تواجه البلاد تحديا، من شأن سياسات ترمب أن تزيد الأمور سوءا على سوء. حتى قبل الجائحة، كان متوسط العمر المتوقع في الولايات المتحدة ــ وهو بالفعل الأدنى بين الاقتصادات المتقدمة ــ في انحدار في عهد ترمب. ومن خلال سعيه إلى إلغاء قانون الرعاية الميسرة والفقرة الخاصة في قانون...

بقلم: جوزيف ستيغليتز

نيويورك- مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الحاسمة في أميركا، بلغ الحملة ذروة الحماس، مع إصدار دونالد ترمب ومحاسيبه وعودا متزايدة التطرف حول ما قد يفعلونه بالسلطة. ولكن مثل هذه الوعود، على سبيل المثال فيما يتصل بالسياسة المالية، سوف تُـنـقَـض حتما. فمن المستحيل رياضيا خفض الضرائب المفروضة على الشركات وأصحاب المليارات، ودعم البرامج الأساسية مثل الدفاع والضمان الاجتماعي، وخفض العجز في ذات الوقت.

تأتي بعض وعود حملة ترمب الأكثر عبثية من إيلون ماسك، الذي يدّعي أنه يعرف كيف يخفض 2 تريليون دولار من الميزانية الفيدرالية. إنه ادعاء مُـضـحِـك حقا، خاصة وأنه صادر عن شخص تعتمد شركاته بدرجة كبيرة على العقود الحكومية وعمليات الإنقاذ (لولا القرض الذي تلقته من إدارة أوباما بقيمة 465 مليون دولار، لكانت شركة تيسلا أفلست تماما).

تَـنُـم مزاعم ماسك عن جهل مذهل بالاقتصاد والسياسة. فمقترحاته ترقى إلى خفض حوالي ثلث إجمالي الإنفاق الحكومي ــ أي ثمانية أمثال ما يقدره مكتب المحاسبة العامة (الجهة الرقابية الحكومية الداخلية) على أنه يشكل إهدارا أو احتيالا. فبين أمور أخرى، ستضطر الولايات المتحدة إلى خفض كل الإنفاق "التقديري"، بما في ذلك على الدفاع، والصحة، والتعليم، ووزارتي الخزانة والتجارة، فضلا عن خفض الضمان الاجتماعي، والرعاية الطبية للمسنين، وغير ذلك من البرامج الراسخة التي تحظى بشعبية كاسحة.

الواقع أن مثل هذه التخفيضات الوحشية تعني أن ترمب سيحاول إقناع الكونجرس بإدخال تغييرات كبيرة على هذه البرامج. ولكن لا تحبسوا أنفاسكم انتظارا لأي شيء. فقد حظي ترمب بالفعل بأربع سنوات لتفكيك "الدولة الإدارية" عندما كان رئيسا، ولم يفعل ذلك. والآن يبذل وعودا شعبوية من شأنها أن تضيف إلى (لا أن تُـنقِـص) العجز ــ أكثر من 7.5 تريليون دولار في العقد المقبل.

الواقع أن مثل هذه التخفيضات المؤلمة من شأنها أن تخلف تأثيرات مدمرة على الاقتصاد والمجتمع في الولايات المتحدة. فمن المحتم أن تفشل سياسات القطع والحرق. وكما ساهمت استراتيجية "شَـدّ الحزام" التي انتهجها وزير الخزانة الأميركي أندرو ميلون في عهد هربرت هوفر في إحداث أزمة الكساد الأعظم، أدت سياسات التقشف في المملكة المتحدة في ظل حكم المحافظين الذي دام أربعة عشر عاما إلى خمسة عشر عاما من الركود.

إن التناقض بين البرامج الاقتصادية التي يقترحها كل من ترمب وكامالا هاريس شديد الوضوح. فمن شأن أجندة هاريس أن تخفض تكاليف المعيشة ــ استنادا إلى أحكام قانون خفض التضخم التي تقضي بالحد من تكاليف الأدوية والطاقة ــ وأن تجعل أسعار المساكن أقرب إلى المتناول، في حين أن تعريفات ترمب الجمركية (ضريبة على السلع المستوردة) من شأنها أن تجعل كل شيء أكثر تكلفة للأميركيين، وخاصة الأسر ذات الدخل المتوسط والأدنى.

في كل مجال تقريبا حيث تواجه البلاد تحديا، من شأن سياسات ترمب أن تزيد الأمور سوءا على سوء. حتى قبل الجائحة، كان متوسط العمر المتوقع في الولايات المتحدة ــ وهو بالفعل الأدنى بين الاقتصادات المتقدمة ــ في انحدار في عهد ترمب. ومن خلال سعيه إلى إلغاء قانون الرعاية الميسرة والفقرة الخاصة في قانون خفض التضخم التي تقضي بخفض أسعار الأدوية الموصوفة، سيزيد ترمب الوضع سوءا على سوء.

بالمثل، تتصدر أمريكا قائمة الاقتصادات المتقدمة في اتساع فجوات التفاوت، وتخفيضات ترمب الضريبية لصالح الأثرياء من شأنها أن تزيد من اتساع فجوات التفاوت. على النقيض من ذلك، تستهدف سياسات هاريس بشكل مباشر تحسين مستويات معيشة الطبقة المتوسطة.

بالإضافة إلى الأزمات الصحية وفجوات التفاوت، يكلف تغير المناخ الأميركيين غاليا من الأرواح فضلا عن الأضرار التي تلحق بالممتلكات. ومع ذلك، كان ترمب حريصا على التقرب من أباطرة الوقود الأحفوري للحصول على مساهماتهم في الحملة، واعدا إياهم بخفض القيود المفروضة على التلوث في المقابل. وهو بهذا لن يترك أمريكا متخلفة عن بلدان أخرى عديدة في الانتقال إلى اقتصاد الطاقة النظيفة فحسب؛ بل إنه سيجعل الولايات المتحدة منبوذة دوليا (مرة أخرى).

كل هذا مجرد عينة من الأسباب العديدة التي دفعت 23 من علماء الاقتصاد الأميركيين الحائزين على جائزة نوبل مؤخرا إلى التوقيع على رسالة مفتوحة تؤيد هاريس. من الصعب حمل اثنين من خبراء الاقتصاد على الاتفاق على كثير من أي شيء، لكننا خلصنا إلى أن "أجندة هاريس الاقتصادية في مجملها ستعمل على تحسين صحة أمتنا، واستثماراتها، واستدامتها، وقدرتها على الصمود، وفرص العمل فيها، والعدالة، وأنها ستكون متفوقة بدرجة هائلة على أجندة ترمب الاقتصادية الـهَـدّامة". تلعب القضايا المرتبطة بحافظة النقود دورا مهما في هذه الانتخابات، وقد خلصنا نحن علماء الاقتصاد الحائزون على جائزة نوبل إلى أن "كامالا هاريس ستكون دون أدنى شك راعية أفضل كثيرا لاقتصادنا".

يرغب كثيرون من الأميركيين في نسيان كل الفوضى (والوفيات الزائدة بسبب جائحة كوفيد-19) التي سادت خلال رئاسة ترمب. ولكن لا ينبغي لنا ذلك. فمع سعي ترمب صراحة إلى الانتقام من ما يسميه "الأعداء في الداخل"، وبعد أن تحول الحزب الجمهوري الآن إلى مجرد طائفة تعبد شخص ترمب، فلا شك أن الرئاسة الثانية ستكون حتى أسوأ من الأولى.

في حين تعتمد قوة أميركا الاقتصادية على أسس من العلم والتكنولوجيا، فقد اقترح ترمب مرارا وتكرارا تخفيضات هائلة في الإنفاق على البحث على المستوى الفيدرالي، وهو ما من شأنه أن يلحق ضررا جسيما بالتقدم الذي تحقق في العلوم الأساسية والذي تمتد تأثيراته الجانبية إلى كثير من القطاعات الاقتصادية الأساسية. عندما كان ترمب في المنصب، أدرك حتى الجمهوريون مدى تهور مقترحاته في هذا المجال وصوتوا ضدها. ولكن الآن أصبح خضوع الحزب له على نحو مُـحَـقِّـر للذات تاما.

في رسالة مفتوحة أخرى، انضم إليّ زملائي من علماء الاقتصاد الحائزين على جائزة نوبل (أكثر من 80 في المجموع). ونشير معا إلى أن "الزيادات الهائلة في مستويات المعيشة ومتوسط العمر المتوقع على مدى القرنين الأخيرين كانت إلى حد كبير نتيجة للتقدم في العلوم والتكنولوجيا. تدرك كامالا هاريس هذه الحقيقة وتفهم أن الحفاظ على زعامة أمريكا في هذه المجالات يتطلب دعم الموازنة من جانب الحكومة الفيدرالية، والجامعات المستقلة، والتعاون الدولي. كما تدرك هاريس الدور الرئيسي الذي اضطلع به المهاجرون دائما في تقدم العلوم".

من المحزن أن حتى ماسك ــ الذي تعتمد شركاته على علوم أساسية يرعاها آخرون ــ لم يضع في اعتباره بشكل كامل ما قد يجلبه ترمب من ضرر على دخله في نهاية المطاف. لقد أغرى الجشع الذي يحمل الناس على رؤية المكسب القريب فقط ــ الهوس بالتخفيضات الضريبية وتخفيف القيود التنظيمية ــ كثيرين من قادة الصناعة والتمويل بالانضمام إلى فريق ترمب. إن ترمب يعرض علينا رأسمالية ريعية قائمة على المحسوبية، وهو نوع من الرأسمالية التي حتى لو نجحت مع ماسك وغيره من أصحاب المليارات فلن تكون مفيدة لبقيتنا. لكن هاريس، على الأقل، تبث الأمل في قدرة الأميركيين، من خلال التدبر المتعقل والتعاون، على خلق اقتصاد أكثر مرونة وشمولا وأسرع نموا ــ اقتصاد يتفوق على رأسمالية المحسوبية ويتقاسم فوائد النمو بقدر أعظم من العدالة.

* جوزيف ستيغليتز، حائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، وأستاذ بجامعة كولومبيا وكبير خبراء الاقتصاد في معهد روزفلت. من كتبه: خيبات العولمة، وكتاب الناس والسلطة والأرباح: الرأسمالية التقدمية لعصر الاستياء، وكتاب ”الطريق إلى الحرية: الاقتصاد والمجتمع الصالح

https://www.project-syndicate.org

اضف تعليق