تمرُّ النقود بمرحلة حاسمة لمصيرها، إذ انطلق سباقٌ لتحديد مَنْ يستحدثها، ومَنْ يُمكِنه الوصول إليها، والجهات المتحكمة فيها، ودرجة التحكّم فيها، وكيفية تنظيم تداوُلها. ويُمكِن أن تحسم النتيجة ما إذا كانت الحكومات سيُسمَح لها بالوصول إلى جميع بياناتنا المالية، أم لا، وما إذا كان سيُصبح بمقدور المجرمين أن يجروا بيسر عمليات غسيل الأموال...
بقلم: أندرو أوركهارت وبريان لوسي
تلافيًا لانتهاكات الخصوصية، وجرائم الاحتيال، والأضرار البيئية، يتعيَّن على الحكومات والبنوك المركزية معرفة السُبُل المُثلى لتنظيم هذه الساحة المالية.
تمرُّ النقود بمرحلة حاسمة لمصيرها، إذ انطلق سباقٌ لتحديد مَنْ يستحدثها، ومَنْ يُمكِنه الوصول إليها، والجهات المتحكمة فيها، ودرجة التحكّم فيها، وكيفية تنظيم تداوُلها. ويُمكِن أن تحسم النتيجة ما إذا كانت الحكومات سيُسمَح لها بالوصول إلى جميع بياناتنا المالية، أم لا، وما إذا كان سيُصبح بمقدور المجرمين أن يجروا بيسر عمليات غسيل الأموال لمبالغ طائلة دون اكتشافهم، وهل بالإمكان مدّ منافع المعاملات المالية لتشمل مليارات الأشخاص على مستوى العالم، ممن يفتقرون إلى إمكانية الوصول إلى البنوك.
ظلَّت أنظمة العملات المُشَفَّرَة -وهي أنظمة نقديّة خاصة تستخدم التَّشفير الرقمي لأداء المعاملات المالية والتحقّق من صحتها- قائمة منذ ابتكار عملة البيتكوين عام 20081. واليوم، يجري تداوُل ما يقرب من 20 ألف عملة مُشَفَّرَة، بقيمة سوقية إجمالية تبلغ تقريبًا تريليوني دولار أمريكي.
وتتولَّى مؤسسات استثمارية تجميع هذه العملات. ففي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، أعلن كثيرون انخراطهم في هذا السوق، ومن بينهم، شركة التأمين المتبادَل على الحياة «ماس ميوتشوال» MassMutual، فضلًا عن جهات مصرفية استثمارية، مثل «جي پي مورجان تشيس» JP MorganChase، ومدير صناديق التحوط بول تيودور جونز، وشركة استخبارات الأعمال «ميكروستراتيجي» MicroStrategy، وشركة «تسلا» لصناعة السيارات الكهربائية. وقد تأسَّس أكثر من 150 صندوق تحوُّط للعملات المُشَفَّرَة لاستثمار مليارات الدولارات في هذه الأصول فقط. وبدأ النظام المالي يتكيَّف مع وجود هذه العملات، فعقود البيتكوين الآجلة، وما يختصّ بها من عقود الخيارات، والصناديق المالية التي تُتدَاول أسهمها في البورصة، باتت متاحة. كذلك أدرجت بورصة «ناسداك» Nasdaq شركة «كوينبايس» Coinbase، منصة تبادل العملات المُشفرة الرائدة، في سوقها.
ويُمكِن استخدام العملات المُشَفَّرَة للوقاية من آثار التضخُّم، الذي أدَّى انخفاض قيمة العملة التقليدية إلى إذكاء المخاوف من حدوثه. وقد تعمَّدت الحكومات والبنوك المركزية زيادةَ حجم الاحتياطي النقدي لإنعاش الاقتصادات خلال الأزمة المالية العالمية التي شهدها عام 2008، وخلال جائحة «كوفيد-19». على النقيض، فإن الحدَّ الأقصى لاحتياطي عملات البيتكوين ثابت عند 21 مليون بيتكوين.
وقد تتيح العملات المُشَفَّرَة الوصول إلى الاستقلال المالي. ففي عام 2021، أصبحت السلفادور أولى الدول التي تقبل البيتكوين كعملة رسمية موازية للدولار الأمريكي. ويرى نجيب بُقيلة، رئيس الدولة، أن العملات المُشَفَّرَة قد تعزِّز شمول النظام المالي لشتى الأطياف وتقلّص الاعتماد الاقتصادي على الولايات المتحدة. وفي العام الماضي، أودعت الدولة ما قيمته 30 دولارًا أمريكيًا من عملات البيتكوين في المحفظة الرقمية لكل مواطن، وهو ما يُعادِل نحو عُشْر الحد الأدنى للأجور الشهرية في القطاع الصناعي هناك. بَيْدَ أن عقبات فنية عصفت بعملية تدشين هذا النظام المالي، من ضمنها اختراق الحسابات المالية، والصعوبات التي تعترض التحقّق من صحة المعاملات المالية، وضعف البنية التحتية على صعيد تكنولوجيا المعلومات وعمليات الدفع المتأخرة. وقد بدأتْ أوكرانيا الشهر الماضي قبولَ تبرّعات بالعملات المُشَفَّرَة لتمويل دفاعها في مواجهة الغزو الروسي.
مع ذلك، نرى أنه ينبغي مواجهة تحدّيات هائلة قبل أن يسود استخدام العملات الإلكترونية.
تشتهر عملة البيتكوين بتقلُّب أسعارها. فقد شهد عام 2021 تقلُّبات في قيمة هذه العملة بنِسَب تتراوح ما بين 50% إلى 100%. فضلًا عن ذلك، يستلزم تشغيل الأكواد الحاسوبية المُعَقَّدة التي يقوم عليها نظام العملات المُشَفَّرَة تَوافر كميات هائلة من الطاقة. ففي الوقت الحاليّ، تشير التقديرات إلى أن البصمة الكربونية لعملة البيتكوين وحدها تضاهي سنويًا تلك الخاصة بدولة الكويت، كما أن بصمتها الكهربية مساوية لدولة تايلاند، وتُنتج قدرًا من النفايات الإلكترونية، يماثل ما تنتجه دولة هولندا. وللالتفاف على هذه المشكلة، تستخدم السلفادور الكهرباء المُوَلَّدة من الطاقة الحرارية الأرضية قرب أحد البراكين لفكّ تشفير عملات البيتكوين الخاصة بها. كما أن غياب اللوائح التنظيمية الخاصة بتداوُل تلك العملات يثير قلق المصرفيين وواضعي السياسات.
ولكل هذه الأسباب، حظرت الصين تعدين عملات البيتكوين في يوليو الماضي. وفي شهر أغسطس من العام نفسه، نَبَّه رئيس هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية (SEC) إلى أن منصات العملات المُشَفَّرَة بحاجة إلى تنظيمها من أجل بقائها. وفي يناير من العام نفسه، أعربت هيئة السلوك المالي في المملكة المتحدة (FCA) عن قلقها بشأن عدم قدرتها على التحكم في تداوُل العملات المُشَفَّرَة.
وبالتوازي، تعمل عدة اقتصادات، من بينها الصين والاتحاد الأوروبي، على تطوير أشكال من الأصول الرقمية التي تملك سيطرة عليها بالفعل. وتُعَد عملات البنك المركزي الرقمية (CBDCs) سجلًا إلكترونيًا لتداوُل العملات الرسمية، وقد تحلّ محل الأوراق النقدية الفعلية والعملات المعدنية في غضون عقد من الزمن. وتختبر الصين بالفعل أداء نسخة رقمية من عملتها اليوان، يُمكِن للعملاء استخدامها في سداد المدفوعات عبر هواتفهم المحمولة. وفي يوليو الماضي، أطلق الاتحاد الأوروبي مشروعًا لبحث جدوى تداوُل اليورو الرقمي على امتداد العامين المقبلين. وفي وقت لاحق من العام الحاليّ، من المزمع أن يصدر النظام الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي مقترحًا لمناقشة تداوُل الدولار الرقمي.
تسع أولويات
على الرغم من إحراز تقدُّم كبير على صعيد تداوُل العملات المُشفرة والرقمية2، هناك حاجة ماسة إلى إجراء أبحاث في ذلك الصدد على أربعة أصعدة، وهي: مشروعية هذا التداوُل وقابلية توسيعه وإمكان تداوُل تلك العملات وقبولها. وهذه الأصعدة الأربعة مترابطة؛ فقد تؤدي الحلول في إحدى النواحي إلى تفاقم المشكلات في ناحية أخرى. وفي ما يلي حدَّدنا تسع أولويات.
كبح جماح الجريمة: إن إخفاء هوية المتداولين في معاملات العملات المُشَفَّرَة يعني أنها قد تستهوي المجرمين والعناصر الفاسدة. إذ تُستَخدَم العملات المُشَفَّرَة لغسل الأموال، وتمويل الإرهاب وإذكاء الفساد3؛ وتشير تقديرات إلى أن ما يصل إلى نصف معاملات البيتكوين قد يدعم أنشطة غير قانونية4. ويُمكِن استخدام العملات المُشَفَّرَة للالتفاف على العقوبات المالية، مثل تلك المفروضة حاليًا على روسيا.
سلسلة الكُتل: هي قاعدة بيانات مُوَزَّعة تسجِّل معلومات التداوُل إلكترونيًا في صيغة رقمية. وتُنَظَّم بياناتها في كُتل مرتبطة بكُتل سابقة من خلال أكواد تشفيرية.
العملات المُشَفَّرَة: هي أصول رقمية مُؤَمَّنة بالتَّشفير. وكثير من أنظمة العملات المُشَفَّرَة، ومن بينها أنظمة عملة البيتكوين، يستخدم تقنية سلسلة الكُتل لحفظ بيانات المعاملات.
عملات البنك المركزي الرقمية: هي الصيغة الافتراضية لعملة إلزامية (رسمية)، أو بعبارة أخرى، هي سجلّ إلكتروني تحكمه وتنظِّمه الدولة، أو السلطات النقدية الفيدرالية.
العملة الإلزامية: هي عملة وطنية غير مرتبطة بسعر سلعة مثل الذهب أو الفضة. وتتحكَّم البنوك المركزية أو الحكومات في مقدار ما يُصدر من هذه العملة. ويُعَد الدولار الأمريكي مثالًا على هذا النوع من العملات.
ويُعَدّ حلّ هذه المشكلة أقرب إلى المستحيل، فقد استُخدِمت العملات النقدية لتنفيذ جميع الجرائم التي يُشار فيها بأصابع الاتهام إلى العملات المُشَفَّرَة، ولكن بالإمكان النظر في بعض الخيارات المطروحة كحل. على سبيل المثال، يُمكِن لأنظمة العملات المُشَفَّرَة مراقبة معاملات المستخدمين، وإتاحة أشكال مصادقة قائمة على مفهوم "معرفة طبائع العميل"، وهي ميزة تفتقر إليها هذه الأنظمة حتى الآن. بَيْد أن هذا قد يتعارض مع مبدأي الخصوصية وحق التملّك، وهو ما سيؤدِّي إلى انخفاض الإقبال على هذه الأنظمة. لذا، ينبغي للباحثين تدارس عقد مثل هذه المفاضلات.
وتواجه عملات البنوك المركزية الرقمية عكسَ هذه المشكلة، لكنها استطاعت السماح للبنوك المركزية والحكومات بتتبّع معاملات جميع مستخدمي تلك العملات، في ما يُشبه نظام مراقبة جماعية رقمي. ومن جانب آخر، إذا عُولجت تداعيات المشكلات المرتبطة بالخصوصية وحقوق الأفراد، فقد تردع هذه الشفافية وقوعَ الجرائم وتفضحها، فضلًا عن زيادة الإيرادات الضريبية، وتقليص التجارة في السوق السوداء.
تنظيم تداوُل الأصول الرقمية: في حالات متطرِّفة، يُحظَر تداوُل العملات المُشَفَّرَة، كما هي الحال في الصين والعراق ومصر. وعلى النقيض من ذلك، يسود تداوُلها في حالات أخرى، كما في السلفادور. وفي معظم البلدان الأخرى، يُسمح بُذلك، لكن لا يُنظَر إليها على أنها عملة قانونية. فلا يخضع تداوُلها لتنظيم، ويجري التعامل معها على أنها مجرّد شكل آخر من أشكال الأصول. كما يشيع حدوث عمليات الاحتيال والبيع الخاطئ.
خفض استهلاك الطاقة. يتطلَّب إنتاج العملات المُشَفَّرَة عمليات حسابية مكثَّفة (انظر "الميزانية العمومية لعملة البيتكوين"). ويستلزم استحداث ("تعدين") بعض العملات المُشَفَّرَة حل ألغاز تشفيرية صعبة. كما أن إضافة المعاملات التي تستخدم هذه العملات إلى دفتر رقمي، مثل سلسلة الكُتل (انظر "المصطلحات الرئيسية")، يستلزم عمليات مصادقة عن طريق خوارزميات محددة. وكل هذه الحسابات تستهلك طاقة. وقد وجد تقرير أورده الموقع المالي البريطاني MoneySuperMarket.com أن تداوُل عملة البيتكوين يستهلك طاقة أكثر من دولة النرويج. كما وجد التقرير أن معالجة معاملة واحدة يستهلك ما تربو قيمته على 100 دولار أمريكيّ من الكهرباء، ويولِّد أكثر من 800 كيلوجرام من ثاني أكسيد الكربون (انظر go.nature.com/3wzhkmw). وتستهلك ثاني أكثر العملات المُشَفَّرَة شيوعًا، وهي عملة الإيثريوم، طاقة أقل ولكنها تضيف 62 كيلوجرامًا من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون إلى الغلاف الجوي في كل معاملة.
إسراع وتيرة المعاملات. كي تحلّ العملات المُشفَّرة محلَّ أنظمة الدفع الحالية، ستحتاج إلى منافسة أنظمة البيع بالتجزئة وأنظمة التسوية المصرفية التجارية (مثل نظام جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك أو اختصارًا SWIFT). وتعالج هذه الأنظمة المدفوعات في عدّة ثوانٍ وتتعامل مع كوادريليونات الدولارات سنويًا. وفي المقابل، تعالج أنظمة عملات البيتكوين 250 ألف معاملة مؤكّدة يوميًا، بقيمة سوقية تتراوح بين مليار دولار إلى ملياري دولار. ويمكن أن تستغرق معاملاتها عشرات الدقائق، وهو إيقاع شديد البطء إلى حد يحول دون تلبية احتياجات السوق العالمية. لذا، ينبغي للباحثين إيجاد سبل لإسراع وتيرته.
وينبغي للباحثين أن يطرحوا السؤال التالي: ما الإطار التنظيمي الأمثل الذي يُمكِن الاحتكام إليه ليزدهر تداوُل الأصول الرقمية؟ وكيف تستطيع الجهات التنظيمية العمل في هذا المساحة لتحقيق صالح الجميع؟
ينبع ارتفاع هذه المعدلات في المقام الأول من اختيار "آلية الإجماع"، إذ يجب أن تتفق جميع الجهات القائمة على تعدين ومصادقة المعاملات بهذه العملة على الحل الحوسبي للتحقق من صحة المعاملة. وتستعين عملة البيتكوين بما يُعرَف بنظام إثبات صحة العمل (PoW). وبموجبه، إذا نجحت جهة تعدين ما في مصادقة معاملة بتلك العملة، فيُمكِنها اقتراح إضافة كتلة جديدة من المعاملات على سلسلة الكُتل"، والحصول على مكافأة. وتتضاءل قيمة المكافأة ولكنها تظل مرتفعة، إذ بدأت قيمتها عند 50 بيتكوين وانخفضت إلى النصف مع كل 210 ألف كتلة (كل 4 سنوات تقريبًا)، حتى وصلت إلى 6.25 بيتكوين لكل كتلة تُستَحدَث في عام 2022. ويتنافس كثير من جهات تعدين هذه العملة ومصادقة معاملاتها على المكافأة، وهو ما يرفع استهلاك الطاقة.ويُمكِن أن يؤدِّي التحوُّل إلى آلية إجماع بديلة -هي آلية إثبات الحصة (PoS)- إلى تقليل استهلاك الطاقة بمقدار مليون ضعف. وكبديل، تتنافس جهات تعدين العملة على أساس ما تمتلكه من العملة. ويُزمع أن تتجه عملة الإيثريوم إلى آلية إثبات الحصة خلال عام 2022، لكن المخاطر المرتبطة بتنظيم تداوُل تلك العملات وبالأنظمة الضريبية تثني عن الاتجاه إلى آلية إثبات الحصة.وينبغي إجراء مزيد من الأبحاث عن الكيفية التي يمكن بها للحوافز والعقوبات أن تقلّل من الاحتياج إلى الطاقة. وتتنوع الخيارات المتاحة لذلك ما بين التحريم القانوني للبروتوكولات غير الأخلاقية والدفع نحو بروتوكولات أكثر كفاءة من خلال التمييز الضريبي أو التنظيمي.
ينبع ارتفاع هذه المعدلات في المقام الأول من اختيار "آلية الإجماع"، إذ يجب أن تتفق جميع الجهات القائمة على تعدين ومصادقة المعاملات بهذه العملة على الحل الحوسبي للتحقق من صحة المعاملة. وتستعين عملة البيتكوين بما يُعرَف بنظام إثبات صحة العمل (PoW). وبموجبه، إذا نجحت جهة تعدين ما في مصادقة معاملة بتلك العملة، فيُمكِنها اقتراح إضافة كتلة جديدة من المعاملات على سلسلة الكُتل"، والحصول على مكافأة. وتتضاءل قيمة المكافأة ولكنها تظل مرتفعة، إذ بدأت قيمتها عند 50 بيتكوين وانخفضت إلى النصف مع كل 210 ألف كتلة (كل 4 سنوات تقريبًا)، حتى وصلت إلى 6.25 بيتكوين لكل كتلة تُستَحدَث في عام 2022. ويتنافس كثير من جهات تعدين هذه العملة ومصادقة معاملاتها على المكافأة، وهو ما يرفع استهلاك الطاقة.ويُمكِن أن يؤدِّي التحوُّل إلى آلية إجماع بديلة -هي آلية إثبات الحصة (PoS)- إلى تقليل استهلاك الطاقة بمقدار مليون ضعف. وكبديل، تتنافس جهات تعدين العملة على أساس ما تمتلكه من العملة. ويُزمع أن تتجه عملة الإيثريوم إلى آلية إثبات الحصة خلال عام 2022، لكن المخاطر المرتبطة بتنظيم تداوُل تلك العملات وبالأنظمة الضريبية تثني عن الاتجاه إلى آلية إثبات الحصة.وينبغي إجراء مزيد من الأبحاث عن الكيفية التي يمكن بها للحوافز والعقوبات أن تقلّل من الاحتياج إلى الطاقة. وتتنوع الخيارات المتاحة لذلك ما بين التحريم القانوني للبروتوكولات غير الأخلاقية والدفع نحو بروتوكولات أكثر كفاءة من خلال التمييز الضريبي أو التنظيمي.
وتتطلَّع جهات تنظيم عالمية كُبرى مثل هيئة الأوراق المالية والبورصات في الولايات المتحدة وهيئة السلوك المالي بالمملكة المتحدة، إلى إخضاع تداوُل العملات المُشَفَّرَة للرقابة، على نحو مماثل بدرجة كبيرة للأصول المالية الأخرى. وينبغي ألا يُمارِس تداوُل هذه العملات سوى المستثمرين المؤهلين والوسطاء المُعتَمَدين. ونكرّر أن هذا من شأنه أن يجعل تداوُل العملات المُشَفَّرَة أقلَّ جاذبية، وهو ما قد يؤدِّي إلى انهيار سوق تلك العملات. ويُذكَر أن أنظمة العملات السرية وُجدت من قبل، على سبيل المثال، في العصور الوسطى، وفي القرن التاسع عشر بالولايات المتحدة والسويد وأستراليا، أمكن للأفراد والبنوك إصدار عملات. وقد اختفت كل هذه الممارسات بمقتضى القانون.
ويمكن لحفنة من أنظمة العملات المُشَفَّرَة معالجة كميات كبيرة من المعاملات. فعلى سبيل المثال، تستطيع عملة (EOS) معالجة 50 ألف معاملة في الثانية. بَيْدَ أنها عملة مُشَفَّرَة مركزية، ونظام تداوُلها يتيح خصوصية أقل من تداوُل عملة البيتكوين.
كذلك تضفي التقلبات السعرية بعض التعقيدات. ففي أي معاملة نقدية، يرغب كلا الطرفين في التأكّد من قيمة الأصل محلّ المعاملة4. ومع ذلك، يُمكِن لقيمة عملة البيتكوين أن تختلف بنسبة 10% في غضون دقائق. ولن يُقدِم إلا قليل من الأشخاص على بيع السلع إذا فقدوا جزءًا كبيرًا من قيمة السلعة بين البيع والتسوية.
ويُعدّ تجاوُز بعض مشكلات تقنية سلسلة الكتل المليئة بالتعقيدات جزءًا من حلِّ مشكلة السرعة. فيمكن أن تؤدِّي إضافة طبقة ثانية لشبكة المعاملات بهذه التقنية إلى إتاحة إجراء معاملات خارج إطار سلسلة الكتل. فعلى سبيل المثال، طرح نظام عملة البيتكوين "شبكة معاملات سريعة" تُعرف باسم «لايتنينج» Lightning في عام 2018، وإن كانت لم تكتسب شهرة إلا مؤخرًا. وتتيح الشبكة لطرفين سداد أو تلقي المدفوعات سريعًا خارج السلسلة، بينما تُسجَّل المعاملة.
إدارة التقلُّبات السعرية: يُمكِن أن تشهد أسعار العملات المُشَفَّرَة تقلُّبات هائلة5. ففي العام الماضي، على سبيل المثال، ارتفع سعر عملة البيتكوين من 37 ألف دولار في يناير الماضي إلى 64 ألف دولار في أبريل، وانخفض مرة أخرى رجوعًا إلى 37 ألف دولار بحلول يوليو، ثم ارتفع مجددًا إلى 67 ألف دولار في نوفمبر. وفي شهر يونيو من ذلك العام، هبط بحدة سعر عملة معدنية متوسطة الحجم (هي الآيرون تيتانيوم) من 51 دولارًا إلى 0.0004 دولار خلال 24 ساعة. وتقف أسباب عديدة وراء هذه التقلُّبات، من بينها عدم اكتمال الاستثمارات في هذه الأصول والتداول اللا مركزي لها ومحدودية المعروض من هذه العملات.
ولا تتقلّب أسعار العملات السائدة كثيرًا لأن البنوك المركزية تشتري العملات وتبيعها لتخفيف حدّة التقلبات. كما تخفف منتجات مالية أخرى مثل عقود الخيارات، والعقود الآجلة أيضًا حدّة حركة الأسعار، لأنها تسمح للمستثمرين بالتحوّط من المخاطر المستقبلية. ومع ذلك، فإن طرح مثل هذه الأدوات في أنظمة العملات المُشَفَّرَة لم يحدّ من تقلبات أسعار هذه العملات6. وتفتقر بورصات العملات المُشَفَّرَة إلى وجود حدود وقواعد لإيقاف التداول عندما ترتفع الأسعار أو تنخفض بأكثر من نسبة مئوية مُحَددة على مدار فترة ما. ومن شأن هذه القواعد أن تخدم كمكبح طوارئ لإبطاء هبوط السعر أو تضخُّمه.
وينبغي للباحثين دراسة العوامل التي تُحرِّك تقلُّبات أسعار العملات المُشَفَّرَة والنظر في كيفية التعامل معها. ويجب النظر بعين الاهتمام إلى علاقة العملات المُشَفَّرَة بالأصول الأخرى في حافظات الاستثمار المتنوعة، وإلى تأثير تقلُّبات أسعار هذه العملات، وتأثير تخبط السياسات في ما يخصّ عملة البيتكوين7. ويجب على الجهات التنظيمية تقديم تحذيرات للمستثمرين بشأن التقلبات السعرية.
تعزيز الأمن: من المُمكِن للعملات النقدية أن تُفقَد ولبطاقات الائتمان أن تُسرَق ولجرائم الاحتيال المصرفي أن تقع. وفي بعض الأحيان، يكون الضحايا في هذه الحالات مؤمنًا عليهم، أو يجري تعويضهم بمُوجب نظام تأمين، لكن حال فقدان المفاتيح الإلكترونية لمحفظة عملات مُشَفَّرَة، لا يوجد سبيل للوصول إلى تلك المحفظة، ولا توجد هيئة مركزية لمساعدة مستخدمي تلك العملات. ويشير بعض التقديرات إلى أن ما يصل إلى 25% من جميع عملات البيتكوين التي استُحدِثت في وقت ما -وتُقَدَّر قيمتها بمئات المليارات من الدولارات- غير قابلة للاسترداد حال فقدانها.
ويشيع حدوث الغارات الافتراضية على تلك المعاملات. فعلى سبيل المثال، في عام 2014، اختُرقت بورصة البيتكوين اليابانية «إم تي جوكس» Mt. Gox. وكانت آنذاك تدير 70% من تداولات البيتكوين. وسُرِق ما قيمته 473 مليون دولار من عملات البيتكوين.
وينبغي للباحثين تدارُس الكيفية التي يمكن بها للعملات المُشَفَّرَة أن تصمد على نحو أفضل أمام الهجمات السيبرانية، كما ينبغي أن تغدو عملات البنك المركزي الرقمية التي تُديرها الدول أكثر أمانًا، إلا أن الاحتفاظ بها كذلك يتطلَّب بذل جهود، ويجب أن تقدِّم أسواق البورصة توعية بالمسائل الأمنية على منصاتها، وقد يحتاج مزيدٌ منها إلى تحديد هوية المستخدمين.
إدارة الرسوم: تفرض أنظمة العملات المُشَفَّرَة رسومًا على المعاملات. ويُحدّد الشخص الذي يُجري المعاملة المبلغ المُراد تداوُله، وينشد القائمون على استحداث العملات المشفرة ومصادقة معاملاتها بطبيعة الحال معالجة تداوُل تلك العملات المُشَفَّرَة بأعلى رسوم. وتؤدي المنافسة بينهم إلى زيادة هذه الرسوم (بقيمة تتراوح بين سنت واحد إلى أكثر من 50 دولارًا). ويُعد ارتفاع الرسوم شائعًا عند وجود قائمة معاملات عديدة تحتاج إلى التحقق من صحتها8. يحدث هذا عادةً عندما تنخفض أسعار تلك العملات، ويُحاول المستخدمون التخلُص منها ببيعها، كما حدث مع عملة البيتكوين في مطلع عام 2018.
كذلك يتعيَّن على الباحثين تدارس كيفية التحكُّم في ارتفاع هذه الرسوم والتخفيف من حدتها. ويجب أن يضعوا توجيهات بخصوص كيفية اختيار المستخدمين لرسوم معالجة معاملاتهم. ومن خلال إرساء قواعد تنظيمية وحوافز، يجب تشجيع القائمين على مصادقة المعاملات التي تُجرَى بهذه العملات على إضافة المعاملة إلى الكتلة التالية بسلسلة الكُتل المعنية، على أساس الختم الزمني وليس الرسوم.
توعية المستخدمين: اكتشفت دراسة أجرتها هيئة السلوك المالي عام 2021 أن 78% من المستهلكين في المملكة المتحدة قد سمعوا عن العملات المُشَفَّرَة، وأن قلة فقط منهم تعي آلية تداوُل هذه العملات، وأن نحو 10% ظنوا خطأ أنهم يتمتَّعون بأحد أنواع حماية المستهلك في ما يتعلق بممتلكاتهم من العملات المُشَفَّرَة، كما هي الحال بالنسبة للودائع البنكية. واعتمد أكثر من 40% على المعلومات الواردة من وسائل التواصل الاجتماعي، وتركَّز امتلاك هذه العملات بين الشباب. ويفتقر معظم الخبراء الماليين إلى التدريب على تعقيدات "التكنولوجيا المالية". ولم تبدأ الجامعات إلا مؤخرًا عرضَ نماذج لأنظمة العملات المُشَفَّرَة وسلسلة الكُتل.
وتميل التغطيات الإعلامية في هذه المسألة إلى التركيز على السلبيات، من خلال تسليط الضوء على فقدان المحافِظ، والأعمال الإجرامية، والتقلُّبات السعرية، واستهلاك الطاقة. وتقبل قلة من التجار العملات المُشَفَّرَة، وبعضهم يعزف عنها باعتبارها أدوات جديدة للمضاربين9. لذا، يجب على الشركات وجهات التوعية بذل مزيد من الجهود لتحسين فهم العملاء لأنظمة هذه العملات وبناء الثقة فيها.
حماية الخصوصية: تواجه عملات البنوك المركزية الرقمية تحدّيات كبيرة في ما يتعلق بالخصوصية، بعكس الحال مع العملات المُشَفَّرَة اللا مركزية. فالانتقال إلى مجتمع لا يعتمد على العملات النقدية قد يتيح للحكومات الاطّلاع على جميع معاملاتنا. وبالنظر إلى الاهتمام المتزايد من جانب البنوك المركزية بهذه العملات، توجد حاجة ماسة إلى إجراء بحوث بخصوص استعداد الأفراد لمقايضة الخصوصية بالراحة في معاملاتهم المالية10.
وربما تتمثَّل الخطوة الأولى في الدراسات الاستقصائية الأولية. من هنا، بدأت الصين بالفعل إجراء اختبارات لقوة تداوُل اليوان الإلكتروني. فمنذ عام 2020، أخذ بنك الصين الشعبي في منح عملائه اليوان الإلكتروني بصورة عشوائية، ليسنح لهم استخدامه في شراء السلع والخدمات. وقد جرت تجربة بطاقات مُسبَقة الدفع وتطبيق مصرفي إلكتروني في فبراير الماضي في دورة الألعاب الأولمبية الشتوية المُقامة في بكين، ومن شأن بذل مزيد من الجهود في جميع هذه الجوانب أن يساعد الحكومات وعموم الأفراد على تحديد الشكل الذي ينبغي أن يبدو عليه مستقبل النقود.
اضف تعليق