q
يعيش لبنان أزمة اقتصادية خانقة تفاقمت حدتها في الاشهر الاخيرة، بسبب الخلافات السياسية المستمرة واستمرار الفساد المستشري في الكثير من القطاعات الحكومية وغياب الحلول في هذا البلد، الذي أصبح اليوم وبحسب بعض المراقبين اقرب الى حافة الانهيار او الانزلاق نحو الصراع الداخلي جديد...

يعيش لبنان أزمة اقتصادية خانقة تفاقمت حدتها في الاشهر الاخيرة، بسبب الخلافات السياسية المستمرة واستمرار الفساد المستشري في الكثير من القطاعات الحكومية وغياب الحلول في هذا البلد، الذي اصبح اليوم وبحسب بعض المراقبين اقرب الى حافة الانهيار او الانزلاق نحو الصراع الداخلي جديد، ويشهد لبنان منذ 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019، احتجاجات شعبية ترفع مطالب اقتصادية وسياسية، أجبرت حكومة سعد الحريري على الاستقالة في 29 من الشهر نفسه.

الازمة الاخيرة دفعت المواطن للخروج إلى الشارع للمطالبة بإصلاحات اقتصادية، والمطالبة بضبط أسعار السلع الأساسية والمواد الضرورية، التي بلغت وكما نقلت بعض المصادر، مستويات قياسية بعد انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية أمام الدولار الأمريكي، وكذلك بحل المشكلات التي تُعانيها خدمات الكهرباء والماء والاتصالات والإنترنت، التي باتت تتعرض لانقطاعات متوالية ومتكررة، الأمر الذي يُضاعف معاناة الناس، ويزيد من حالة الاحتقان في صفوفهم.

ويعتمد لبنان بشكل كبير على البضائع المستوردة التي ارتفعت أسعارها، كما رفعت الحكومة أيضا أسعار الخبز المدعوم ما أثار احتجاجات هذا الشهر. ووجد تقرير برنامج الغذاء العالمي في يونيو حزيران أن 50 في المئة من اللبنانيين يتخوفون من أنهم لن يجدوا ما يكفيهم من الطعام. وخسر عشرات الآلاف وظائفهم أو جزءاً من رواتبهم خلال الأشهر القليلة الماضية. وبات نصف اللبنانيين يعيشون تقريباً تحت خط الفقر بينما تعاني 35 في المئة من القوى العاملة من البطالة.

وقد أعلن صندوق النقد الدولي، أن وضع لبنان الاقتصادي والمالي صعب جدا ويحتاج إلى إصلاحات جذرية لتجاوز أزمته الحالية. قالت المديرة التنفيذية لصندوق النقد الدولي كريستالينا جورغيفا إن لبنان يعيش وضعا اقتصاديا صعبا جدا ويحتاج القيام بإصلاحات صعبة لتجاوز أزمته. وأضافت جورغيفا، إن الصندوق يواصل المحادثات مع الحكومة اللبنانية التي بدأت خطة عمل ستقود البلاد بشكل عام باتجاه إصلاح نقاط الضعف البنيوية.

وأوضحت أن المحادثات لم تسفر عن أي تقدم حتى الآن، لكن إدارة الصندوق ستبقى ملتزمة مع لبنان رغم ذلك، مشيرة إلى أن تداعيات جائحة كورونا على الاقتصادي العالمي ستستمر إلى غاية 2021، وقدرت ضررها على الاقتصاد العالمي خلال العام الجاري والعام المقبل بـ12 ترليون دولار.

الخبز والمواصلات

وفي هذا الشأن رفعت الحكومة اللبنانية سعر ربطة الخبز المدعوم جزئيا زنة 900 جرام إلى 2000 ليرة من مستواه قبل أزمة أكتوبر تشرين الأول البالغ 1500 ليرة، في أول تغيير من نوعه للسعر في ثمانية أعوام. وخسرت الليرة اللبنانية المربوطة رسميا عند 1500 للدولار، أكثر من 80 بالمئة من قيمتها منذ أكتوبر تشرين الأول ويجري تداولها الآن في السوق السوداء عند حوالي 9000 للدولار بعد انخفاضات حادة في الأيام القليلة الماضية.

ومنذ أكتوبر تشرين الأول الماضي، انغمس لبنان في أزمة مالية تسببت في إغلاق شركات وقفزة في الأسعار والبطالة. والأزمة هي أسوأ تهديد لاستقرار لبنان منذ الحرب الأهلية التي عصفت به بين عامي 1975 و1990 . ويبقي البلد المثقل بالديون على سعر الربط الرسمي للعملة عند 1507.5، لكن الدولارات عند هذا المستوى متاحة حصريا لواردات الوقود والأدوية والقمح. وفي الأيام القليلة الماضية اصطف اللبنانيون في طوابير عند المخابز مع توقف أصحاب الأفران عن بيع خبزهم إلى المتاجر، مشتكين من أن تكاليف انتاجهم تضخمت بسبب الهبوط السريع في قيمة الليرة.

وهددت المخابز أيضا بوقف توزيع الخبز، قائلة إنها تخسر أموالا. والخبز سلعة غذائية أساسية للسكان في أرجاء الشرق الأوسط. وقال علي إبراهيم، نقيب أصحاب الأفران، لقناة تلفزيون (إل بي سي) اللبنانية ”وقعنا بخسائر كبيرة وقرار رفع سعر ربطة الخبز كان يجب أن يتخذ من قبل.“ وأثارت أزمة الخبز المزيد من الاحتجاجات المناهضة للحكومة قام خلالها المتظاهرون بإغلاق طرق سريعة رئيسية في أرجاء البلاد. وخرج محتجون غاضبون إلى الشوارع مجددا في قلب العاصمة بيروت، واصيبت حركة المرور بالشلل أثناء مظاهرات متقطعة احتجاجا على تدهور الأوضاع المعيشية.

من جانب اخر أعلن لبنان عن زيادة تعرفة سيارات الأجرة والحافلات العامة بنسبة 50 بالمئة للمرة الأولى في حوالي عشر سنوات، وهو ما يعكس زيادات في الأسعار في بلد يعاني انهيارا ماليا. وكان السائقون العموميون قد طالبوا برفع التعرفة وقال سائق الأجرة سعد الياس الذي رحب بزيادة التعرفة ”ما في شي رخيص اليوم.. إذا تعطلت سيارتك فإنك لا تستطيع إصلاحها.“

وقال وزير النقل والاشغال العامة ميشال نجار في مؤتمر صحفي إنه وقع على التعرفة الجديدة لقطاع النقل حيث ارتفعت في منطقة بيروت الإدارية من 2000 ليرة إلى 3000 ليرة لسيارات الأجرة، ومن 1000 ليرة إلى 1500 ليرة للحافلات ومركبات الميني باص ”وهذه التعرفة تأخذ بعين الاعتبار مصلحة المواطنين والقطاع.“ وعبًر قاسم السيلمي، وهو سائق يبلغ من العمر 53 عاما، عن قلقه من خسارة الركاب قائلا ”ليس لدى الناس حتى 3 آلاف ليرة لبنانية لأنهم لا يعملون.“ وقال السيلمي، وهو أب لأربعة أطفال، إن البعض اختار الآن أن يمشي بدلا من دفع أجرة النقل.

وفي تنقلاته اليومية بين بيروت ومدينة طرابلس في شمال لبنان بات عصام ناصر (37 عاما) يكمل طريقه سيرا على الأقدام إلى منزله لتوفير المال. وقال ”من جهة تقول إن سائق التاكسي معه حق، وإن الغلاء طاله بكل شي.. ومن جهة اخرى تقول ليس لديه حق لأن الناس تعاني مثله أيضا.. نحن أكلينها (نعاني) من جميع الجهات.“ بحسب رويترز.

ورغم ان تكلفة الوقود، المدعومة من الدولة، لم تتغير فإن السائقين يقولون إنهم يتكبدون خسائر بسبب ارتفاع تكلفة الإصلاحات بالإضافة إلى زيادات كبيرة في أسعار المواد الغذائية في بلد يعتمد على الاستيراد. واعلنت الحكومة قائمة تضم حوالي 300 سلعة أساسية مدعومة من البنك المركزي. ولا يزال الدولار بالسعر الرسمي البالغ 1506 ليرات متاحا فقط لمستوردي الوقود والقمح والأدوية.

المقايضة من أجل الطعام

في السياق ذاته لجأت سيدة لبنانية إلى مقايضة السكر والحليب والصابون بفستان طفلة صغيرة، وسعت أخرى للحصول على بضائع معلبة مقابل معدات رياضية. والآن تقدم سيدة تبلغ من العمر 65 عاما خدماتها في الحياكة مقابل الطعام، لأن زبائنها لم يعودوا قادرين على دفع المال لها. وأصبحت المقايضة عبر موقع فيسبوك هي الملاذ الأخير لبعض اللبنانيين بعد أن أدى الانهيار المالي بالأسعار لأن ترتفع بشكل حاد هذا العام.

وقالت سهام، وهي أم في السابعة والعشرين من عمرها كانت تعرض جهازا يقوم بغسل زجاجات رضيعها مقابل الطعام ”شغلة كتير حلوة للناس اللي مثلا بحاجة لأغراض ما قادرة تشتريها بالوضع اللي البلد اللي نحنا فيه الدنيا هلا“. واضطر الكثير من اللبنانيين إلى اللجوء للجمعيات الخيرية أو المبادرات الخاصة من أجل العيش والبقاء، في وقت تواجه فيه البلاد أزمة على نطاق غير مسبوق. واجتذبت مجموعة (لبنان يقايض) على فيسبوك التي أسسها حسن حسنا أكثر من 16 ألف عضو خلال شهر تقريبا، ويعتمد عليها الناس في تأمين الطعام والدواء اللذين لم يعودوا قادرين على تحمل تكلفتهما.

وقال حسنا إنه استطاع مع مجموعة من أصدقائه أن يقدموا المساعدة لبعض العائلات. وأضاف ”بس وصلنا لمرحلة إنه حتى الموارد اللي كانت تيجي العينية ولا المادية حتى نقدر نساعد دول العالم صارت كتير قليلة“، ولذا طرأت له الفكرة. ويتلقى حسنا ما يربو على 200 طلب كل يوم.

وقال ”في بعض الأشخاص عم ياخدوا الموضوع بطريقة سلبية: شوف لا وين وصلوا اللبنانيين؟“ لكنه استدرك قائلا إنه لا ينظر إلى الوضع بهذه الطريقة. بحسب رويترز.

وتابع ”اللبناني هو شخص معطاء وكريم، هو شخص بدنا نحافظ له على كرامته. هو شخص عم بيقولك نعم أنا ... (الآن) بوضع اقتصادي صعب، نعم ... الأوضاع شوي متردية، بس مش معناتها إني بدي روح ذل نفسي (أتذلل) واشحد (أتسول)“، وأكد على أن فكرة مقايضة الممتلكات بالطعام ليست سببا للشعور بالخزي.

الانتحار والجريمة

أثارت حالتا انتحار مرتبطتان على الأرجح بضائقة معيشية جراء الانهيار الاقتصادي المتسارع في البلاد، موجة من ردود الفعل المنددة بالأداء الرسمي في إدارة الأزمة. وفي وضح النهار، وفي فسحة أمام مبنى في شارع الحمرا المزدحم في بيروت، يضم مقهى ومتجراً شعبياً ومسرحاً، أقدم مواطن (61 عاماً) من منطقة الهرمل (شرق) على الانتحار بإطلاق رصاصة من مسدس كان بحوزته.

وترك قربه نسخة عن سجله العدلي ملصقة على ورقة كتب تحتها بخط اليد شعار "أنا مش كافر" (لست كافراً) تيمّناً بمطلع أغنية ثورية لزياد الرحباني، يليها عبارة "بس (لكن) الجوع كافر" في دلالة على الأرجح إلى وضعه المعيشي الصعب. وتجمّع العشرات من المتظاهرين في موقع الانتحار وأغلقوا الطريق لوقت قصير رافعين لافتات عدة كتب على إحداها "لم ينتحر، قُتل بدماء باردة". وحمل شاب لافتة ثانية جاء فيها "هاربون للموت بسبب الفقر والجوع".

وخلال نقل الجثة من المكان، كان أحد أقربائه يبكونه. وقال بانفعال "قتل ابن عمي نفسه بسبب الجوع.. لعن الله هذا البلد". وقالت صبا مروة "اليوم ثمّة شخص انتحر في الحمرا والناس ما زالت صامتة ونائمة.. شخص قتلته الطبقة (السياسية) والفقر". وفي قرية جدرا القريبة من مدينة صيدا (جنوب)، وُجدت جثة شاب (37 عاماً) معلقة داخل غرفة في منزله. وقال رئيس بلدية جدرا جوزف القزي إن الشاب، وهو أب لطفلة صغيرة ويعمل سائق حافلة صغيرة، أقدم على شنق نفسه بوساطة حبل علّقه في سقف غرفة الجلوس بينما كانت عائلته خارج المنزل. بحسب فرانس برس.

وكان الشاب يعاني من ظروف مادية صعبة جراء الوضع الاقتصادي المتعثّر، وفق القزي. وأكد متحدث باسم قوى الأمن الداخلي أن الحادثتين انتحار، لافتاً الى ازدياد معدلات الانتحار منذ مطلع العام، من دون أن يتمكن من تحديد النسبة. وعلى حسابه في فيسبوك، كتب الأستاذ الجامعي والاقتصادي جاد شعبان تعليقاً على الحادثتين "من ماتوا اليوم والبارحة وقبلها، قتلوا ولم ينتحروا. قتلوا من قبل طغمة حاكمة مستعدّة لقتلنا وتجويعنا وتفقيرنا حفاظاً على مصالحها".

وتسببت الأزمة المالية التي تجتاح لبنان منذ العام الماضي في تقلص قدرات عدد أكبر من الأسر على التكيف في الوقت الذي انهارت فيه العملة المحلية ولا تقدم الدولة فيه مساعدة تذكر. وفي الشهور الأربعة الأولى من 2020 تضاعفت جرائم القتل في لبنان مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي. وقفزت حوادث سرقة السيارات بما يقرب من 50 في المئة والسرقات بنسبة 20 في المئة وذلك وفقا لتقرير أعدته شركة الأبحاث الدولية للمعلومات في بيروت بناء على بيانات الشرطة.

وفي وقت سابق تم العثور على مدير بأحد البنوك اللبنانية الكبرى مقتولا بالقرب من بيته في إحدى ضواحي بيروت رغم أن الدافع وراء الجريمة لم يتضح. ومع ذلك قال العقيد جوزيف مسلم رئيس شعبة العلاقات العامة بقوى الأمن الداخلي إن مقارنة جرائم العام الحالي بالأعوام السابقة لا تظهر بالضرورة ارتفاعا عاما في الجريمة. وأضاف أنه رغم أن الانهيار الاقتصادي أثر على العنف فإن ”الأمن تحت السيطرة“. غير أن ميريام طوق (28 عاما) المهندسة المعمارية التي سُرقت محفظتها من سيارتها وتعرضت صديقة لها للسرقة في حادث آخر تشعر بقدر أقل من الأمان هذه الأيام. وقالت وهي تتذكر ما حدث ”ما إن وصلت إلى مركز الشرطة ونافذة سيارتي مكسورة قالوا لي ’تعرضت للسرقة على الكورنيش؟‘“

وأحصت قوى الأمن ارتفاع معدل السرقات الموصوفة بواسطة الكسر والخلع لمنازل ومحالّ وصيدليات، إذ بلغت 863 عملية، (معدل وسطي 173 شهرياً) مقابل 650 العام الماضي بأكمله. وأظهر شريط فيديو التقطته كاميرا مراقبة، وتداوله مستخدمون لمواقع التواصل الاجتماعي في لبنان، ثلاثة أشخاص يسيرون في شارع وهم ينقلون خزنة كبيرة سرقوها من إحدى مطاعم بيروت بعد منتصف الليل. وخلال الأشهر الماضية التي شهدت شحاً في السيولة، ونتيجة تشديد المصارف القيود على العمليات النقدية وسحب الأموال خصوصاً بالدولار، بات كثر يعمدون إلى وضع نقودهم في منازلهم.

وفضل البعض أن يشتري بها عقارات أو سيارات بدلاً من تركها في المنازل عرضة للسرقة. وارتفعت كذلك سرقة السيارات، إذا سُرقت 303 سيارة العام الحالي مقارنة مع 273 سيارة خلال النصف الثاني من العام 2019 وفق احصاءات قوى الأمن الداخلي. ويوضح مصدر الأمني "لا يمكن فصل نوعية الجرائم وطبيعتها عن تردّي الوضع الاقتصادي وارتفاع معدّلات البطالة بشكل كبير بين الشباب".

اضف تعليق