يمثل صندوق النقد الدولي الذي تشكل على إثر اتفاقية برتيون وودز بعد الحرب العالمية الثانية، نقطة سوداء في تأريخ معظم دول العالم، والتي منها على وجه الخصوص دول منطقة الشرق الأوسط، فهذا الصندوق الذي كان الغرض من إنشاءه هو اعمار الدول التي تدمرت جراء الحرب، تحول بعد ذلك الى مُقرض لجميع الدول التي تعاني من مشاكل وأزمات او اختلالات في هياكلها الاقتصادية، الا ان الصندوق لايمنح الا القروض الا وفق شروط يرى فيها البعض انها تعجيزية او انها تسعى لزيادة تبعية الدولة المقترضة للخارج وزيادة مديونيتها وبالتالي امكانية التدخل في شؤونها الخاصة والتأثير في قرارتها، وهذا ماشكل هذه النقطة السوداء في تاريخ صندوق النقد مع هذه الدول، وبالرغم ان منطقة الشرق الاوسط بمافيها الدول العربية ابتعدت من الاستدانة من الصندوق، الا ان الظروف الحالية جعلت نجم هذا الأخير يبزغ من جديد، من خلال القروض المقدمة للعراق ومصر ولربما تتبعها بعد ذلك ليبيا وسوريا واليمن وغيرها،
ويسلط اقتراض مصر 12 مليار دولار من صندوق النقد الدولي الضوء على مدى انخراط الصندوق مجددا في الشرق الأوسط ومخاطر نشوء رد فعل عنيف تجاه الحكومات التي تنفذ إصلاحات مؤلمة في مقابل المساعدات، فمنذ أواخر الثمانينيات وحتى انتفاضات الربيع العربي في 2011 ، أوضح الصندوق بأنه عميل للشركات الغربية الكبرى التي تضغط على الدول لتبني سياسات تقشفية تفقر شعوبها بينما يفيد منها المصرفيون الأجانب.
وبعد أن أطلقت إجراءات خفض الإنفاق التي تمت بإيعاز من صندوق النقد أعمال شغب في الجزائر والأردن والسودان تجنبت العديد من الحكومات التعاون مع الصندوق، وقارن وزير مصري واحد على الأقل بشكل خاص الصندوق بالإمبرياليين البريطانيين الذين استولوا على قناة السويس.
ويظهر قرض مصر الذي تمت الموافقة عليه كيف تغير الكثير، وترويج صندوق النقد لصورة جديدة له أكثر مرونة جزء أساسي من جهوده لدعم العديد من اقتصاديات الشرق الأوسط بما في ذلك مصر وتقديمه مليارات الدولارات لدعم العراق والأردن والمغرب وتونس وتوفير المشورة للجزائر بشأن إصلاحات.
وللمرة الأولي يقدم الصندوق المشورة التفصيلية على نطاق واسع لمصدري النفط الأغنياء في الخليج مثل الإمارات العربية المتحدة والكويت في قضايا مثل فرض ضريبة القيمة المضافة لدعم الإيرادات غير النفطية، وهذا خبر جديد للمستثمرين المترددين في وضع أموالهم بالمنطقة بدون خاتم الموافقة من صندوق النقد الدولي، لكن هذا يعرض الصندوق والحكومات الشريكة للغضب الشعبي إذا ما فشلوا في حل المشكلات الاقتصادية عميقة الجذور.
ويرى محسن خان الذي ترأس إدارة الشرق الأوسط بالصندوق منذ 2004 حتى 2008 إن العودة إلى المنطقة أمر شائك لأنه في حين يملك الصندوق المعرفة بشأن كيفية إصلاح مالية الدولة والعجز الخارجي فإنه - شأنه شأن الاقتصاديين بشكل عام - أقل خبرة في تقليل عدم المساواة وخلق الملايين من فرص العمل.
وأضاف خان الذي يشغل حاليا منصب كبير الباحثين في مركز رفيق الحريري للشرق الأوسط في مجلس الأطلسي بواشنطن "الحكومات تنفذ إصلاحات اقتصادية صعبة. إذا لم تنجح بعد بضع سنوات في تحسين مستويات المعيشة فإن الشعب سيوجه أصابع الاتهام."
ويعزى التوجه صوب صندوق النقد بشكل جزئي إلى الضغوط الاقتصادية، وخفضت اضطرابات الربيع العربي الاستثمارات في الدول الأشد فقرا في الوقت الذي ضغط فيه هبوط أسعار النفط على صادرات دول الخليج من الطاقة.
وفي الماضي كانت الدول الأشد فقرا تفضل القروض والمساعدات وتحويلات العاملين المهاجرين إلى الخليج الذي ربط مساعداته بشروط سياسية على أموال صندوق النقد الدولي الذي يطلب إصلاحات اقتصادية صعبة، ومع تضرر الموارد المالية لدول الخليج بسبب النفط الرخيص بات هذا النموذج غير قابل للاستمرار، الا ان الصندوق نفسه تغير أيضا، اذ إنه بات أقل إصرارا على مبادئ أساسية مثل تحرير أسعار الصرف وصار أكثر تركيزا على خفض الفقر والحد من عدم المساواة.
وعلى سبيل المثال حررت القاهرة سعر صرف عملتها ورفعت أسعار الوقود وهي سياسات تقليدية لصندوق النقد الدولي، لكن للحد من متاعب المواطنين الأشد فقرا تخطط مصر - بموافقة ضمنية من صندوق النقد - لتعزيز الإنفاق على خطة لدعم المستهلكين وإبقاء أسعار الخبز دون تغيير مما سيبطئ الدفع نحو خفض عجز الموازنة.
ويذكر مسعود أحمد الذي يترأس إدارة الشرق الأوسط بصندوق النقد منذ عام 2008 عن دور الصندوق في المنطقة "اعتقد أننا تعلمنا" مضيفا أنه في الماضي كان الصندوق يركز أحيانا على أرقام الاقتصاد الكلي فقط أما الآن فإنه ينظر أكثر إلى جوانب أخرى يمكن أن تؤثر على الصورة الكلية للاقتصاد مثل الفقر.
وبعد الربيع العربي أطلق أحمد حملة علاقات عامة لتحسين صورة الصندوق في المنطقة ليدشن مدونة ناطقة بالعربية لشرح سياسات الصندوق ويعقد لقاءات في كثر من الأحيان مع السياسيين والصحفيين.
وحتى الآن فإن صندوق النقد يبدو ناجحا في تجنب الغضب الشعبي وهو الأمر الذي ميز العديد من أدواره السابقة في المنطقة، ويشكو المصريون من ارتفاع أسعار الوقود لكن القليلين يلقون باللوم على الصندوق ويقول العديدون إنهم يتفهمون الحاجة إلى التقشف.
لكن السنوات القادمة قد تضع هذا النجاح موضع الاختبار، وقد يكون القرض الذي حصلت عليه مصر لأجل ثلاث سنوات مجرد البداية لعبء مالي طويل الأجل، ويعتقد عديد من الاقتصاديين أن هذا القرض سيجري تجديده، وستحتاج سوريا واليمن إلى مساعدة حين تنتهي الصراعات هناك.
في الوقت ذاته فإن صندوق النقد سيصير بين شقي الرحى بينما تخفض الحكومات في كل من الدول المستوردة والمصدرة للنفط على السواء مزايا الرعاية الاجتماعية، ومن المتوقع أن ترتفع أسعار الوقود مجددا وأن يجرى فرض ضرائب جديدة في العديد من الدول.
تجديد صندوق الأزمات
صرح صندوق النقد الدولي إن مجلس إدارته وافق على تجديد صندوق الأزمات الذي يبلغ حجمه 250 مليار دولار لمدة خمس سنوات أخرى تبدأ في 17 نوفمبر تشرين الثاني، ويتضمن صندوق الازمات مساهمات من 38 دولة من الدول الأعضاء الأكثر ثراء بالصندوق يُجدد سنويا منذ عام 1998 .
ويهدف صندوق الأزمات المعروف باسم "ترتيبات الإقراض الجديدة" إلى توفير موارد إضافية"لتلافي أو مجابهة أي تدهور في النظام النقدي الدولي أو للتعامل مع وضع استثنائي يشكل تهديدا لاستقرار هذا النظام، وتمت زيادة حجم "ترتيبات الإقراض الجديدة" إلى ثلاثة أمثال ما كان عليه لمجابهة آثار الأزمة المالية التي حدثت عام 2008-2009 ثم أعيد بعد ذلك إلى مستواه الحالي بعد أن زاد صندوق النقد الدولي قدرته العادية على الإقراض من خلال زيادة حصص المساهمة.
اصلاح قوانين اقراض الدول
ذكر صندوق النقد الدولي الجمعة انه قام باصلاح قوانين الاقراض للدول التي ترزح تحت ديون كبيرة من بينها قانون صدر في 2010 يسمح للصندوق بمساعدة اليونان، وتخلى الصندوق عن قاعدة "الاستثناء المنهجي" التي كان يستخدمها لتبرير منح اليونان مساعدات كبيرة رغم الشكوك بشان قدرتها على سداد ديونها السيادية.
وفي تقرير له اقر الصندوق بان هذه القاعدة المثيرة للجدل "لم تفلح في تخفيف انتشارها" وادت الى تكاليف ومخاطر "كبيرة" للصندوق والدول الاعضاء فيه، واضافة الى ذلك فان هذه السياسة يمكن ان تشجع الجهات الدائنة على الافراط في اقراض دولة بشروط اسهل لاعتقادها بان هذه الدولة ستتلقى مساعدات مالية عامة في حالة الازمة، بحسب التقرير.
واثارت هذه السياسة انتقادات خاصة من بعض دول الاسواق الناشئة التي رات فيها معاملة تفضيلية من قبل الصندوق للدول الاوروبية، كما تعرضت لانتقادات من نواب جمهوريين اميركيين طالبوا بانهائها، واضاف الصندوق ان القوانين الجديدة تلغي هذا الاستثناء وتركز على المناطق "الرمادية" التي تظهر احتمالا كبيرا على عدم قدرة اية دولة معينة على تسديد ديونها، كما ان اعادة هيكلة ديونها السيادية يعتبر مخاطرة كبيرة.
وفي هذه الحالة يمكن للصندوق تقدم التمويل بشرط تلقي ذلك البلد في نفس الوقت اموالا كافية من دائنين من القطاعين العام والخاص، تتيح له العودة الى مرحلة القدرة على تسديد الدين وتسديد المبالغ للجهة التي اقرضته المال في وقت الازمة.
بعد كل ماذكر يبدو ان هذه الدول لم تجد طريق اخر تسلكه غير طريق الصندوق، وبالرغم من دور الصندوق في محاولة معالجة الاختلالات في اقتصادات هذه الدولة كمستشار لها، الا انه لاضمانه لذلك، فالتجارب تُثبت ان القروض التي قدمها الصندوق لكثير من الدول لم تجلب سوى ديون وقروض جديدة، وأزمة اليونان تُعد خير دليل على ذلك في الأونة الأخيرة، وهنا يضعنا التحليل امام سؤال جوهري؟ وهو مالفائدة من التغيير وكل هذه الثروات اذا زادت التبعية في ظل الاقتراض من الصندوق الذي يمثل احد اذرع العولمة والتدخل في شؤون الدول؟ الم تستفد تلك الدول من تجارب السابق؟ وهل ظهور الصندوق بثوب الحمل الوديع، كافٍ لتصديقه؟ والأهم من ذلك هل سيكون بمقدور الدول المقترضة الايفاء بمستلزمات وشروط الصندوق؟.
اضف تعليق