تعد الحروب أسوء أزمة ممكن أن يمر بها أي بلد، لأثارها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية والتي قد تستمر لعقود حتى بعد انتهاء الحرب نفسها، والحرب الدائرة في سوريا هي خير دليل على ذلك، حيث الدمار والخراب في كل مكان وعلى كافة الأصعدة بات واضحاً وجلياً من خلال ماتتناقله وسائل الاعلام، وعلى الصعيد الاقتصادي قدر البنك الدولي في تقريره أن اجمالي خسائر الاقتصاد السوري بـ 226 مليار دولار جراء الحرب المستمرة في البلاد منذ اكثر من ست سنوات والتي اوقعت خسائر بشرية فادحة ودماراً في البنى التحتية، وأفاد التقرير الصادر بعنوان "خسائر الحرب: التبعات الاقتصادية والاجتماعية للصراع في سوريا" بان الحرب المستمرة منذ العام 2011 "تسببت في خسارة في إجمالي الناتج المحلي بما قيمته 226 مليار دولار، أي أربعة أضعاف هذا الإجمالي العام 2010"، ومنذ اندلاعها، تسببت الحرب بدمار هائل في البنى التحتية وبمقتل اكثر من 320 الف شخص بحسب المرصد السوري لحقوق الانسان، بالاضافة الى نزوح وتشريد اكثر من نصف السكان داخل البلاد وخارجها، ويذكر نائب رئيس البنك الدولي لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا حافظ غانم "إن الحرب في سوريا تمزق النسيج الاجتماعي والاقتصادي للبلاد"، واوضح ان "عدد الضحايا مدمر ولكن الحرب تدمر أيضا المؤسسات والنظم التي تحتاجها المجتمعات لتقوم بوظائفها، وسيشكل إصلاحها تحدياً أكبر من إعادة بناء البنية التحتية، وهو تحدٍ سيظل ينمو ويتعاظم مع استمرار الحرب".
وبحسب التقرير، فإن "نحو 27% من مجموع الوحدات السكنية قد دُمرت أو تضررت جزئياً" كما "تضرر نحو نصف مجموع المنشآت الطبية جزئياً"، ويعتمد البنك الدولي في احتساب الاضرار على صور الأقمار الصناعية وعلى بيانات مستقاة من دراسة تقييم الأضرار في سوريا ومعلومات من المنظمات الشريكة الموجودة على الارض، ويتحدث البنك الدولي عن تقديرات تفيد بأن "6 من بين كل 10 سوريين يعيشون الآن في فقر مدقع بسبب الحرب". ويلحظ كذلك فقدان نحو 538 ألف وظيفة سنوياً في الفترة الممتدة من العام 2010 حتى العام 2015. ويقول ان ثلاثة من اصل اربعة سوريين في سن العمل، اي ما يقارب تسعة ملايين شخص، لا يعملون أو غير منخرطين في أي شكل من أشكال الدراسة أو التدريب، كما وقد تضرر القطاع الصحي بشكل كبير جراء الحرب، وفق التقرير الذي يورد ان "عدد السوريين الذين يموتون بسبب عدم القدرة على الحصول على الرعاية الصحية أكبر من عدد المتوفين كنتيجة مباشرة للقتال"، ويخلص التقرير الى ان "انهيار الأنظمة التي تنظم الاقتصاد والمجتمع، كما والثقة التي تربط الناس معاً، لهما أثر اقتصادي أسوأ من تدمير البنية التحتية المادية"، ولم يركز التقرير على مسألة اعادة الاعمار في سوريا وكلفتها، لكنه توقع في حال انتهاء النزاع في العام الحالي، "تقلص الفجوة بين إجمالي الناتج المحلي ومستواه قبل اندلاع الصراع بنحو 41% في السنوات الأربع المقبلة" على ان تزداد الخسائر سنوياً في حال استمرار النزاع.
القطاع النفطي المتضرر الاكبر نتيجة الحرب
تضررت كافة القطاعات الاقتصادية لا سيما الانتاج النفطي خلال ست سنوات من الحرب المدمرة التي تشهدها سوريا، وفق ما أعلن عدد من الوزراء خلال مؤتمر اقيم مؤخراً في دمشق، ويتصدر قطاع الطاقة قائمة القطاعات المتضررة جراء النزاع الذي ألحق دماراً هائلاً بالبنى التحتية واضراراً فادحة بالمجالات الحيوية، وفق ما أعلن المشاركون في المؤتمر الذي اقيم بعنوان "الحرب في سوريا: تداعياتها وآفاقها"، حيث ذكر وزير النفط السوري علي غانم ان "الحرب على سوريا استهدفت بالدرجة الاولى القطاع الاقتصادي وبشكل ممنهج القطاع النفطي"، وأضاف "تحولنا من بلد منتج ومصدر للنفط الى بلد يستورد كل احتياجاته النفطية"، وان "الخسائر في القطاع النفطي بلغت حتى تاريخه 66 مليار دولار" لافتا الى تراجع انتاج النفط بنسبة 98 في المئة من العام 2010 حتى 2017. كما انخفض انتاج الغاز خلال الفترة نفسها نحو 52 في المئة.
وانخفض انتاج سوريا من النفط بحسب الوزير، من 385 الف برميل يومياً الى ثمانية الاف برميل، فيما تراجع انتاج الغاز من 21 مليون متر مكعب حتى تسعة ملايين متر مكعب. وتوقف انتاج الفوسفات كلياً، ورغم هذا الواقع، أعرب وزير النفط عن تفاؤله متوقعاً ارتفاع معدلات الانتاج اثر سيطرة القوات الحكومية على عدد من الحقول التي كانت بأيدي تنظيم الدولة الاسلامية خصوصاً في ريف حمص (وسط)، والى جانب القطاع النفطي، تضررت الكهرباء بشكل كبير خلال ست سنوات من الحرب، اذ أفاد وزير الكهرباء زهير خربوطلي في المؤتمر ذاته، ان تلبية الطلب قبل اندلاع النزاع بلغت 97 في المئة فيما انخفضت حاليا الى 27 في المئة "بسبب محدودية مادة الفيول والغاز"، وبلغ اجمالي الطاقة الكهربائية المنتجة سنويا قبل الحرب 49.7 مليار كيلوواط ساعي مقابل 19 مليار كيلوواط ساعي حالياً.
وقدر خربوطلي الاضرار التي لحقت بقطاع الكهرباء بنحو ألفي مليار ليرة سورية ( 3.8 مليار دولار)، وعزا هذا الانخفاض الى خروج عدد من المحطات الكهرباء والخطوط الكهربائية عن الخدمة بسبب "الاعتداءات المتكررة من قبل المجموعات الارهابية" او لوقوعها في المناطق الخاضعة لسيطرة الفصائل المقاتلة، من جهته، قدر وزير النقل علي حمود خسائر قطاع النقل منذ بدء النزاع باربعة مليارات و567 مليون دولار، أما على مستوى التعليم، فقد تضررت نحو 7000 مدرسة في سوريا اي ما يقارب ثلث عدد مدارس البلاد، 500 مدرسة منها في حلب (شمال)، بحسب وزير التربية هزوان الوز، كما انخفض عدد المدرسين بنسبة 37 في المئة. وغادر البلاد 22 في المئة من افراد الهيئة التعليمية في المرحلة الجامعية.
الخوف من حصول مجاعة بسبب نقص الغذاء
ذكرت وكالتان تابعتان للأمم المتحدة إن انتاج الغذاء في سوريا تراجع إلى أدنى مستوياته على الإطلاق فيما يعاني ملايين المدنيين مع حلول شتاء سادس عام على الحرب، وصرحت منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (فاو) وبرنامج الأغذية العالمي إن الكثير من المزارعين اضطروا لإهمال أرضهم ولم يستطيعوا تحمل أسعار البذور والأسمدة ووقود الجرارات الآخذة في الارتفاع، وأضافت الوكالتان في تقرير مشترك أن إنتاج القمح الضروري لصناعة الخبز -وهو عنصر أساسي على مائدة الطعام السورية- تراجع من 3.4 مليون طن متري في المتوسط قبل نشوب الحرب في 2011 إلى 1.5 مليون هذا العام.
وجاء في التقرير أن هناك عجز يقدر بنحو 838 ألف طن في احتياجات البلاد من القمح البالغة 3.854 مليون طن مع أخذ الواردات التجارية في الاعتبار، وتابع أن المساحة المزروعة بالحبوب في موسم حصاد 2015-2016 هي "الأصغر على الإطلاق". وأظهرت زيارات ميدانية ومسوح إنتاجا أعلى من المتوسط للشعير الذي تحول إليه بعض المزارعين نظرا لأن المحصول الذي ينمو على مياه الأمطار أكثر مقاومة من القمح ولتأثر مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية بالجفاف، ويثير نقص الغذاء قلقا شديدا في شرق حلب الذي يخضع لسيطرة مقاتلي المعارضة وتحاصره القوات الحكومية حيث تقول الأمم المتحدة إن ما بين 250 ألفا و275 ألف شخص ما زالوا يعيشون في المنطقة.
وقد ذكرت المصادر أن المؤسسة العامة للحبوب في سوريا أبرمت صفقة لشراء مليون طن من القمح من روسيا حليفة الرئيس السوري بشار الأسد لتلبية احتياجات المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة لمدة عام، وكانت سوريا قبل الحرب بلدا مصدرا للماشية، اذ تقلص عدد الماشية والأغنام الآن كثيرا إذ صار عدد الماشية أقل 30 بالمئة وتراجعت أعداد الخراف والماعز 40 في المئة كما سجلت أعداد الدواجن -التي تعتبر بالطبع المصدر الأرخص للبروتين الحيواني- انخفاضا هائلا بلغ 60 بالمئة، وأضافت أن أكثر من سبعة ملايين شخص في سوريا مصنفون على أنهم "غير آمنين غذائيا" بما يعنى أنهم لا يضمنون من أين ستأتيهم وجبتهم التالية. وتابعت "80 بالمئة من الأسر في سوريا تعاني من نقص الغذاء أو نقص المال اللازم لشراء الغذاء."
انهيار القطاع المصرفي وانخفاض سعر صرف الليرة السورية بنحو 60%
انخفض سعر صرف الليرة السورية بنحو ستة في المئة مقابل الدولار الاميركي، اذ حدد مصرف سوريا المركزي سعر صرف الدولار مقابل الليرة السورية بـ517,40 ليرة كسعر وسطي للمصارف و517,30 ليرة كسعر وسطي لمؤسسات الصرافة"، وكانت نشرة يوم الخميس الذي يعد اخر ايام الاسبوع في سوريا (العطلة الاسبوعية الجمعة والسبت) الصادرة عن المصرف، حددت سعر صرف الدولار مقابل الليرة السورية بـ487,44 ليرة سورية كسعر وسطي للمصارف و487,42 ليرة كسعر وسطي لمؤسسات الصرافة، وبلغ سعر صرف الدولار الاميركي في السوق السوداء الاحد نحو 550 ليرة سورية، وفي ايار/مايو الماضي، شهدت الليرة السورية تراجعا كبيرا مقابل الدولار بلغ 20 في المئة في يوم واحد، ما دفع المصرف المركزي الى ضخ ملايين الدولارات في السوق بهدف احتواء الازمة، وكان الدولار الاميركي يساوي عام 2011 لدى بدء النزاع في سوريا 48 ليرة سورية.
وعزا المحلل الاقتصادي المستقل شادي احمد الانخفاض الجديد لسعر صرف الليرة السورية في تصريح "الى زيادة الطلب على الدولار من قبل الحكومة من اجل تأمين المشتقات النفطية"، وان الحكومة تسعى لتأمين مادة البنزين بسبب حالة الاختناق الحاصلة في الاسواق كما المازوت (الضروري للتدفئة) قبل حلول فصل الشتاء نافيا اي علاقة بين ارتفاع سعر صرف العملة والوضع الميداني، وتشهد محطات الوقود في العاصمة السورية شحا في مادة البنزين حيث تصطف السيارات في طوابير طويلة للحصول عليها، ويشكل انخفاض قيمة العملة السورية دليلا ملموسا على الاقتصاد المنهك جراء النزاع الدائر في سوريا في ظل تقلص المداخيل والايرادات وانخفاض احتياطي القطع الاجنبي.
ومن أجل الحيلولة دون تفاقم الأزمة بشكل أكبر قرر مصرف سوريا المركزي ضخ ملايين الدولارات في السوق بهدف احتواء ازمة ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الليرة السورية والذي زاد بنسبة عشرين في المئة في يوم واحد، واعلن المصرف الزامه جميع شركات الصرافة ببيع المواطنين قطعا أجنبيا مباشرة بسعر 620 ليرة سورية مقابل الدولار الواحد دون تقاضي أي عمولات" بعدما كان حدد سعر الصرف الرسمي ب513 ليرة، وياتي هذا القرار بعد انخفاض غير مسبوق في سعر صرف الليرة مقابل الدولار، مع وصول سعر صرف الدولار الى 625 ليرة سورية في السوق السوداء. وفقدت العملة الوطنية اكثر من 92 في المئة من قيمتها منذ بدء النزاع السوري في العام 2011، إذ كان الدولار الواحد يعادل 48 ليرة سورية، والزم المصرف المركزي "جميع شركات الصرافة بشراء مليون دولار ومكاتب الصرافة بشراء مئة الف دولار، على أن يتخذ قرار فوري باغلاق كل مؤسسة لا تنفذ طلب الشراء هذا".
من جهة أخرى اعلن البنك الدولي الاربعاء انهيار احتياطي المصرف المركزي السوري من العملات الاجنبية بحيث تراجع من 20 مليار دولار (17 مليار يورو) قبل النزاع الى 700 مليون دولار (616 مليون يورو).
وتابع البنك الدولي ان اجمالي الناتج الداخلي في سوريا تراجع بنسبة 19% في العام 2015 ويفترض ان يشهد تراجعا جديدا ب8% في 2016، في المقابل، ارتفع العجز في الموازنة بشكل كبير من 12% من اجمالي الناتج الداخلي خلال الفترة بين 2011 و2014 الى 20% في 2015 ويفترض ان يصل الى 18% في 2016، وتعاني سوريا خصوصا تراجعا للعائدات النفطية من 4,7 مليارات دولار في العام 2011 (4,1 مليار يورو) الى 0,14 مليار دولار (0,12 مليار يورو) في 2015. وبات تنظيم داعش الارهابي يسيطر على غالبية ابار النفط في سوريا، وتقدر الامم المتحدة انه لا بد من استثمار 158 مليار يورو لاعادة اجمالي الناتج الداخلي الى مستواه قبل النزاع، ونقل البنك الدولي عن المركز السوري لابحاث السياسات ان كلفة الدمار في البنى التحتية بلغت 75 مليار دولار (66 مليار يورو)، وتسعى الحكومة حالياً لتفادي هذه الأزمة بشتى الصور والحلول، وأخرها عبر تعديل الوزاري يشمل 6 وزارات على الأقل بينهم وزارات سيادية، حيث تجدر الإشارة إلى أنه في 29 آذار الماضي، شهدت حكومة عماد خميس تعديلاً وزارياً طال وزارات العدل والاقتصاد والتنمية الإدارية، كما يلاحظ أن الأثار الناتجة عن الازمة و العقوبات، إضافة إلى الإجراءات و السياسات الحكومية تزيد من التضخم و تعيق الإنتاج، أي تزيد من حالة الركود التضخمي في البلاد. فإذا ما قررت الدولة التخلي نهائيا عن دورها الاقتصادية و تبني الليبرالية الاقتصادية بحجة أنها لا تملك الموارد، عليها أن تحافظ بالحد الادنى على دورها الاجتماعي على الأقل لاحتواء الأثار الإجتماعية السلبية الناجمة عن هذا الانتقال الغير مدروس و المستمر بشكل متزايد في أصعب الظروف الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية التي تمر بها البلاد.
اضف تعليق