يُظهِر أي مقياس عريض لسعر صرف الدولار الحقيقي المعدل تبعا للتضخم النسبي لدى شركاء أميركا التجاريين الرئيسيين أن الدولار أعلى كثيرا من مستوياته التاريخية الطبيعية. وتبدو الذروة التي بلغها في عام 1985 ثم في عام 2002 فقط قابلة ولو من بعيد للمقارنة بحاله اليوم، وفي كل...
بقلم: كينيث روغوف

كمبريدج- إذا عاد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب إلى البيت الأبيض في عام 2025 ــ ولا تزال أغلب أسواق المراهنات تتوقع فوزه بنسبة 60% أو أكثر ــ فهل يحقق هدف الدولار الضعيف الذي يريده بِشِـدّة هو وزميله في الترشح، السيناتور جيه دي فانس؟ تتلخص رؤيتهما بطبيعة الحال في ضرورة القيام بأي شيء لإعادة قطاع التصنيع في أميركا إلى مجده السابق، وهما يعتقدان أن أفضل طريقة لتحقيق هذا الهدف تتمثل في فرض تعريفات جمركية عالية وخفض قيمة الدولار.

في رحلته من رفض ترمب قطعا إلى دعم ترمب إلى الأبد، زعم فانس مرارا وتكرارا أن الدولار القوي اليوم يقوض قدرة العمالة الأميركية التنافسية. هذه الحجة مادة مثيرة للصحافة، لأنها تبدو أقرب إلى الحديث عن الرياضة منها إلى الاقتصاد الممل، وقد ركزت استجابة المعلقين إلى حد كبير على مدى ضآلة نفوذ الرئيس الأميركي على أسواق أسعار الصرف العالمية. من المؤكد أننا أمام تاريخ طويل من محاولات الرؤساء ووزراء الخزانة، وفشلهم، في سوق الحجج لصالح رفع قيمة الدولار أو خفضها. علاوة على ذلك، تنبأ كثيرون بأن يتسبب شبح التخفيضات الضريبية والتعريفات الجمركية التي فرضها ترمب، في حقيقة الأمر، في دفع أسعار الفائدة إلى الارتفاع وتعزيز قوة الدولار.

ولكن في الاندفاع إلى الإشارة إلى النقائص التي تعيب فِـكر ترمب ــ نقطة البداية في صحافة التيار السائد لأي سياسة مقترحة لـجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى ــ لم تحظ واحدة من التفاصيل بالقدر الكافي من الاهتمام: فكما يعلم السائحون الأميركيون المبتهجون الذين يعربدون في أوروبا وآسيا هذا الصيف، أصبح الدولار قويا للغاية في الوقت الحالي. وهذه هي الحال بشكل خاص إذا نظرنا إلى مقاييس الدولار التي تعبر عن القوة الشرائية التي تتمتع بها العملات المختلفة.

 يُظهِر أي مقياس عريض لسعر صرف الدولار الحقيقي المعدل تبعا للتضخم النسبي لدى شركاء أميركا التجاريين الرئيسيين أن الدولار أعلى كثيرا من مستوياته التاريخية الطبيعية. وتبدو الذروة التي بلغها في عام 1985 ثم في عام 2002 فقط قابلة ولو من بعيد للمقارنة بحاله اليوم، وفي كل من المناسبتين، انخفض الدولار بشكل حاد في السنوات التالية.

من المعلوم تماما أن أسعار الصرف يصعب تفسيرها، ناهيك عن التنبؤ بها، لكن الأمر لا يخلو من انتظام اعتباري عبر مجموعة واسعة من أزواج من العملات والظروف التاريخية وهو يتمثل في الميل إلى بعض التقارب نحو المتوسط كلما كان سعر الصرف الحقيقي بعيدا عن الخط المعتاد بدرجة كبيرة. والوتيرة ليست سريعة بالضرورة، إذ يستغرق الأمر عادة حوالي ثلاث سنوات لانخفاض المبالغة في سعر الصرف الحقيقي إلى النصف، ولكن برغم ذلك يمكن تمييز هذا الانخفاض بوضوح في البيانات. ولا يتعين بالضرورة أن يحدث التعديل الحقيقي من خلال سعر الصرف ذاته ــ فقد يكون راجعا إلى ارتفاع التضخم لدى شركاء الولايات المتحدة التجاريين، وإن لم تكن هذه هي الحال عادة.

هذا يعني أن التأكيد على أن الدولار أقوى مما ينبغي له لا يخلو من بعض الحقيقة. علاوة على ذلك، يعني هذا ضمنا أن ترمب من المرجح أن يحالفه الحظ مع الدولار، حتى لو لم يفعل أي شيء. ويصدق الأمر ذاته إذا فازت كامالا هاريس بالرئاسة.

تُـعَـد حالة اليابان ــ التي لا تزال الدولة صاحبة رابع أكبر اقتصاد في العالَـم ــ مثالا جيدا، وإن كان متطرفا، لهذه الديناميكية. على مدار السنوات الثلاث الأخيرة، خسر الين ما يقرب من ثلث قيمته مقابل الدولار، حتى برغم أن التضخم التراكمي في الولايات المتحدة كان أعلى كثيرا. ناضلت اليابان للإبقاء على معدل تضخم ولو حتى بنسبة 2%، في حين كان التضخم في الولايات المتحدة على مدار رئاسة جو بايدن أقرب إلى 20%. بعد أن كانت اليابان في السابق واحدة من أكثر الاقتصادات المتقدمة في العالم تكلفة للزائر، أصبحت الآن واحدة من أقلها تكلفة. وكان الرنمينبي الصيني أيضا في انخفاض.

تُـرى أي القوى قد تدفع عملات مثل الين والرنمينبي إلى الارتفاع؟ من ناحية، بلغت الولايات المتحدة نقطة مختلفة في دورة أسعار الفائدة. فمن المرجح أن تظل أسعار الفائدة الأمريكية الطويلة الأجل أعلى كثيرا من مستويات ما قبل الجائحة، لكن أسعار الفائدة القصيرة الأجل من المتوقع أن تنخفض بينما من المحتمل أن ترتفع أسعار الفائدة اليابانية. بالإضافة إلى ذلك، برغم أن الين الضعيف يفرض ضغوطا تدفع الأسعار إلى الارتفاع في اليابان، التي يتعين عليها أن تستورد معظم السلع الأساسية (بما في ذلك النفط المسعر بالدولار)، فإن تدفق الواردات المنخفضة التكلفة يساعد في احتواء التضخم في الولايات المتحدة. الواقع أن الدول الآسيوية تسعى جاهدة إلى تصدير السلع إلى الولايات المتحدة قبل رئاسة ترمب المحتملة، حتى أن تكلفة تأمين سفن الحاويات في شرق آسيا ارتفعت إلى عنان السماء.

الواقع أن محاولة التنبؤ بالتوقيت الدقيق لأي انخفاض في قيمة الدولار الحقيقية ممارسة غير مجدية. فقد تزداد قيمة الدولار ارتفاعا قبل أن تبدأ في الانخفاض، بصرف النظر عن أي شيء قد يقوله ترمب على موقعه على شبكة الإنترنت Truth Social. من المؤسف أنه حتى لو ضعف الدولار عاجلا وليس آجلا، فمن غير المرجح أن يثني ذلك إدارة ترمب الثانية عن مواصلة سياستها في إدارة الرسوم الجمركية، والتي يعتبرها ترمب وفانس حلا ملائما سياسيا وفَـعّـالا.

نأمل أن تمتنع إدارة ترمب عن محاولة التدخل في أسواق الصرف الأجنبي بما يتجاوز فرض الرسوم الجمركية (وهو أمر سيئ بما فيه الكفاية) ــ على سبيل المثال، باستخدام ضوابط رأس المال القاسية للإبقاء على الدولار ضعيفا بشكل مصطنع، أو عن طريق تعيين رئيس غير كفء لمجلس الاحتياطي الفيدرالي. ربما يكون ترمب وفانس على حق بشأن التكاليف المترتبة على ارتفاع قيمة الدولار، لكن أغلب العلاجات التي يقترحانها أسوأ من المرض ذاته.

* كينيث روغوف، كبير الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي سابقا، وأستاذ الاقتصاد والسياسة العامة في جامعة هارفارد حاليا، من مؤلفاته: هذا الوقت مختلف: ثمانية قرون من الحماقة المالية، وكتاب: لعنة النقدية

https://www.project-syndicate.org

اضف تعليق