علامات الحياة بدأت تدب في الاقتصاد المصري بسبب نتائج التدابير الاقتصادية الصارمة التي اتخذتها الحكومة المصرية في الشهور الأخيرة، من بينها تعويم الجنيه وفرض ضرائب إضافية وخفض دعم الوقود، ما أسهم في عودة الثقة، ولو جزئيا، في مناخ الأعمال المصري، واستعادة الاقتصاد لعافيته.
الا أن البيانات الخاصة بالجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء أظهرت أن معدل التضخم السنوي في مدن مصر قفز إلى 30.2 بالمئة ليسجل أعلى مستوى منذ 1986 عندما بلغ 30.6 بالمئة، ويواصل التضخم بذلك الارتفاع بعد أن وصل إلى 28.1 بالمئة مقارنة مع 23.3 بالمئة، وقفز التضخم الأساسي أيضا حيث بلغ 33.1 بالمئة، وإن القفزة التي حدثت في سعر الدولار 2016 "هي السبب في ظهور التضخم عند تلك المستويات، ويتوقع استمرار الارتفاع شهرا آخر أو شهرين قبل أن يبدأ في التراجع."
وتخلت مصر عن ربط سعر صرف الجنيه بالدولار الأمريكي في خطوة مفاجئة أدت منذ ذلك الحين إلى هبوط العملة بنحو النصف تقريبا، حيث بلغ سعر شراء الدولار في البنوك الحكومية اليوم نحو 17.55 جنيه مقارنة مع 7.83 جنيه في 2016، وتشهد مصر قفزات هائلة في أسعار السلع الأساسية وغير الأساسية منذ تعويم الجنيه، وأشار هاني جنينة من بلتون المالية إلى أن وتيرة التضخم تراجعت على أساس شهري في فبراير شباط "وهذا إيجابي جدا، لا تنس أن السنة المقابلة في المقارنة كان سعر الدولار فيها منخفضا جدا."
وتعمل الحكومة على تحرير أسعار الطاقة بشكل كامل خلال 2018-2019 وفقا لاتفاقها مع صندوق النقد الدولي، وتمثل مسألة توفير الغذاء بأسعار في متناول المواطنين قضية حساسة في مصر التي يعيش الملايين فيها تحت خط الفقر وشهدت الإطاحة برئيسين خلال ست سنوات لأسباب منها السخط على الأوضاع الاقتصادية.
حيث تسعى الحكومة منذ أواخر 2015 للتصدي لارتفاع أسعار السلع الأساسية وتستخدم شاحنات الجيش وشاحنات وزارة التموين في توزيع مواد غذائية مدعمة على الفقراء بجانب زيادة عدد المتاجر التي يديرها الجيش وتحديث جميع المتاجر التابعة لوزارة التموين لجذب المواطنين إليها، وفي وقت سابق تظاهر مئات المصريين في أنحاء البلاد حيث أغلقوا طرقا وحاصروا مكاتب حكومية بعد تغيير في طريقة توزيع حصص الخبز المدعم مما أثار المخاوف من أن الحكومة تخفض الدعم من الباب الخلفي.
ويتوقع بعض الاقتصاديين أن يؤدي ارتفاع التضخم إلى تآكل القدرة الشرائية مما سيضر بالنمو الاقتصادي ويدفع نحو مزيد من رفع أسعار الفائدة التي تصل حاليا إلى 15.75 بالمئة، وأبقى البنك المركزي المصري على أسعار الفائدة مستقرة في ثلاثة اجتماعات للسياسة النقدية منذ قرار تعويم العملة لكن بعض الاقتصاديين يتوقعون مزيدا من الزيادات هذا العام، وتعقد لجنة السياسة النقدية بالبنك اجتماعها التالي.
الجنيه المصري يواصل الهبوط مع تزايد الطلب على الدولار
واصل الجنيه المصري الهبوط مع تنامي الطلب من المستوردين على الدولار قبل شهر رمضان الذي عادة ما يزيد فيه استهلاك المواد الغذائية، ومن المتوقع أن يبدأ شهر رمضان في مايو آيار من هذا العام وعادة ما يشتري المصريون كميات كبيرة من المواد الغذائية المتنوعة وسلع أخرى خلال الشهر، وتبيع البنوك الدولار بسعر يتراوح بين 16.85 و16.9 جنيه مقارنة مع مستوى يتراوح بين 16.1 و16.2 جنيه.
وتخلى البنك المركزي المصري عن ربط الجنيه بالدولار عند مستوى 8.8 جنيه للدولار في الثالث من نوفمبر تشرين الثاني آملا في أن يجذب تدفقات أجنبية وعودة المستثمرين الأجانب الذين عزفوا عن البلاد بعد انتفاضة 2011 التي أطاحت بالرئيس الأسبق حسني مبارك، وأدى تحرير سعر الصرف إلى انخفاض قيمة الجنيه بواقع النصف تقريبا ليصل الدولار إلى قرابة 20 جنيها، لكن الجنيه ارتفع منذ ذلك الحين ليبلغ ما يقل قليلا عن 16 جنيها للدولار في ضوء تراجع الطلب على الدولار من أجل الاستيراد.
حيث ذكر الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر إن العجز التجاري تراجع بواقع 40.5 في المئة ، مدفوعا بتراجع كبير في الواردات تجاوز 1.6 مليار دولار، وأضاف بيان صادر عن الجهاز الأحد أن العجز في ميزان التجارة المصري هبط إلى 2.38 مليار دولار مقابل قراءة 2015 التي سجلت عجزا تجاريا بلغ 4 مليارات دولار، وهبطت قيمة الصادرات بنسبة 1.3 ٪، إذ بلغت 2.01 مليار دولار خلال 2016 مقـابل 2.04 مليار دولار لنفس الشهر من العام السابق، بحسب البيان.
وجاء الانخفاض في الصادرات المصرية مدفوعا بهبوط في كميات النفط الخام، والأسمدة، والملابس الجاهزة بواقع 29.3، و15.8، و7.1 في المئة على الترتيب، كما تراجعت الواردات إلى حدٍ كبير بواقع 27.3 في المئة، مسجلة 4.39 مليار دولار مقابل صادرات 2015 التي سجلت 6.03 مليار دولار، وجاء القمح في صدارة الواردات التي شهدت تراجعا إذ بلغت نسبة التراجع 41.6 في المئة، أما واردات اللدائن (مدخلات صناعة البلاستيك) فتراجعت بواقع 29.7 في المئة، علاوة على هبوط واردات المواد الأساسية مثل الحديد والصلب بحوالي 18.1 في المئة.
في المقابل، شهدت واردات سلع أخرى مثل السكر المكرر والأنابيب والمواسير، والنفط الخام، وفول الصويا زيادات كبيرة مقارنة بقراءة نفس الفترة من العام السابق 2015، حيث قرر البنك المركزي المصري تحرير سعر صرف الجنيه المصري مقابل الدولار الأمريكي ، مما أدى إلى ارتفاع هائل في سعر الدولار الأمريكي مقابل الجنيه إلى مستويات تجاوزت 19 جنيها مقارنة بسعر الصرف المحدد قبل قرار التحرير من قبل البنك المركزي بحوالي 8.88 جنيها.
وكان تضاعف سعر صرف الدولار مقابل الجنيه المصري سببا أساسيا من أسباب تراجع الواردات في مصر التي تستورد حوالي ثلثي الاحتياجات الضرورية للمواطنين، إذ أحجم كثير من المستوردين عن استقدام كميات كبيرة من السلع الأساسية والضرورية نظرا لارتفاع سعر الصرف وصعوبة الحصول على العملة الصعبة منذ قرار تعويم الجنيه.
وتعاني مصر من ارتفاع هائل في الأسعار، خاصة أسعار السلع الأساسية والضرورية، مثل السكر، نتيجة للارتفاع الكبير فيه في سعر صرف الدولار واستيراد أكثر من 60 في المئة من الاحتياجات الضرورية، وسجلت القراءة السنوية للتضخم مستوى قياسيا جديدا، ووصل إلى 29.6 في المئة، وهو أعلى معدل منذ بداية التسجيل بهذا المؤشر.
البنك الدولي يؤكد على إن الاصلاحات يجب أن تركز على الاستثمار
صرح مسؤول كبير بالبنك الدولي إن مصر بحاجة إلى تطبيق إصلاحات اقتصادية تهدف إلى التشجيع على زيادة الاستثمارات الخاصة والانتقال من الدعم إلى التحويلات الموجهة للفقراء، وذكر حافظ غانم نائب رئيس البنك الدولي للشرق الأوسط وشمال افريقيا إن المجموعة التالية من الإصلاحات الاقتصادية التي ستطبقها القاهرة ينبغي أن تركز على زيادة الشفافية في منظومة الإجراءات الرسمية أمام المستثمرين.
وأفاد غانم إن مثل تلك الإصلاحات مهمة في إطار تحول أوسع نطاقا بأنحاء الشرق الأوسط من نموذج إجتماعي يقوم على الدعم الحكومي إلى مزيد من الاعتماد على تطوير القطاع الخاص، وأضاف أن تعيين حكومة جديدة في لبنان خفف الأزمة السياسية وأبدى اعتقاده في استمرار التزام المانحين بمعالجة أزمة اللاجئين السوريين رغم التحول صوب مزيد من الانكفاء الاقتصادي في بعض الدول الغربية، وبين البنك الدولي إن مجلس إدارته أقر شريحة ثانية بمليار دولار من حزمة قرض حجمها ثلاثة مليارات دولار لمصر، وأبلغ غانم رويترز أنه يتوقع العمل مع القاهرة صوب إقرار الشريحة الثالثة قرب نهاية العام الحالي.
وأضاف أن الإجراءات المتخذة على صعيد الاقتصاد الكلي وعلى صعيد سعر الصرف كانت ضرورية لزيادة جاذبية الاستثمار أمام الشركات ولتوفير النقد الأجنبي ولكي يصبح الاستيراد ممكنا وتحويل الأرباح إلى الخارج، ويرى حافظ إن معظم اقتصادات المنطقة عانت في مواجهة انخفاض أسعار النفط في الأعوام الأخيرة، وفي حين يعمل منتجو النفط على تنويع موارد اقتصاداتهم فقد تأثر المستوردون أيضا بانخفاض دخل التحويلات والمساعدات والاستثمارات والسياحة القادمة من دول الخليج.
وأضاف أن بوادر حل الأزمة السياسية سمحت بالمضي في حزمة قيمتها مليار دولار كان لبنان قد حصل على تعهد بها بالفعل وتشمل نحو 500 مليون دولار لمشروع سد بسري الهادف إلى معالجة نقص المياه في بيروت، ولبنان والأردن من أكبر مستقبلي اللاجئين السوريين وسط أكبر أزمة نزوح في العالم منذ الحرب العالمية الثانية وهو ما فرض ضغوطا كبيرة على اقتصادي البلدين ونموذجهما الاجتماعي.
ورغم أن كلا من لبنان والأردن فرض إجراءات لمنع دمج السوريين في سوق العمل المحلية المتشبعة بالفعل فإن مثل تلك المناطق الاقتصادية الخاصة تسمح بتوظيف اللاجئين والمواطنين على حد سواء حسبما أفاد غانم وهي تهدف إلى خلق 200 ألف وظيفة.
فرص الاقتصاد في استعادة التوازن
ذكرت وكالة فيتش للتصنيفات الائتمانية إن نمو احتياطيات النقد الأجنبي وعودة التدفقات الرأسمالية الخاصة وارتفاع قيمة العملة كلها عوامل تشير إلى تحقيق مزيد من التقدم في استعادة ميزان المعاملات الخارجية لمصر توازنه تدريجيا في أوائل 2017، اذ استمر نمو احتياطيات مصر من النقد الأجنبي حيث بلغ صافي الاحتياطات 26 مليار دولار وبما يزيد أكثر من عشرة مليارات دولار عن مستواها المتدني الذي بلغته في يوليو تموز 2016.
وتذكر فيتش إن عودة التدفقات الأجنبية على الخزانة المصرية أدت لانخفاض عوائد أدوات الدين الحكومية حيث تراجع العائد على أذون الخزانة لأجل 91 يوما بنحو 200 نقطة أساس في شهر وإن كانت العوائد ارتفعت في عطاءات لاحقة بما يشير لتقلبات محتملة.
وأضافت "هذه التطورات الإيجابية تعكس إلى حد كبير (أثر) التدفقات القادمة من مؤسسات ثنائية ومتعددة الأطراف -لاسيما صندوق النقد الدولي والبنك الدولي- واستئناف تدفقات المحافظ الأجنبية والتحويلات بعدما حررت السلطات سعر صرف الجنيه إلى جانب انكماش الواردات وتحسن نشاط التصدير."
ورغم تحسن العملة المحلية في الآونة الأخيرة حذرت فيتش من أن الجنيه لا يزال يقل نحو 44 بالمئة عن مستواه قبل التعويم وهو ما قد يجعل من الضروري إجراء إصلاحات أوسع في الدعم الحكومي في الأمد القريب لتحقيق أهداف العجز لعام 2017، وأضافت أن ذلك سيزيد ذلك من الضغوط التضخمية وستكون مسألة حساسة من الناحية السياسية وهو ما يزيد من خطر اندلاع اضطرابات اجتماعية تدفع الحكومة للتراجع عن بعض الإصلاحات، وأشارت فيتش إلى أن قدرة الحكومة المصرية على الموازنة بين الإصلاحات المالية والنقدية والاقتصادية ومخاطر اندلاع احتجاجات شعبية يظل عاملا مهما يؤخذ في الاعتبار في التصنيفات السيادية.
اضف تعليق