عن الطيور، إذا اقتصرت عملية التعلم على طائر عصفور الجنة مثلًا، فسيقول لك معلمك إن طائر عصفور الجنة يطير باستخدام جناحين، وإن طائر عصفور الجنة يبيض، وإن طائر عصفور الجنة يغطي جسده الريش، وهكذا... ولم تتعلم أيّ معلومة عن باقي الطيور.
في تلك الحالة سيكون من السهل عليك أن تحتفظ بكل المعلومات الخاصة بطائر عصفور الجنة، لكن حين يُعرض عليك صورة لنسر أو صقر أو غيره من الطيور، لن تتمكن من تعميم ما تعلمته عن طائر عصفور الجنة وإسقاطه على النسر على سبيل المثال، فلن تستطيع أن تعرف أن النسر يطير حتى لو رأيت أجنحته، ولن تستطيع استنتاج أن النسر يبيض حتى لو رأيت بيضه.
والعكس سيحدث إذا تعلمت أكثر عن أنواع الطيور، فمثلًا إذا قال لك معلمك إن النسر يطير وإن عصفور الجنة يضع بيضًا وإن الصقر قادر على عمل رحلات جوية لمسافات مذهلة، وإن النعام لا يطير رغم أنه طائر، وإن البطريق ليس لديه النوع نفسه من الريش الموجود لدى باقي الطيور، فإن تلك المعلومات ستكون متنوعة ومختلفة وفي بعض الأحيان متضادة، لكنها ستجعل عملية التعلم أفضل.
تقول "رافيف": التبايُن مهم للتعلم القوي، ويعزِّز قدرتنا على تعميم المعرفة أو المهارة التي تعلمناها، وما نجده مثيرًا للاهتمام أن هذا المبدأ الأساسي قد تمت إعادة اكتشافه وإعادة تسميته على نحوٍ متكرر في مجالات متعددة؛ إذ إن هناك –في الواقع- أكثر من 10 أسماء مختلفة للفكرة نفسها، لكن هذه الأبحاث لم يتحدث بعضها مع بعض، كما أن هناك تداخلًا هائلًا في نتائجها على الرغم من أن جميع الحقول تشترك في أوجه تشابه واضحة جدًّا في نتائجها النظرية والتجريبية.
إلا أن بصائر العلماء في تلك الأبحاث لم تُوحَّد في نظرية واحدة، ما جعل هذا المفهوم معزولًا عن الصورة الأكبر ومنع اكتشاف المبادئ الأساسية التي تكمن وراء تأثيرات التبايُن بشكل عام، ومن خلال وضع دراسات مختلفة حول التبايُن جنبًا إلى جنب معًا، تمكن الباحثون من تحديد الأنماط الرئيسية وأنواع التبايُن التي تهم التعلم، ولماذا هي مهمة، ومتى تكون أكثر أهميةً في التعلم؟
تعميمات أوسع
لكن لماذا يؤثر التباين على التعلم والتعميم؟ تقول إحدى النظريات إن المدخَلات الأكثر تنوعًا يمكن أن تسلط الضوء على جوانب التعلم ذات الصلة وأيها غير مناسب، كما تقول نظرية أخرى إن التباين الأكبر يؤدي إلى تعميمات أوسع، هذا لأن التبايُن سيمثل العالم الحقيقي على نحوٍ أفضل، بما في ذلك الأمثلة غير النمطية.
يتعلق السبب الثالث بالطريقة التي تعمل بها الذاكرة؛ فعندما يكون التدريب متغيرًا وفيه العديد من الأمثلة المتنوعة والمتضاربة في بعض الأحيان، وهو ما يضطر المتعلمين إلى إعادة بناء ذكرياتهم بفاعلية.
تقول "رافيف": لقد فوجئنا باكتشاف أن تسمية "التباين" قد استُخدمت للإشارة إلى أربعة أنواع مختلفة على الأقل من التبايُن، كلٌّ منها ينبع من مصدر مختلف، يتعلق النوع الأول بالعدد ويعني التعلم من أمثلة كثيرة أو أمثلة قليلة العدد، أما النوع الثاني من التبايُن فيشير إلى عدم التجانس بحيث تكون أمثلة التعلم متنوعةً إلى حدٍّ ما رغم تماثل عددها، أما التبايُن الظرفي فهو التعلم من الأمثلة أنفسها بالضبط ولكن في ظل ظروف بيئية متنوعة أكثر أو أقل لا تتعلق بالأمثلة أنفسها، ويسمى النوع الرابع بتغير الجدولة وهو التعلم من الأمثلة أنفسها بالضبط، ولكن في ظل جداول ممارسة متنوعة إلى حدٍّ ما، أي تختلف في الترتيب الذي يتم تقديم الأمثلة به أو الفاصل الزمني بينهما.
تضيف "رافيف": اللافت للنظر أن هذه المصادر الأربعة لم يتم تحديدها بشكل صريح، ولم تقم أي دراسة واحدة -على حد علمنا- بمقارنتها بشكل مباشر باستخدام السلوك المستهدف نفسه، وبدلًا من ذلك، تحاول الدراسات المختلفة عادةً معالجة مصدر واحد للتباين، مما يحد من فهمنا لأنواع التباين الأكثر فاعلية، وما إذا كانت التجربة مع المزيد من التباين متشابهةً بشكل أساسي بغض النظر عن مصدرها.
عملية مرهقة
من المهم عند تقديم التبايُن بشكل عام تأكيد أنه مفيد جدًّا للتعلم، ولكن إذا حصلت على الكثير من التبايُن في البداية، فقد تصبح العملية التعليمية مُرهقةً جدًّا، وقد يصبح الشخص غير قادر على التعلم على الإطلاق، وفق ما تقوله "آنا إلبورج"، الباحثة في العلوم الاجتماعية بجامعة "آرهوس" الدنماركية، وغير المشاركة في الدراسة.
فعلى الرغم من أن "إلبورج" تتفق اتفاقًا كاملًا مع أهمية التباين والتعلم بالاختلافات، إلا أنها تقول إن الأمر أشبه "بالخيط الأحمر الرفيع" الذي يفصل بين "جدوى التعلم بالتباين" و"التشتيت".
تضيف "إلبورج" في تصريحات لـ"للعلم": المعلومات الكثيرة التي يُمكن قولها للأطفال في مرحلة عمرية معينة يُمكن أن تسهم في عدم تعلُّمهم أيّ شيء على الإطلاق، وبالتالي يجب أن يراعي المُدرب مستوى الشخص في أثناء التدريب.
تتفق "رافيف" مع ما تقوله "إلبورج" بشكل كامل، مضيفةً: على سبيل المثال، سوف يستفيد المبتدئون والأطفال الذين يتعودون فقط على مهارة حركية واحدة (مثل إرسال التنس) أكثر من التبايُن الأقل في تدريباتهم الأولى، إذ من المهم أيضًا نوع التبايُن الذي تحصل عليه؛ ففي الخطوات الأولى للتعلم من غير المفيد أن يكون لديك تنوع في قوة الإرسال وطول مسافته من نقاط معينة في الملعب، ومع ذلك، من المهم هنا أن تتعلم أشياء مختلفة أكثر، مثل لون ملعب التنس أو الموقع الذي تقف فيه على الملعب، وهو الأمر الذي سيكون مفيدًا في وقت مبكر.
ثلاثة أسباب
وبشكل عام، تشير الدراسة إلى أن هناك ثلاثة أسباب -لا يستبعد بعضها بعضًا- تفسر تأثير التباين على التعلم والتعميم، أولًا، يمكن أن يؤدي التعرض لمدخلات أكثر تنوعًا إلى إبراز جوانب المهمة/ الفئة ذات الصلة وأيها ليس كذلك، فعلى سبيل المثال، فإن ممارسة لعبة التنس في ظل ظروف متغيرة من شأنه أن يسلط الضوء على المبادئ المشتركة لهذا الإجراء البدني (على سبيل المثال، العضلات المستخدمة)، ولكنه سيساعد المتعلمين على فهم أن هذه القوة والسرعة والمكان يمكن أن تختلف ضمن النطاق، وبالمثل، فإن الأطفال الذين تعرضوا لعينات مختلفة من فئة حيوانية جديدة (على سبيل المثال، كلاب من أنواع مختلفة كالشيواوا والجولدن والبولدوج والراعي الألماني) قد يتعلمون أن هذا النوع له شكل شائع، ولكن حجمه يختلف عن حجم النوع الآخر، كما يختلف اللون، ويمكن أن يشير الاختلاف الكبير في ميزة معينة (على سبيل المثال، حجم الكلب) عبر الكلاب المختلفة إلى أن الحجم ليس له صلة مباشرة بتحديد فئة الكلاب، وبالتالي يمكن تجاهله بشكل كامل، في الوقت نفسه.
وثانيًا، يؤدي التباين الأكبر إلى تغطية أفضل للأمثلة المحتملة الموجودة هناك، متضمنةً الأمثلة الأقل تكرارًا وغير النمطية، قد تكون المدخلات الأقل تنوعًا أقل تمثيلًا للعالم الحقيقي؛ فعلى سبيل المثال، عند التعرف على الثدييات، سيكون من الأفضل التعرض ليس فقط للغوريلا والأسود (وهي ثدييات نموذجية) ولكن أيضًا للخفافيش والحيتان (وهي أقل شيوعًا ولكنها لا تزال ثدييات)؛ إذ سيؤدي هذا إلى تغطية لفئة "الثدييات" أفضل من مجرد التعرض للغوريلا والأسود والقطط والشمبانزي.
ثالثًا، يساعد التباين على عملية الاسترجاع من الذاكرة، إذا تكررت المحفزات أو الإجراء الحركي نفسه دون تغيير، فقد يظل التمثيل السابق لها متاحًا في الذاكرة قصيرة المدى، وبالتالي لن تكون هناك حاجة إلى إعادة بنائها، ولكن عندما يكون التدريب متغيرًا، يضطر المتعلمون إلى إجراء نوع من إعادة البناء النشط، على الرغم من أن هذا يمثل مجهودًا أكبر، إلا أنه يمكنه أيضًا تعزيز التشفير في الذاكرة وتحسين الاسترجاع.
إستراتيجية مفيدة
ويبدو أن التعلم بالتباين عملية مفيدة للغاية في جميع السلوكيات دون أي استثناء، في الرياضة، وتعلم اللغة، والتعرف على الأجناس المختلفة، وغيرها؛ "فإن التعرض لمزيد من التنوع مفيد للتعلم والتعميم، لذلك يمكن استخدام هذه الإستراتيجية لتعليم الأطفال مهارات جديدة" وفق قول "رافيف"، لكن مع الأخذ في الاعتبار أن الكثير من التبايُن في البداية يمكن أن يكون ضارًّا أيضًا.
عمل الباحثون على تلك الدراسة مدة عامين تقريبًا، وتقول "رافيف": إن أكثر شيء أثار صدمة الفريق أنه على مدار الثمانين عامًا الماضية تمت إعادة اكتشاف هذه العلاقة الأساسية بين التباين والتعلم بشكل متكرر وإعادة تسميتها عبر الحقول المختلفة للتعلم، "لكن علماء الرياضة مثلًا لم يتفاعلوا قَط مع علماء تعلم اللغة"، فكل مجال يدرس التباين في عزلة، لكنه لم يبحث عن اكتشاف أن الشيء نفسه قد عُثر عليه في مجالات أخرى، "مما يعني أن هذا المبدأ هو أصلًا ظاهرة أساسية وحاسمة للغاية، وربما ليس فقط للبشر".
تضيف "رافيف": في الواقع، قد يكون مبدأ التباين هذا أساسيًّا لدرجة أنه قد يتجاوز العقول أو حتى الجهاز العصبي وصولًا إلى المستوى الخلوي، فعلى سبيل المثال، فإن الأطفال الذين تعرضوا لميكروبات أكثر تنوعًا من خلال العيش في قرية ريفية مقابل مدينة حضرية أظهروا انخفاضًا في خطر الإصابة بالحساسية والربو، وربما كان جهاز المناعة لديهم أكثر قدرة على تعميم بيئتهم.
وتتابع: الرسالة الأهم التي يجب أن تصل للجميع هي أن التباين ليس مهمًّا فقط لتعلم مهارة جديدة، ولكن التباين أيضًا مهم لحياتنا اليومية واتصالاتنا الاجتماعية، ويمكن أن يساعدنا التعرض لأشخاص أكثر تنوعًا من خلفيات مختلفة على أن نصبح أكثر تسامحًا مع الآخرين، وأقل احتماليةً لاستخدام الصور النمطية الضارة، وحينها ستنمو لدينا القدرة على إيقاف الاستقطاب على وسائل التواصل الاجتماعي.
اضف تعليق