العوامل الأخرى المؤثرة في القيمة التبادلية، قد يعاكس مفعولها أثر كل من العمل والجهد المبذول ووقته وامتداده، وذلك كما لو أمكنه اختصار العمل (جهداً وزمناً)، عبر امتلاك بعض المهارات اللازمة، أو باختيار التوقيت والزمن الملائم، وكما لو تحمل في أحد العملين مخاطرة أكبر وكان وقت العمل الثاني (الآمن) أطول...
عند دراسة مستفيضة وتحليل دقيق لواقع القيمة التبادلية سنجد؛ فيما نرى، أنها تتولّد من الجهات الحقيقية والاعتبارية التالية: اولا المنفعة والقيمة الاستعمالية، ثانياً الرغبة، ثالثاً الحاجة والإشباع، رابعاً المنفعة الحدية، خامساً العرض والطلب، سادسا البدائل والمكملات، سابعا الندرة والوفرة، ثامناً: تكلفة الإنتاج، تاسعاً: (رأس المال) ومدى تكثيفه، عاشراً، العمل.
ك. الوقت والزمان
حادي عشر: الوقت والزمان، وهذا العامل مغاير لعامل كمية العمل أو قوته أو روحه، فإنه قد تتحدّ كمية العمل مع اختلاف زمنيهما، وقد تختلف كمية العمل مع تطابق زمنيهما، والوقت يعدّ من محددات القيمة التبادلية، أي إنه عامل مؤثر في القيمة السوقية بشكل كبير جداً تارةً، وإلى حد ما في أكثر الصور، كما أنه قد يكون تأثيره معاكساً لتأثير قوة العمل.
أما تأثيره الصارخ فهو ملموس في مثل التحف التاريخية واللوحات الأثرية والرسوم والصور القديمة جداً، ومن المعلوم للكل أن قطعة نقدية نادرة أو إناء فخاري مكسور يعود إلى ألوف سابقة من السنين، أو كتاب خطي أثري قديم، يمتلك في السوق قيمة تبادلية تفوق نظائرها بعشرات أو بمئات أو ألوف المرات، مع أن (العمل) الذي أنتجها أو جرى عليها كان مماثلاً للعمل الذي يجري على المستحدث منها، وإنما الذي صنع فارق القيم هو الزمن، أي الفاصل الزمني الممتد بين زمن الإنتاج وزمن البيع.
ولكن قد يقال: إن ذلك وإن صح إلا أنه يرجع بالمآل إلى قانون العرض والطلب، فإن الرسم القديم النادر واللوحة الأثرية، إنما تمتلك قيمة تبادلية كبيرة، نتيجة لانخفاض العرض بل ندرته.
ويمكن الجواب: بأن قانون العرض والطلب لا يصلح كتفسير لكافة الحالات، ولذلك فإن هذا الرسم أو إناء الفخار القديم النادر، لو أنتجنا مناظراً له حديثاً وكان نادراً، كندرة القديم، فإنه لا يمتلك عادةً قيمة كبيرة كقيمة النادر الأثري، بل قد لا يمتلك قيمة أبداً.
ويمكن الرد: بأننا لم نُفلِت بعدُ، من قانون العرض والطلب، إذ أن انخفاض قيمة الرسم أو إناء الفخار الحديث، وإن شابَهَ الرسم القديم في كل الجهات غير مُضِيّ الزمن، إنما هو لانخفاض الطلب عليه، وبعبارة أخرى: أن الندرة تعني ـ اقتصادياً ـ انخفاض السلعة أو الخدمة بالقياس إلى الطلب عليها، لا مجرد قلّتها في حد ذاتها.
والحاصل: أن مضي زمن طويل في الأثريات، كعامل من عوامل ارتفاع القيمة التبادلية، يصلح كردّ على نظرية العمل التي ترى أن العمل والجهد هو وحده المولّد للقيمة، ولا يصلح رداً على نظرية العرض والطلب وكونهما المحدد للقيمة.
ولكن، ومع ذلك، فإنه يمكن الجواب عنه: بأن الطلب على قطعتين من الفخار أو الرسم الأثري، لو تساوى مع الطلب على قطعتين من الفخار أو الرسم الحديث (بأن كانت هنالك من كل منهما قطعتان وكان لكل من القطعتين طالبان أو عشرة طلاب فرضاً) فإننا نجد أن أسعار القطعتين الأثريتين منذ البدء تقدر بقيمة أكبر جداً من أسعار القطعتين الحديثتين، مما يشهد على مدخلية عامل الزمن، ولو في بعض الصور، في صناعة القيم التبادلية، إلى جوار عامل الطلب والعرض والعمل، فلكل منهم إذاً سهم من التأثير.
وفيما عدا هذه الأمثلة الصارخة على مدخلية عامل الزمن والوقت في صناعة جزء من القيمة التبادلية، فإن أسواق العقلاء من كل الملل والنحل وفي كل الأزمنة تعطي لما ادخر في الصيف لأجل الشتاء أو العكس، قيمة أكبر من مجرد الجهد المبذول للإنتاج، ثم الجهد المبذول للمحافظة عليه طول هذه الفترة، فإن هذا الناتج الأكبر، المتولّد من توقيت العرض، هو الذي يشكّل الحافز للتاجر والذي يدفعه لتجشم عناء تخزين البضاعة والمحافظة عليها لفترة طويلة من الزمن.
مثال آخر: إن الأسواق تمنح للمنتَج الذي يستغرق بطبعه وقتاً أكثر، مبلغاً أكبر من منتَج آخر يكلف وقتاً أقل، وإن كانت كمية الجهد المبذول فيهما واحدة، وذلك كسقي الحديقة لمدة ساعتين، في مقابل عمل الحمّال في نقل الأثاث لمدة ساعة واحدة، وذلك حتى مع تساوي العرض مع الطلب في كلتا الحالتين، ولكن لعل ذلك لأجل أن الأسواق تأخذ معدل الوقت المبذول على عمل كمؤشر نوعي على كميته أو على كمية الجهد المبذول فيه وصعوبته أو سهولته، فتأمل.
مثال آخر: إذا كان نقل حجر من مكان بعيد لأغراض البناء، يستنزف يوماً من العمل في منطقة ما وكان نقل حجر مشابه من مكان بعيد يكلف يومين في منطقة أخرى، فإنه بحسب إحدى تفسيرات نظرية (قيمة العمل)(1) فإن من الطبيعي، معيارياً وموضوعياً أيضاً، أن ينال العمل المستغرق لوقت أكبر مبلغاً أكبر، رغم أن النتيجة في المثال السابق كانت متماثلة تماماً، وهو الحصول على حجرين متساويين في الحجم والخصائص، فهذا لو اعتبرنا (الوقت)(2) هو المقياس للقيمة التبادلية، وأما لو اعتبرنا الجهد المبذول هو المقياس، فلو فرض أن الجهد الذي بذله الأول في يوم واحد كان ضعفي الجهد الذي بذله الثاني في يومين، (نظراً لوعورة الأرض في منطقة الأول مثلاً)، فإنه يجب أن ينال (حسب نظرية مقياسية الجهد المبذول) ضعفي ما يناله الذي عمل لمدة يومين متواصلين.
وإذا انطلقنا في جولة ميدانية إلى الأسواق، لوجدنا أنها تعتبر لشدة الجهد أيضاً قيمة لكنها لا تتطابق بالضرورة مع قيمة عامل الوقت، مما يدل على أنهما أمران، كل منهما موجِد لقيمة تبادلية، أو جزء منها، وقد يحدث بينهما الكسر والانكسار، كما لا يخفى.
نقد سريع لماركس وريكاردو
ولكن الأمر المهم الذي غفل عنه بعض المنظرين لإيجاد كل من العمل والجهد المبذول ومدى امتداده الزمني للقيمة، (العمل والجهد المبذول هو العامل السابق وهو الذي ذهب ماركس إلى أنه المحدد الوحيد للقيمة، والوقت الذي استغرقه هو هذا العامل، وهو الذي اعتبره ريكاردو السبب الوحيد للربح الرأسمالي)، هو أنه إنما يشكل كل منهما أحد العوامل المؤثرة في القيمة التبادلية، إضافة إلى ذلك فإنهم غفلوا عن أنهما قد لا يكون لهما قيمة سوقية (تبادلية) بالمرة، وذلك هو ما سبقت الإشارة إليه في العمل، وأما في الوقت فكما لو كان هنالك حجران قريب وبعيد، أو منجمان بعيد وقريب، وكان بإمكان العامل أن يستجلب الحجر من كل منهما بدون أية مضاعفات جانبية، فإنه لو استجلبه من المنجم البعيد في يومين لما استحق أجراً على اليوم الإضافي، أي أنه لا يستحق أجراً أكبر ممن يستجلبه من المنجم القريب في يوم، وكذا لو استجلبه بجهد أكبر من أحد منهما، مع تيسر استجلابه من الآخر.
كما أن بعضهم غفل عن أن العوامل الأخرى المؤثرة في القيمة التبادلية، قد يعاكس مفعولها أثر كل من العمل والجهد المبذول ووقته وامتداده، وذلك كما لو أمكنه اختصار العمل (جهداً وزمناً)، عبر امتلاك بعض المهارات اللازمة، أو باختيار التوقيت والزمن الملائم، (كما لو صنع الثلج في الصيف بنفس كمية الجهد التي يبذلها لاستجلابه في الشتاء)، وكما لو تحمل في أحد العملين مخاطرة أكبر وكان وقت العمل الثاني (الآمن) أطول، فإنه لا شك في أن الأسواق تمنح أعمال الثلاثة الأوائل قيمةً تبادليةً أكبر من الثلاثة الأواخر، وإن كان الجهد فيها بأجمعها متساوياً وكان الزمن المستغرق في العمل واحداً.
وبذلك كله ظهر أن تفسير "ريكاردو" للربح الرأسمالي بعودته بأكمله لعامل الزمن، أي مدة الوقت الفاصل بين عملية الإنتاج والاستثمار وبين عرض المنتجات للبيع، غير صحيح، إذ سبق أن الوقت عامل من العوامل المؤثرة، والندرة حين العرض للبيع عامل آخر، ودرجة المخاطرة عامل، والفرصة الضائعة عامل، وحسن الإدارة والتخطيط للبيع في الموقع الأفضل (مع وحدة الزمان، على سبيل البدل) عامل آخر... وهكذا.
ومع قطع النظر عن ذلك، فإن الزمن قد لا يكون له مفعول أصلاً، بل قد يكون مفعوله عكسياً، فيزداد بمرور الزمن انخفاض القيمة التبادلية للسلع أو الخدمات إلا أن يعوّضه عامل آخر.
هذا كله مضافاً إلى أن اعتراف "ريكاردو" بفارق عامل الزمن كأساس لتصحيح أرباح المستثمر والتاجر، يعدّ تراجعاً عن الأساس الذي أسسه من أن (العمل) هو جوهر القيمة والأساس الأوحد لها.
فذلك من الناحية العلمية والموضوعية، والأمر كذلك من الناحية المعيارية؛ لوضوح أن العامل الماهر (يستحق) أجراً أكبر، وإن كان الوقت الذي بذله لإنتاج السلعة أقل، وكذلك (المخاطِر)، وكذلك الذي قام بالإنتاج ثم البيع في التوقيت الأنسب.
ل. المخاطرة والتجديد
ثاني عشر: المخاطرة، وهي بدورها مما يؤثر في القيمة التبادلية للسلع والخدمات، ولذا نجد أن العقلاء في شتى أسواق العالم يدفعون أموالاً أكثر للأعمال التي تستدعي مخاطرة أكبر، مع أن كمية العمل قد تكون أقل، كما قد يكون وقت العمل أقل، فالعامل مثلاً في منجم خطر يستحق معيارياً أجراً أكبر ويعطى عملياً أجراً أكبر من العامل في منجم آخر غير خَطِر، حتى وإن تساوى العملان في الجهد المبذول وفي الوقت المصروف.
والمخاطرة تشكل جزء الفلسفة التي تكمن خلف حصول التاجر والمستثمر على عوائد وأرباح أكبر من الموظف والعامل، وذلك في مقابل ما يتحمله من مخاطرة، لأن التاجر والمستثمر عادةً معرّض للخسارة، لذلك يستحق مبلغاً أكبر من الأجير الذي لا يواجه أية مخاطرة لكونه مضمون الأجرة سواء أربحت تجارة رب العمل أم خسرت، ولذلك فإن التاجر لا يعدّ مستحوذاً على جهد العامل ظلماً، مادام الربح الذي يحصل عليه مكافئاً لدرجة المخاطرة، إضافة إلى التخطيط والإدارة.
م. الابتكار والتجديد
ثالث عشر: الابتكار والتجديد، فإنه يشكل عاملاً من عوامل تحديد القيمة التبادلية للمنتجات، لأن الناس يدفعون للمبتكرات (سلعاً كانت أو خدمات) أكثر.
وجاء في كتاب الاقتصاد: (الأرباح كمكافأة على تحمل المخاطرة والتجديد، قبل نصف قرن مضى، قال عالم الاقتصاد الأمريكي، ابن شيكاغو، فرانك نايت "Frank Knight" أن جميع الأرباح الحقيقية ترتبط بعدم اليقين أو بالمعلومات غير الكاملة، وكان يعني بذلك أنه حين تطرح العوائد الضمنية من مجمل الإيرادات فإن ما يتبقى هو الربح الصافي عن القيام بالاستثمار ذي العوائد غير المؤكدة.
عند تحليل المكافأة على تحمل المخاطرة، فإننا بشكل عام لا نحسب مخاطر العجز عن الدفع أو المخاطر التي يمكن التأمين عليها. ويهدف الاحتياط ضد مخاطر العجز عن الدفع، تغطية احتمال أن لا يتم تسديد قرض أو استثمار ما، ربما بسبب إفلاس المقترض، أما المخاطر التي يمكن التأمين عليها، مثل تلك التي بحثناها في الفصل 11، فهي المخاطر التي يمكن تغطيتها عن طريق شراء بوليصة تأمين، وهذان النوعان من المخاطر هما ببساطة المخاطر المعتادة التي تواجهها الأعمال، ويجب إدراجهما في بند التكاليف.
أما نوع المخاطرة الذي يجب أخذه بعين الاعتبار في حسابات الأرباح فهو "مخاطر الاستثمار التي لا يمكن التأمين عليها". فقد تكون شركة ما حساسة للغاية لدورات العمل، أي أن كسبها يتقلب كثيراً مع ارتفاع أو هبوط مجمل مخرجات السلع التي تنتجها. ولأن المستثمرين يكرهون المخاطرة، فقد يطلبون علاوة مخاطرة على هذا الاستثمار غير المؤكد يعوّض عن كرههم للمخاطرة.
أرباح الشركات هي أكثر مكونات الدخل القومي تأثراً بالتقلبات، لذلك لابد أن يتضمن رأسمال الشركة قدراً من علاوة المخاطرة لجذب المستثمرين.
وقد دلت الدراسات التجريبية المبينة في الجدول 14 ـ 2 إلى أنه ما بين 3 إلى 6 نقاط مئوية من العائد السنوي على أسهم الشركة هو علاوة مخاطرة ضرورية لجذب الناس للتمسك بهذه الاستثمارات الخطرة.
طريقة أخرى يساهم فيها عدم اليقين في الأرباح هي من خلال "مكافأة التجديد والمجازفة" ولفهم ذلك، أفرض أن الثمن المناسب المدفوع مقابل أخطار العجز عن الدفع والأخطار التي يمكن تأمينها والتي لا يمكن تأمينها قد طرحت من الربح. عندها لن يكون، في عالم المنافسة الكاملة والتكنولوجيا التي لا تتغير، أية أرباح أخرى، وسيحصل المالكون في هذا العالم على ما تساويه عوامل الإنتاج التي يملكونها وما تعرضت له من أخطار حسب سعر السوق التنافسي. بكلمات أخرى: أن حرية دخول منافسين كثيرين إلى سوق راكد ذي تكنولوجيا لا تتغير، يخفض الأسعار إلى حدّ التكلفة. والأرباح الثابتة الوحيدة في عالم راكد هي الأجور التنافسية، وبدلات الإيجار، والريع، والعوائد عن تحمل المخاطرة.
لكننا لا نعيش في عالم من الأحلام مثل هذا العالم، فالواقع أن في وسع شخص ما أن يخرج بفكرة جديدة، أو براءة اختراع تعطي إنتاجاً جديداً، أو تخفض تكلفة إنتاج قديم. دعونا نطلق على الشخص الذي يقوم بهذه الأشياء اسم "مخترع" أو "مجازف رأسمالي" ويمكننا تعريف "أرباح التجديدات" بأنها العائد الإضافي المؤقت للمجددين أو المجازفين.
فما الذي نعنيه بكلمة "مجددين"؟ يجب أن لا نخلط بين هؤلاء الأشخاص وبين المديرين، أي الأشخاص الذين يديرون الشركات الصغيرة والكبيرة، لكنهم لا يملكون جزءاً كبيراً من الأسهم، فالمجددون مختلفون، فهم الأشخاص الذين يمتلكون الرؤية والأصالة والجرأة على إدخال أفكار جديدة على العمل. لقد عرف التاريخ مخترعين عظماء من أمثال الكسندر جراهام بيل (الهاتف)، وتوماس إديسون (المصباح الكهربائي)، وتشستر كارلسون (التصوير الجاف)، وقد جمع بعضهم ثروات طائلة من مجازفاتهم واختراعاتهم. وقد شهد العصر الحديث ستيفن جوبز يطلق الحاسوب "أبل"، في حين صعد بيل جيتس ليتصدر قائمة أكثر الأمريكيين ثراءً بفضل رؤيته الريادية في شركة مايكروسوفت للبرمجيات.
ومع ذلك، فمقابل كل واحد من هؤلاء المخترعين الناجحين، يسقط الكثيرون على طريق الشهرة والثروة. الكثيرون يحالون، وقلة ينجحون.
يخلق كل تجديد ناجح تجميعاً مؤقتاً للاحتكار، وتجنى الأرباح من التجديدات لفترة قصيرة. وهذا الربح المكتسب مؤقت، فسرعان ما يتفوق المقلدون والمنافسون على هذا التجديد بأسعارهم المنافسة. لكن وكما يختفي أحد مصادر أرباح التجديدات، فسوف يولد مصدر جديد، وسوف تبقى أرباح التجديدات طالما كان هناك تغيير تكنولوجي)(3).
وسامويلسون وإن طرح المسألة كإجابة على السؤال عن محددات الأرباح، و(ما الذي يحدد معدل ربح الشركة في اقتصاد السوق) والتي اعتبرها أربعة هي: (1ـ الأرباح كعوائد ضمنية، 2ـ الأرباح كمكافأة على تحمل المخاطرة، 3ـ الأرباح كمكافأة على التجديد والابتكار، 4ـ الأرباح كعوائد احتكار)، ولكنه في جوهره يشكل تعبيراً آخر عن تحليل قيمة المنتج، ويكشف أيضاً عن نظرية القيمة التبادلية ومحدداتها كواقع خارجي موضوعي، لا كجهة معيارية، إذ الاحتكار مثلاً ـ معيارياً وأخلاقياً ـ مكروه وقبيح، ولكنه واقعياً وخارجياً، ينتج قسراً زيادة القيمة التبادلية للمحتكرات.
وقد فصّلنا الكلام عن هذا العامل وعامل الزمن السابق وعن بعض العوامل الآتية، في فصل عوامل الإنتاج الأربعة عشرة.
ن. ثمن الفرصة الضائعة
رابع عشر: ثمن الفرصة الضائعة، فإن القيمة التبادلية في أسواق العالم، تعود فيما تعود، إلى تقدير قيمة البدائل الضائعة التي ضحّى بها التاجر أو العامل الفني، وانشغل بهذا النوع من الإنتاج أو العمل.
ولذلك ولغيره، نجد العقلاء يعطون الطبيب والمحامي والمهندس، أجراً أكبر من أجر الفلاح والبنّاء والصبّاغ، وذلك يعود لعوامل عديدة، منها تكلفة الفرصة الضائعة، فإن المهندس والطبيب و... طوال فترة دراسته، جمّد إنتاجه وخسر أجور أي عمل كان يمكنه أن يقوم به، لأجل أن يمتلك العلم الكافي أو المهارة اللازمة، لذلك فإن بعض القيمة التبادلية (لخدماته) والثمن الذي يحصل عليه، في كل وصفة علاج يكتبها أو خريطةٍ يرسمها، يعود إلى تضحيته طوال سنين بفرص العمل الأخرى.
ومن الضروري أن نؤكد على أن هذا الأجر المرتفع الذي يحصل عليه، ليس بأكمله عائداً في مقابل التضحية بالفرصة البديلة، بل بعضه فقط، كما ذكرنا، لوضوح أنه لو كانت أجرته لقاء أمرين فقط هما عمله زائداً الفرصة الضائعة، لاستحق فقط ضعفي أجر العامل العادي طوال عشرين سنة، على فرض أنه انشغل بالدراسة عشرين سنة ثم بالهندسة أو الطب عشرين سنة أخرى، فكان يستحق في هذه العشرين سنة الثانية أجرة أربعين سنة، مع أننا نجد أن القيمة التبادلية والسوقية لعمل الطبيب والمهندس والمحامي و... قد تكون مائة ضعف أو أكثر أو أقل من القيمة السوقية لعمل البنّاء والحطّاب والصبّاغ و...
وبذلك ظهر لنا بوضوح أن عمل الطبيب والمهندس حتى لو فرضنا أنه (عمل متراكم) فإنه لا يشكل كامل الإجابة على قيمته السوقية المرتفعة، بل إن هنالك عوامل أخرى وضمائم ومنها إضافة إلى الفرصة الضائعة: المهارة، فإن للكيفية في سوق العقلاء قيمة تبادلية، تماماً كما أن للكمية قيمة تبادلية، وقد أخطأ ماركس إذ حاول إرجاع كل القِيَم إلى البعد الكمي للأعمال، كما يخطئ من يرجع كل القِيَم إلى البعد الكيفي للأعمال(4).
اضف تعليق