ما نشهده هو محاولة واضحة من جانب ترمب، وماسك، وأقرانهما من أصحاب المليارات لصياغة نوع من الرأسمالية على غرار المناطق الخارجة عن القانون في عالم الـبحار. إنه ليس مجرد تمرد ضريبي؛ بل هو هجوم شامل على أي قانون يهدد التراكم الشديد للثروة والسلطة. يتجلى في احتضانهم للعملات المشفرة...
بقلم: جوزيف ستيغليتز

نيويورك ــ من الواضح أن دونالد ترمب لا يتلكأ في تحويل الولايات المتحدة إلى أكبر ملاذ ضريبي في التاريخ. لا يحتاج المرء إلا إلى أن ينتبه إلى تفويض وزارة الخزانة بالانسحاب من نظام الشفافية الذي يكشف عن هويات أصحاب الشركات الحقيقية؛ وانسحاب الإدارة من المفاوضات الرامية إلى إبرام اتفاقية إطارية تابعة للأمم المتحدة بشأن التعاون الضريبي الدولي؛ ورفضها تطبيق قانون الممارسات الأجنبية الفاسدة؛ وإلغاء التنظيم الضريبي للعملات المشفرة.

يبدو هذا جزءا من استراتيجية أوسع لتقويض 250 عاما من الضمانات المؤسسية. فقد انتهكت إدارة ترمب معاهدات دولية، وتجاهلت تضارب المصالح، وفككت الضوابط والتوازنات، وصادرت الأموال المخصصة من قبل الكونجرس. الواقع أن الإدارة لا تناقش السياسات، بل تدوس على سيادة القانون.

لكن ترمب يحب ضريبة واحدة: التعريفات الجمركية على الواردات. ويبدو أنه يعتقد أن الأجانب هم من يدفعون الفاتورة، فيوفرون بهذا الأموال اللازمة لخفض الضرائب المفروضة على أصحاب المليارات. يبدو أنه يعتقد أيضا أن الرسوم الجمركية ستزيل العجز التجاري وتعيد التصنيع إلى الولايات المتحدة. ناهيك عن أن التعريفات الجمركية يدفعها المستوردون، فإنها التالي تدفع الأسعار المحلية إلى الارتفاع، وهي تُـفـرَض فضلا عن ذلك في أسوأ وقت ممكن، في وقت حيث تتعافى الولايات المتحدة من نوبة تضخم.

علاوة على ذلك، يُظهر الاقتصاد الكلي الأساسي أن العجز التجاري المتعدد الأطراف يعكس التفاوت بين المدخرات المحلية والاستثمار المحلي. وسوف تُـفضي تخفيضات ترمب الضريبية لصالح أصحاب المليارات إلى توسيع الفجوة، لأن العجز يُـطرَح من المدخرات الوطنية المحلية. لذا، من عجيب المفارقات أن تعمل سياسات مثل التخفيضات الضريبية لصالح أصحاب المليارات والشركات على زيادة العجز التجاري.

منذ عهد رونالد ريجان، ادّعى المحافظون أن التخفيضات الضريبية تغطي تكاليفها من تلقاء ذاتها عن طريق تعزيز النمو الاقتصادي. لكنها لم تعمل على هذا النحو مع ريجان، ولم تعمل على هذا النحو مع ترمب أثناء فترة ولايته الأولى. الواقع أن الأبحاث التجريبية تؤكد أن التخفيضات الضريبية التي يستفيد منها الأغنياء لا تخلف أي تأثير ملموس على النمو الاقتصادي أو البطالة، لكنها تزيد من اتساع فجوة التفاوت في الدخل فورا وعلى نحو متواصل. والتمديد المقترح لقانون التخفيضات الضريبية والوظائف لعام 2017 ــ أكبر تخفيضات ضريبية لصالح الشركات في تاريخ الولايات المتحدة ــ من شأنه أن يضيف حوالي 37 تريليون دولار إلى الدين الوطني الأميركي على مدار السنوات الثلاثين المقبلة، دون أن يحقق التعزيز الاقتصادي الموعود.

كما يساهم ترمب في تفاقم العجز التجاري على مستوى الاقتصاد الجزئي أيضا. فقد أصبحت الولايات المتحدة اقتصاد خدمات. فبين أكبر صادراتها السياحة، والتعليم، والرعاية الصحية. لكن ترمب عمل بشكل منهجي على تقويض كل من هذه الخدمات. فما الذي قد يجعل أي سائح، أو طالب، أو مريض راغبا في القدوم إلى الولايات المتحدة وهو يعلم أنه قد يُـعـتَـقَـل تعسفيا ويُـحـتَـجَـز لأسابيع؟ لقد ألقى تقويض المؤسسات التعليمية الأميركية الرائدة، وإلغاء تأشيرات الطلاب تعسفيا، ووقف تمويل البحث العلمي، بظلال كئيبة على هذه القطاعات الـحِـرِجة.

ويأتي نهج ترمب المعيب استراتيجيا بنتائج عكسية بالفعل. فالصين تُـعَد بين أكبر شركاء أميركا التجاريين، وتعتمد الولايات المتحدة عليها في تأمين واردات بالغة الأهمية. وقد انتقمت الصين بالفعل. وضَـرَبَ الخوف من الركود التضخمي ــ ارتفاع التضخم مع ركود النمو ــ أسواق الأسهم والسندات. وهذه ليست سوى البداية.

بفضل إدارة الكفاءة الحكومية التي يديرها إيلون ماسك، قد تسجل عائدات الضرائب هبوطا شديدا بنسبة تزيد عن 10% هذا العام بسبب ضعف تدابير الإنفاذ والامتثال. وخفض أعداد موظفي مصلحة الضرائب بنحو 500 ألف وظيفة من شأنه أن يُـفـضي إلى خسارة 2.4 تريليون دولار من الإيرادات على مدار السنوات العشر المقبلة، مقارنة بالزيادة المتوقعة بنحو 637 مليار دولار بموجب أحكام قانون خفض التضخم الذي يهدف إلى تعزيز قوة العمل في مصلحة الضرائب. والأجندة واضحة: ليس خفض معدلات الضرائب لصالح الأغنياء وحسب، بل وأيضا إضعاف تدابير الإنفاذ.

في عالم حيث يتسنى لرؤوس الأموال والأفراد الأغنياء عبور الحدود بِـحُـرّية، يشكل التعاون الدولي السبيل الوحيد المتاح للحكومات لضمان فرض ضرائب عادلة على الشركات المتعددة الجنسيات وأصحاب الثراء الفاحش. في هذا السياق، يكشف وقف إنفاذ جمع بيانات الملكية النافعة، والتسامح مع أسواق العملات الرقمية المعززة لإخفاء الهوية، والتخلي عن عملية إبرام اتفاقية ضريبية جديدة تحت إشراف الأمم المتحدة وفرض حد أدنى عالمي للضرائب، عن نمط متعمد: تفكيك الأطر المتعددة الأطراف المصممة لمكافحة التهرب الضريبي وغسل الأموال. ويشير "الإيقاف المؤقت" لتدابير إنفاذ قانون الممارسات الأجنبية الفاسدة إلى أن الولايات المتحدة لم تعد تمانع حتى في الرشوة والكسب غير المشروع.

ما نشهده هو محاولة واضحة من جانب ترمب، وماسك، وأقرانهما من أصحاب المليارات لصياغة نوع من الرأسمالية على غرار المناطق الخارجة عن القانون في عالم "الـبِـحار". إنه ليس مجرد تمرد ضريبي؛ بل هو هجوم شامل على أي قانون يهدد التراكم الشديد للثروة والسلطة.

يتجلى هذا في أشد صوره وضوحا في احتضانهم للعملات المشفرة. فقد أدى انفجار بورصات العملات الرقمية غير الخاضعة للتنظيم، وكازينوهات الإنترنت، ومنصات المراهنات إلى تعزيز الاقتصاد العالمي غير المشروع. في عهد ترمب، رفعت وزارة الخزانة الأميركية العقوبات والضوابط التنظيمية المفروضة على المنصات التي تحجب المعاملات. حتى أن ترمب وقّع أمرا تنفيذيا يقضي بإنشاء "احتياطي استراتيجي من العملات الرقمية المشفرة" وعقد أول قمة للعملات الرقمية في البيت الأبيض. ثم حذا مجلس الشيوخ الأميركي حذوه، فألغى بندا كان من شأنه أن يُـلزِم منصات العملات الرقمية المشفرة بتحديد هويات المستخدمين والإبلاغ عن مخالفاتهم.

الواقع أن ترمب، الذي أصدر هو نفسه عملة ميمية مثيرة للجدال، وقد يطلق قريبا لعبة فيديو قائمة على العملات الرقمية المشفرة، على غرار "مونوبولي"، قام الآن بتنصيب أحد المطلعين من عالم العملات الرقمية المشفرة على رأس لجنة الأوراق المالية والبورصات. بول أتكينز عضو مجموعة سياسات تدافع عن الأصول المشفرة والأنظمة المالية غير المصرفية.

تدور العملات المشفرة حول شيء واحد: السرية. لدينا عملات مناسِـبة تماما في هيئة الدولار والين واليورو وغيرها. ولدينا منصات تداول فعّالة لشراء السلع والخدمات. يأتي الطلب على العملات المشفرة من الرغبة في إخفاء الأموال. فالأشخاص المتورطون في أنشطة شائنة، بما في ذلك غسل الأموال وتجنب الضرائب والتهرب منها، لا يريدون أن يكون من السهل تتبع أفعالهم.

لا يجوز لبقية العالم أن يقف متفرجا. لقد رأينا أن التعاون العالمي من الممكن أن ينجح، كما يتضح من الحد الأدنى العالمي للضريبة على أرباح الشركات المتعددة الجنسيات بنسبة 15%، والذي بدأ تطبيقه في أكثر من 50 دولة الآن. في إطار مجموعة العشرين، يدعو الإجماع الذي جرى التوصل إليه العام الماضي بقيادة البرازيل أصحاب الثراء الفاحش إلى دفع نصيبهم العادل.

لقد نأت الولايات المتحدة بنفسها عن الاتفاقات الدولية، ولكن من عجيب المفارقات أن غياب دبلوماسيتها قد يساعد في تعزيز المفاوضات المتعددة الأطراف لتحقيق نتيجة أكثر طموحا. في الماضي، كانت الولايات المتحدة لتطالب بإضعاف اتفاقية ما (عادة بما يعود بالفائدة على مصلحة خاصة أو أخرى)، لكنها في النهاية ترفض التوقيع عليها. هذا هو ما حدث أثناء مفاوضات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بشأن فرض الضرائب على الشركات المتعددة الجنسيات. والآن، بات بوسع بقية بلدان العالم أن تباشر مهمة تصميم بنية ضريبية عالمية عادلة وفعالة.

إن معالجة التفاوت الشديد من خلال التعاون الدولي والمؤسسات الشاملة هو البديل الحقيقي لارتفاع موجة الاستبداد. وتخلق العزلة الذاتية التي تضربها أميركا حول نفسها الفرصة لإعادة بناء العولمة على أسس متعددة الأطراف حقا ــ إنها لحظة البناء من الصِـفر في القرن الحادي والعشرين.

* جوزيف ستيغليتز، حائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، وأستاذ بجامعة كولومبيا وكبير خبراء الاقتصاد في معهد روزفلت. من كتبه: خيبات العولمة، وكتاب الناس والسلطة والأرباح: الرأسمالية التقدمية لعصر الاستياء، وكتاب ”الطريق إلى الحرية: الاقتصاد والمجتمع الصالح

https://www.project-syndicate.org

اضف تعليق