سؤال بات يشغل جميع اللبنانيين، فالأزمة استفحلت والخروج منها بات يتطلب وجود حكومة طوارئ تعمل ضمن رؤية اقتصادية واضحة من أجل انقاذ البلد من الانهيار في ظلّ التجاذبات السياسية وفي ظلّ غياب أي خطة انقاذية قد تنشل الوضع الاقتصادي من موته السريري...
هل دخل لبنان فعلاً حلقة الانهيار الاقتصادي والمالي؟ أو أن ما تشهده البلاد حالياً ليس إلا الخطوات الأخيرة التي تسبق الإفلاس؟ وفي الحالتين، إلى متى يستطيع لبنان أن يصمد اقتصادياً بما يحول دون انفجاره اجتماعياً؟
ليست هذه الأسئلة إلا عينة من الهواجس التي تقلق اللبنانيين الرازحين تحت عبء أزمة نقدية- مالية- اقتصادية- معيشية، بدأت تتفجر بشكل متنامٍ، بعد أشهر من التحذيرات التي لم تلق آذاناً صاغية لدى السلطة السياسية المنشغلة بمناكفاتها السياسية.
وفي حين رفعت الانتفاضة الشعبية درجة الخطورة إلى أقصاها، بعدما نزل اللبنانيون بمئات الآلاف إلى الساحات والشوارع في العاصمة بيروت ومختلف المناطق اللبنانية، مطالبين بوقف الاستهتار بحقوقهم وبمكافحة الفساد الذي أدى إلى تفاقم المديونية، واسترداد الأموال المنهوبة من أمام الشعب، فإن الغياب الرسمي الفاقع عن معالجة الأزمة، أدى إلى دخول البلاد في حلقة الانهيار الفعلي، ولم يعد أمامها وقت طويل قبل أن تنهار مختلف القطاعات الاقتصادية والمالية في ظل الضغط الذي تتعرض له.
وعلى الرغم من استمرار الأزمة السياسية والاقتصادية في لبنان عادت البنوك اللبنانية لفتح أبوابها وذلك بعد أسبوع من الإغلاق وسط مخاوف من موجة سحب للودائع خصوصاً بعد اندلاع الاحتجاجات في لبنان تزايدت الضغوط على النظام المالي اذ فرضت البنوك قيوداً صارمةً على سحب الدولار والتحويلات وسط مخاوف من هروب رأس المال وحدوث نقص حاد في الدولار، وبالرغم من دخول الحراك الشعبي في لبنان يومه الـ 53، لا يزال أفق الحل مسدوداً وسط تباعد كبير في الرؤى بين القوى السياسية.
طريق شاق أو الانزلاق
يتعين على ساسة لبنان الاتفاق على حكومة جديدة قادرة على تحقيق الاستقرار للاقتصاد وجذب الدعم الدولي حتى يتمكن هذا البلد من تجنب أزمة اقتصادية أعمق، وبافتراض أنهم تمكنوا من تشكيل مثل هذه الحكومة، فإن الطريق للمستقبل لن يكون سهلا بالنسبة لبلد يتجه إلى انهيار اقتصادي بسبب سوء الإدارة والفساد والإهدار على مدى سنوات.
ويقول خبراء الاقتصاد إن أقل السيناريوهات ضررا سيتمثل في برنامج يقوده صندوق النقد الدولي بهدف منع إنهاك الاقتصاد اللبناني، غير أن زعماء لبنان لم يعلنوا عن وجود مثل هذا الطرح والأزمة الاقتصادية الحالية هي الأسوأ منذ الحرب الأهلية التي دارت بين عامي 1975 و1990، توضح السيناريوهات التالية ما يمكن أن يحدث في ظل وجود وضع معين للاقتصاد اللبناني، إذا ما تمكن الساسة من تشكيل حكومة تحظى بدعم دولي، وما يمكن أن يحدث إذا استمرت الأزمة.
خطة طوارئ
يتفق سعد الحريري رئيس الوزراء في حكومة تصريف الأعمال مع خصومه السياسيين، ومنهم جماعة حزب الله، على تشكيل حكومة سواء بقيادة الحريري أو بمباركة منه، ستبدأ الحكومة محادثات مع دول غربية ودول عربية في الخليج بشأن تقديم دعم طارئ يمكن عقد اجتماع للمانحين ربما في فرنسا ويمكن أن تتضمن الاستجابة ضخا لمليارات الدولارات من جانب الإمارات وغيرها من دول الخليج في النظام المالي.
ويقول خبراء الاقتصاد إنه مع وضع نطاق الأزمة في الاعتبار، فإن لبنان سيكون بحاجة إلى أحد برامج صندوق النقد الدولي وسيتم ربط المساعدات بتنفيذ إصلاحات، وقال مروان ميخايل مدير البحوث لدى بنك بلوم إنفست "يجب أن نأتي بصندوق النقد الدولي" وقال جيسون توفي كبير خبراء الاقتصاد في كابيتال إيكونوميكس إن دعم الصندوق سيكون ضروريا لضمان "تعديل (الوضع) بصورة منظمة"، مضيفا "على الأقل ستضمن عدم انهيار النظام المصرفي وحماية الأكثر فقرا في المجتمع".
وقال توفي "لن يكون صندوق النقد الدولي قادرا على إقراض لبنان دون إعادة هيكلة الدين، وبالتالي فإن ذلك سيتم بصورة أو أخرى أعتقد أن الصندوق سيدفع أيضا باتجاه خفض قيمة العملة إذ يقدر الصندوق قيمتها الحقيقية بنحو نصف قيمتها الحالية"، وأضاف أن التفاوض حول إعادة هيكلة الدين ربما يتضمن خفض الودائع الكبيرة في البنوك وأن هذا سيقلل قيمتها بينما سيتم الإبقاء على حسابات صغار المودعين دون المساس بها وبالتالي يتحمل الأغنياء العبء، بحسب العربية.
انهيار اقتصادي
يثير تأخير تشكيل الحكومة غضب المتظاهرين الذين يطالبون بحكومة مؤلفة من اختصاصيين ومستقلين عن الطبقة السياسية التي يتمسكون برحيلها، إلا أن محللين يستبعدون إمكانية تشكيل حكومة مماثلة في بلد يقوم نظامه على المحاصصة السياسية والطائفية، متوقعين تشكيل حكومة مختلطة تضم اختصاصيين وسياسيين، وتداولت الأوساط السياسية والإعلامية اسم مرشّح جديد لتولي رئاسة الحكومة هو المهندس ورجل الأعمال سمير خطيب، المدير العام لإحدى كبرى الشركات الهندسية في لبنان والتي تعمل في دول عدة حول العالم.
وتقول رشا إنها لا تعرف شيئاً عن المرشح الجديد، لكنها تعتبر أن "من نريده اليوم يجب أن يكون متخصصاً بالاقتصاد" ليسهم في إيجاد حلول إنقاذية، وترى مديرة مركز كارنيغي للشرق الأوسط مهي يحيى أن لبنان "في خضم انهيار اقتصادي"، وبالتالي على أي حكومة جديدة أن "تردم فجوة الثقة مع المجتمع الدولي، ولكن الأهم مع الشارع".
فقر وبطالة
تعدّ الأزمة الراهنة وليدة سنوات من النمو المتباطئ، مع عجز الدولة عن إجراء إصلاحات في البنى التحتية وخفض العجز، وتراجع حجم الاستثمارات الخارجية، عدا عن تداعيات الانقسام السياسي الذي فاقمه النزاع في سوريا المجاورة منذ العام 2011 على اقتصاد يعتمد أساساً على الخدمات والسياحة، وارتفع الدين العام إلى 86 مليار دولار، ما يعادل 150 في المئة من إجمالي الناتج المحلي وكان لبنان ينتظر الحصول على 11,6 مليار دولار كهبات وقروض أقرّها مؤتمر "سيدر" في باريس عام 2018، مقابل إصلاحات هيكلية وخفض عجز الموازنة، لكن الانقسام إزاء تطبيق هذه المشاريع والخلاف على الحصص والتعيينات، حال دون وفاء الحكومة بالتزاماتها.
وتقول مديرة مركز "كارنيغي" في الشرق الأوسط مهى يحيى "لا نتجه إلى أزمة، نحن في خضم تدهور اقتصادي"، وتوقّع البنك الدولي أن يسجل العام الحالي نسبة ركود أعلى من تلك المتوقعة مع نمو سلبي بنحو 0,2 في المئة، وحذّر من أن معدل الفقر (ثلث اللبنانيين) قد يرتفع الى خمسين في المئة، ونسبة البطالة (أكثر من 30%) في صفوف الشباب مرشحة لارتفاع حاد، وبدأت قطاعات حيوية التحذير من سيناريوهات كارثية.
وحذرّت قطاعات عدة من أنها لن تتمكن من استيراد مواد أساسية من الخارج بسبب شح الدولار، وطالب وزير الصحة العامة جميل جبق مصرف لبنان بالتدخل لتوفير المبالغ الضرورية اللازمة بالدولار لتسهيل استيراد المعدات الطبية، ولاحظ اللبنانيون انقطاع عدد من الأدوية وارتفاعاً كبيراً في أسعار المواد الغذائية، مقابل تقلّص قدرتهم الشرائية.
وضع سقف لأسعار الفائدة
قال مصرف لبنان المركزي، إن البنوك اللبنانية ستضع سقفا جديدا لأسعار الفائدة على الودائع وستدفع للمودعين نصف الفوائد على الودائع بالعملات الأجنبية بالليرة اللبنانية، في خطوات قال إنها تهدف إلى حماية الودائع، وفي تعميم أشار إلى "الظروف الاستثنائية" في لبنان، الغارق في أزمة اقتصادية، قال مصرف لبنان المركزي أيضا إنه سيستخدم العملة المحلية لدفع نصف الفوائد على الودائع بالدولار الأمريكي التي تودعها البنوك اللبنانية لديه.
وقال خبراء اقتصاديون إن القرارات تهدف إلى مساعدة الاقتصاد عن طريق خفض أسعار الفائدة للمقترضين، التي ارتفعت مع سعي لبنان إلى إنعاش تدفقات رؤوس الأموال من الخارج، ولتخفيف الضغط على احتياطيات العملات الأجنبية وتفرض الالبنوك قيودا مشددة على الوصول إلى العملة الصعبة والتحويلات إلى الخارج خشية هروب رؤوس الأموال بينما يواجه لبنان أسوأ أزمة اقتصادية منذ الحرب الأهلية التي دارت رحاها بين عامي 1975 و1990.
وجاء في تعميم مصرف لبنان المركزي أن هذه القرارات تأتي "حفاظا على المصلحة العامة في الظروف الاستثنائية الراهنة التي تمر بها البلاد حاليا وحفاظا على مصلحة المودعين بعدم انتقاص ودائعهم المصرفية" وذكر التعميم أن سقف أسعار الفائدة على الودائع بالعملات الأجنبية ينبغي أن يكون عند خمسة بالمئة وعلى الودائع بالليرة اللبنانية عند 8.5 بالمئة، وسيُطبق سقف أسعار الفائدة على جميع الودائع الجديدة وتلك التي تم تجديدها وقال البنك المركزي إنه يتعين على البنوك سداد الفائدة على الودائع بالعملات الأجنبية مناصفة بين عملة الحساب والليرة اللبنانية.
تنامي قلق المودعين
تغذي قيود تفرضها البنوك اللبنانية على السيولة بواعث قلق لدى المودعين الذي يخشون على مدخراتهم رغم تأكيدات الحكومة بأنها آمنة من أسوأ أزمة مالية تشهدها البلاد منذ الحرب الأهلية بين 1975 و1990، تجتاح الاحتجاجات لبنان منذ 17 أكتوبر تشرين الأول مما يفرض مزيدا من الضغوط على النظام المالي ويعمق أزمة عملة صعبة تمنع مستوردين كثيرين من جلب السلع، الأمر الذي يدفع الأسعار للصعود ويزيد المخاوف من حدوث انهيار مالي.
جاءت استجابة البنوك - التي قيدت حدود السحب للعملة الأجنبية وأوقفت تقريبا جميع التحويلات إلى الخارج - لتلقي بضبابية كثيفة على كثير من المودعين، وقال منير فقيه، وهو متقاعد يبلغ 66 عاما ومدخراته بالعملة الأجنبية هي ثمرة عمله بالخارج 17 عاما، "يوجد قلق، قلق كبير: إذا كنت ادخرت طوال حياتي لجمع مبلغ ووضعته هنا، فأين سيذهب؟".
ووصف رئيس جمعية مصارف لبنان في مقابلة مع رويترز الأسبوع الماضي القيود بأنها "حاجز لحماية النظام" حتى تعود الأمور إلى طبيعتها وقال مصرف لبنان المركزي إن الودائع آمنة؛ لكن القلق يتنامى فقد شهدت القيود على السحب بالدولار مزيدا من التشديد منذ بدء تطبيقها.
وهزت الأزمة الثقة في نظام مصرفي ظل أحد أركان استقرار لبنان ما بعد الحرب، اذ يعد دور البنوك مهم في النظام من خلال جذب الدولارات من الجاليات اللبنانية الضخمة في الخارج، واستخدامها في تمويل الدولة المثقلة بالديون والعجز التجاري للبنان، وفي ظل عدم تسمية الزعامات الطائفية المنقسمة رئيس وزراء جديدا منذ دفعت الاحتجاجات سعد الحريري للاستقالة في 29 أكتوبر تشرين الأول، تتأخر إصلاحات ضرورية لانتشال الاقتصاد من الأزمة، ويخشى المودعون من أن أموالهم لم تعد في مأمن.
خفض تصنيف لبنان إلى CCC/C
قالت وكالة ستاندرد آند بورز جلوبال للتصنيفات الائتمانية إنها خفضت تصنيف لبنان الائتماني السيادي فيما يتعلق بالعملات الأجنبية والمحلية على المدى البعيد والقريب من (B-/B) إلى C/CCC مشيرة إلى تزايد المخاطر المالية والنقدية وأضافت إن التوقعات بالنسبة لبنان سلبية موضحة أن ذلك يعكس الخطر المتعلق بالجدارة الائتمانية للبنان جراء تزايد الضغوط المالية والنقدية المرتبطة بالاحتجاجات الواسعة النطاق التي شهدها هذا البلد في الآونة الأخيرة واستقالة الحكومة.
وعمت لبنان احتجاجات نجمت إلى حد ما عن أسوأ أزمة اقتصادية منذ الحرب الأهلية التي شهدتها البلاد فيما بين عامي 1975 و1990 مما أدى إلى إغلاق البنوك وإصابة لبنان بالشلل والحد من قدرة مستوردين كثيرين على شراء بضائع من الخارج، وقال وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل إن وزير المالية السابق محمد الصفدي وافق على تولي رئاسة الحكومة المقبلة في حالة فوزه بتأييد القوى السياسية الأساسية.
وأشارت ستاندرد آند بورز إلى تراجع الثقة في الحوكمة والاقتصاد بلبنان مما أدى إلى وقف تدفق الودائع المصرفية وقالت إن الحكومة اللبنانية ستحتاج إلى دعم خارجي من المانحين أو حزمة إصلاح داخلي كبيرة لمواصلة ديونها الحكومية العامة، خفضت الوكالة بشكل أكبر تصنيفها الائتماني لثلاثة بنوك لبنانية هي بنك عوده وبنك بلوم وبنك ميد فيما يتعلق بجدارتها بالاستثمار مشيرة إلى تزايد ضغوط السيولة.
اضف تعليق