انتقال السكان من الريف الى المدينة يعني انخفاض عرض الايدي العاملة وزيادة الاجور وهذا سينعكس على تنافسية السلع المُصدّرة. يصبح البلد مستورد للسلع المستوردة بدلاً من تصديرها وهذا ينعكس بشكل سلبي على الاحتياطي الاجنبي وسعر الصرف وقيمة العملة. انتقال السكان من الريف الى المدينة سيؤدي الى مزيد من الضغط...
بشكل عام يختلف توزيع السكان من بلد لآخر، ومن وقت لآخر لنفس البلد، حسب العوامل المؤثرة والظروف التي يمر بها البلد.
يسير التعداد السكاني في العراق نحو الارتفاع، ارتفع من 7 مليون نسمة عام 1960 الى 44 مليون نسمة عام 2022 حسب بيانات البنك الدولي وكما موضح في الشكل أدناه.
مع ارتفاع التعداد السكاني في العراق كما واضح أعلاه، إلا ان توزيع السكان بين مناطق الريف والمدينة لم يكن متوازن بل كان هناك تباين كبير وتحولَ فيما بعد بشكل مقلوب ليكون متباين بشكل أكبر.
حيث كانت النسبة الاكبر وهي 57% من التعداد السكاني تعيش في مناطق الريف، فيما تعيش النسبة الاقل وهي 43% في المدينة عام 1960، حسب بيانات البنك الدولي وكما موضح في الشكل أدناه.
هناك اسباب عديدة وراء هذا التباين، ولكن يُمكن القول ان السبب الرئيس هو العامل الاقتصادي، حيث كانت الزراعة تمثل العمود الفقري للاقتصاد العراقي وتشكل قيمتها المضافة 16% من اجمالي الناتج المحلي الاجمالي عام 1968[i] وبالتأكيد أكبر قبل هذا العام، وتخلق الكثير من فرص العمل، حيث كانت النسبة المئوية للقوى العاملة في الزراعة 24.5% عام 1985[ii].
وبمرور الوقت وخلال ستة عقود حصلت تحولات اقتصادية واجتماعية وبيئية وامنية وغيرها، حصل على أثرها تحول كبير في توزيع السكان ليكون التباين بشكل أكبر ومعكوس بين مناطق الريف والمدينة عام 2022.
حيث اصبحت النسبة الأكبر وهي 71% من التعداد السكاني تعيش في المدينة، بينما النسبة الاقل وهي 29% من التعداد السكاني يعيش في المناطق الريفية حسب بيانات البنك الدولي وكما موضح في الشكل أدناه.
يمكن القول، ان السبب الرئيس وراء هذا التحول والتباين، العامل الاقتصادي ايضاً، حيث تزامن مع دخول النفط كعنصر رئيس في الاقتصاد وتمويل النفقات الحكومية، وانتقال السكان من الارياف الى المدن بشكل تدريجي حتى أصبح التوزيع السكاني عام 2022 تقريباً الصورة المقلوبة للتوزيع السكاني عام 1960.
إذ ان توفر النفط دفع بالحكومة لزيادة النفقات التشغيلية، على وجه الخصوص؛ التي تشكل بحدود 70% في اغلب الموازنات العامة التي تمول من النفط الذي تشكل ايراداته أكثر من 85% من الايرادات العامة، هذا الانفاق خلق نمط ثقافي استهلاكي لا انتاجي، ونظراً لتوفر الخدمات في المدينة أكثر نسبياً من الريف انتقل السكان للمدينة.
وما يؤكد هذا التفسير هو انخفاض مساهمة الزراعة الى 2.8% مقابل ارتفاع مساهمة النفط لتشكل 57% من الناتج المحلي الاجمالي عام 2022[iii] من جانب وانخفاض النسبة المئوية للقوى العاملة في الزراعة الى 20% من اجمالي المشتغلين للعام ذاته حسب بيانات البنك الدولي.
من الاسباب المهمة في هذا التحول والتباين في توزيع السكان بين الريف والمدينة، هو عدم وجود دولة المؤسسات التي تضمن عدم انحراف توظيف الموارد بشكل عام والنفط بشكل خاص عن المسار الصحيح، الذي من شأنه تحقيق التنمية المتوازنة وتقليل التحول والتباين.
هناك الكثير من المؤشرات التي تدل على عدم وجود دولة المؤسسات أبرزها الفساد، حيث يحتل العراق مرتبة متقدمة في مؤشر الفساد وهي 157 من أصل 180 دولة عام 2022 حسب منظمة الشفافية الدولية، كذلك مؤشر الدول الهشة حيث يحتل العراق المرتبة 27 من أصل 179 دولة عام 2022 حسب صندوق السلام العالمي.
ان دخول النفط كمورد مهم في الاقتصاد بالتزامن مع عدم وجود مؤسسات دولة مستقلة راسخة تعمل وفق الانظمة والقوانين والتعليمات، يعني توظيف الموارد بشكل عام والنفط بشكل خاص في المجالات التي لا تخدم التنمية المتوازنة هذا التوظيف أسهم في حصول التحول والتباين الشديد في توزيع السكان بين الريف والحضر.
اثار التباين في توزيع السكان
يترك التباين اثارا عديدة في جانبين:
الجانب الاول، الريف:
- ان انتقال السكان من الريف الى المدينة، يؤدي الى اهمال القطاع الزراعي، بشقيه النباتي والحيواني، وانخفاض الانتاج الزراعي ويصبح الامن الغذائي للبلد غير آمن.
- انتقال السكان من الريف الى المدينة يعني انخفاض عرض الايدي العاملة وزيادة الاجور وهذا سينعكس على تنافسية السلع المُصدّرة.
- يصبح البلد مستورد للسلع المستوردة بدلاً من تصديرها وهذا ينعكس بشكل سلبي على الاحتياطي الاجنبي وسعر الصرف وقيمة العملة.
الجانب الثاني، المدينة:
- ان انتقال السكان من الريف الى المدينة سيؤدي الى مزيد من الضغط على الخدمات وهذا ما يقلل من جودة الحياة في المدينة.
- انتقال السكان من الريف الى المدينة سيؤدي الى مزيد من الطلب على العقارات مما يؤدي لارتفاع اسعار العقارات.
- كذلك يؤدي الى زيادة عرض العمل وهذا يمثل نوع من المنافسة للأيدي العاملة في المدينة وقد يؤدي لمشاكل اجتماعية تتمثل في التمييز العنصري وغيرها.
تقليل التباين
ان معالجة تباين توزيع السكان بين الريف والمدينة وتحقيق التوازن او التقارب سيسهم بلا شك في تلافي الاثار التي ذُكرت آنفاً، وان ما يسهم في تقليل التباين باتجاه التوازن او التقارب في توزيع السكان هو التنمية المتوازنة وهذه تتحقق من خلال عدّة مجالات يُمكن الاشارة لبعضها.
المجال الاقتصادي: اي ان العمل على دعم الانشطة الاقتصادية في الريف- القروض بأسعار تفضيلية وتسهيل إجراءات التسويق والتصدير مثلاً- سيسهم في تحسين مستويات الدخول والمعيشة وهذا ما يقلل من انتقال السكان الى المدن.
المجال التربوي: ان توفير رياض الاطفال والمدارس في المناطق الريفية سيُقلل من حافز الانتقال الى المدينة.
المجال الصحي: ان توفير المراكز الصحية والطبية والصيدليات سيقلص من رغبة الانتقال الى الريف.
المجال الخدمي: ان توفير الطرق والكهرباء والماء سيسهم في تثبيت سكان الريف وانخفاض رغبتهم بالانتقال الى المدينة.
ولأجل تحقيق المجالات أعلاه لتقليل التباين في توزيع السكان، يتطلب الأمر اولاً مؤسسات دولة راسخة تعمل بشكل كفوء بعيداً عن المزاجية والفساد والمحسوبية والمنسوبية لأجل ضمان توجيه الموارد والنفط بشكل خاص نحو المجالات الضرورية التي تحقق التنمية المتوازنة.
اضف تعليق