قد يُـفضي تجاهل العواقب التكنولوجية المترتبة على mBridge والترميز إلى خسارة استراتيجية كبرى. فالدولار يتجه ببطء نحو تمثيل أكثرية فقط، وليس أغلبية، من التسويات العالمية. وأستعير هنا كلمات كارستينز الثاقبة في عام 2022: "دعونا نضمن أن نظامنا المالي يَـبني على سبل حوكمة المال القائمة، ويخدم المصلحة العامة، ويعمل...
بقلم: أندرو غالوتشي
واشنطن، العاصمةــ في خضم الدوامة الأخيرة من الأخبار السياسية، حدث تطور مهم لمستقبل الأموال العامة المدعومة تكنولوجيا. أثناء قمة مجموعة البريكس في قازان، روسيا، كشف بنك التسويات الدولية عن انسحابه من مشروع مبادرة الأصول الرقمية والمدفوعات mBridge.
بدأ تصور هذه المبادرة في عام 2022 كدار مقاصة للعملات الرقمية للبنوك المركزية، وقد عملت على ترسيخ عمل بنك التسويات الدولية نحو نظام تسوية عالمي بين البنوك لربط عملات البنوك المركزية الرقمية خارج سيطرة أي حكومة منفردة. بالاستفادة من مكاسب الكفاءة التي حققتها تكنولوجيا سلاسل الكتل (blockchain) قدمت مبادرة mBridge إجابة لكل من يشعرون بخيبة الأمل إزاء المدفوعات البطيئة وغير الميسورة التكلفة عبر الحدود. وفي شهر يونيو/حزيران، ضاعف بنك التسويات الدولية جهوده في تفعيل هذه المبادرة، بإضافة المملكة العربية السعودية إلى قائمة البنوك المركزية المؤسِّـسة ودفعها إلى خارج المرحلة التجريبية.
لا شك أن المدير العام لبنك التسويات الدولية أجوستين كارستينز، مدفوعا بالرياح الجيوسياسية المعاكسة التي تهب من قازان، صَـرَّحَ في اجتماع مجموعة الثلاثين في أواخر أكتوبر/تشرين الأول قائلا: "لا نستطيع أن ندعم بشكل مباشر أي مشروع لمجموعة البريكس لأننا لا نستطيع العمل مع دول خاضعة لعقوبات". تعكس تعليقات كارستينز التوتر المتنامي في العواصم الغربية. ففي حين يدعم كثيرون الجهود الرامية إلى استخدام التكنولوجيا الجديدة لجعل النظام المالي أكثر كفاءة ومساواة، فإنهم لا يريدون التبشير بنظام عالمي لم يعد قائما على القانون والمعايير الغربية.
سلطت وكالات الاستخبارات الأميركية الضوء لفترة طويلة على هذه المقايضة عندما حذرت من دول مارقة تبني آليات تسوية بديلة مقاوِمة للعقوبات أو تستخدم أصولا افتراضية لتسهيل التجارة الثنائية (بين روسيا والصين على سبيل المثال). في قازان، لم يُـخـف زعماء مجموعة البريكس جهودهم الرامية إلى إنشاء نظام مالي جديد والتخلص من الدولار، على نحو يردد صدى دعوات روسية قديمة لإنشاء عملة موحدة لمجموعة البريكس تعتمد على تقنية سلاسل الكتل لتحصين التجارة ضد العقوبات الغربية.
السؤال غير المريح الذي يواجه صناع السياسات الغربيين هو ما إذا كانت رؤيتهم لاقتصاد رقمي لا تحده حدود ويكرس القيم الغربية ربما تُـخدَم بشكل أفضل حقا من خلال نموذج تقوده الدولة حيث تحتل البنوك المركزية مركز الصدارة وتنظم التجارة على المستوى فوق الوطني. برغم كل شيء، كان النظام الذي يقوده القطاع الخاص ويتولى القطاع العام تحكيمه هو القاعدة على مدار السنوات الثمانين الأخيرة.
كانت الأموال الخاصة الوسيطة هي التي تُـصَـدِّر القواعد والأعراف الغربية، وأدى ذلك إلى إنشاء حصن مالي يتجاوز حدود أعضاء حلف شمال الأطلسي وترسيخ العقوبات الأميركية وتدابير مكافحة غسل الأموال في العمل المصرفي الدولي والتجارة العالمية. حملت البنوك والشركات المتعددة الجنسيات الدولارات إلى كل ركن من أركان الكوكب تقريبا، وعملت في الوقت ذاته كمبعوثين للعملة الأميركية والنظام المالي الأميركي. لعقود من الزمن، أحبط هذا النظام غاسلي الأموال، والدول الراعية للإرهاب، وتجار المخدرات، وغيرهم من المجرمين، ودفعهم إلى إيجاد أساليب أكثر إبداعا للتهرب.
لكن التبني السريع من جانب القوى المارقة لأشكال غير منظمة من الأموال الرقمية أدى إلى تنشيط المناقشات ــ بين كل من دول البريكس والزعماء الغربيين ــ حول إصلاح البنية المالية العالمية القائمة. وليس من المستغرب أن تكون دول البريكس في طليعة مشاريع مثل mBridge، نظرا لقدرتها على قلب نظام بريتون وودز القائم. ولكن بدلا من التهرب من mBridge والمشاريع التجريبية الناجحة لخطوط التجارة العالمية والمدفوعات الجديدة، ينبغي للقادة الغربيين أن يفكروا في كيفية تحقيق أقصى استفادة منها.
وكما خدمت خطوط التمويل الدولية القديمة أهداف السياسة الغربية، فإن الخطوط الرقمية الجديدة قادرة على تحقيق ذات الأهداف. فمع إثبات mBridge بالفعل أن تكنولوجيا سلاسل الكتل قادرة على ربط الاقتصاد العالمي من خلال معاملات بسرعة الإنترنت، فإن السؤال الوحيد الآن هو كيفية إيجاد التوازن الصحيح بين المشاركة العامة والخاصة.
قد تكون الإجابة بسيطة بشكل مخادع: البديل الأكثر وعدا لرؤية البريكس هو الحفاظ على البنية القائمة ولكن تحديث الخطوط التي توزع الدولار واليورو والجنيه الإسترليني. في الوقت الحالي، لا يزال نحو 90% من تدفقات النقد الأجنبي بالدولار، لكن أحدث تقييم صادر عن مجلس الاستقرار المالي للمدفوعات عبر الحدود يؤكد أن نظام العملة الورقية القديم الهش والبطيء والمكلف يحتاج إلى ترقية. ومع ارتفاع تكاليف مدفوعات المستهلكين عبر الحدود، يتلخص سلاح أميركا غير السري لمعالجة أوجه القصور في النظام ومواجهة طموحات خصومها ببساطة في تبني الدولارات الرقمية المنظمة والسماح للقطاع الخاص بمواصلة ما كان يفعله.
ولكن هل يستطيع صناع السياسات الغربيون مضاهاة حماس قادة مجموعة البريكس للتحول الرقمي واتخاذ خطوات لتنظيم الدولارات الرقمية؟ إذا كان الأمر كذلك، فإن إحدى أولى خطواتهم ينبغي أن تكون إنشاء هيكل تنظيمي للأموال الرقمية الخاصة في هيئة عملة مستقرة بالدولار، والتي تحظى بالفعل بالدعم من الحزبين في مجلس الشيوخ الأميركي ومجلس النواب. إن تدوين معيار أميركي للاستخدام الآمن والسليم والمنظم للدولارات الرقمية ــ سواء كانت صادرة عن مصادر عامة أو خاصة ــ من شأنه أن يشكل استجابة رسمية جديرة بالثقة في نظر أولئك الذين يريدون تسليط الضوء على المقايضة بين استخدام الدولار والمشاركة في الاقتصاد الرقمي.
على النقيض من ذلك، قد يُـفضي تجاهل العواقب التكنولوجية المترتبة على mBridge والترميز إلى خسارة استراتيجية كبرى. فالدولار يتجه ببطء نحو تمثيل أكثرية فقط، وليس أغلبية، من التسويات العالمية. وأستعير هنا كلمات كارستينز الثاقبة في عام 2022: "دعونا نضمن أن نظامنا المالي يَـبني على سبل حوكمة المال القائمة، ويخدم المصلحة العامة، ويعمل بالتعاون مع القطاع الخاص".
اضف تعليق