تواجه الشركات اليوم خياراً وجوديا، هي اما ان تحتضن وبقوة رأسمالية اصحاب المصالح والالتزام بالمسؤوليات المصاحبة لهذا الخيار عبر اتخاذ الخطوات الفاعلة لتحقيق الأهداف الاجتماعية والبيئية، او الالتصاق بـ النموذج القديم لـرأسمالية اصحاب الاسهم الذي يفضّل الأرباح القصيرة الأجل على كل شيء آخر وفيه تبقى...

تواجه الشركات اليوم خياراً وجوديا، هي اما ان تحتضن وبقوة "رأسمالية اصحاب المصالح" stakeholder capitalism (1) والالتزام بالمسؤوليات المصاحبة لهذا الخيار عبر اتخاذ الخطوات الفاعلة لتحقيق الأهداف الاجتماعية والبيئية، او الالتصاق بـ النموذج القديم لـ"رأسمالية اصحاب الاسهم" shareholder capitalism الذي يفضّل الأرباح القصيرة الأجل على كل شيء آخر وفيه تبقى الشركات تنتظر العاملين والزبائن والناخبين لفرض التغيير عليها من الخارج.

هذا التقييم ربما يبدو قاسيا وصادرا من شخص ما يعتقد دائما بالدور الحيوي للشركات في الاقتصاد العالمي، ولكن في الحقيقة، لا خيار غير ذلك. التأثيرات البيئية اتسعت الى ما وراء امكانية تحمّل الارض. الانظمة الاجتماعية تتصدع. الاقتصاد لم يعد يحقق نموا عادلا. الاجيال الشابة لاتقبل اليوم بما تقوم به الشركات في تحقيق الأرباح على حساب الرفاهية الاجتماعية والبيئية الواسعة. مع ادراكنا بان اقتصاد السوق الحر ضروري لخلق تقدم اجتماعي وتنمية طويلة الأجل، ولا يجب ان نستبدل ذلك النظام، ولكن الرأسمالية في شكلها الحالي وصلت الى حدودها القصوى. وهي مالم تباشر الاصلاح من الداخل، فإنها سوف لن تتمكن من البقاء.

من أصحاب الأسهم الى أصحاب المصالح

في السنة الماضية، أعلنت منظمة المائدة المستديرة، وهي منظمة تمثل العديد من الشركات الامريكية الكبرى بانها تريد الانتقال من اتجاه هيمنة أصحاب الاسهم الى اتجاه يتم فيه تبنّي مصالح كل الاطراف. انها أعادت تعريف هدف الشركة في تعزيز "اقتصاد يخدم كل الامريكيين" وليس فقط من يملك الأسهم.

الرؤساء التنفيذيون للشركات الذين وقّعوا على بيان المائدة المستديرة كانوا بمثابة التجسيد الحقيقي للرأسمالية الامريكية. كان هناك 181 رئيس شركة وقّع على البيان. هذا الإعلان جوبه بردود افعال متباينة. البعض رآه فقط كمناورة لمواجهة الضغط من اليسار الصاعد. آخرون تجاهلوه كحركة مخادعة ورمزية تفتقر للأفعال الملموسة. يسأل المشككون كيف يمكن لشركة ان تدّعي انها أجرت تغييرا كبيرا اذا كانت تقاريرها الفصلية لاتزال تركز على تعظيم الارباح؟ لكن هذا الشك يسيء فهم أهمية التغيير وامكانية تحويله الى تغيير حقيقي. منذ عام 1997، كانت جميع المبادئ السابقة التي وافقت عليها المائدة المستديرة وضعت مصلحة المساهمين قبل كل شيء. التخلي عن ذلك المبدأ كان عملا ثوريا. ولكن صحيح ايضا انه ما لم تُترجم هذه الكلمات الى أفعال جماعية فان الثورة ستكون قصيرة الأجل.

ما هي الشركة؟

اذاً ماذا يجب فعله لضمان ان يكون الانتقال الى رأسمالية اصحاب المصالح حقيقي ودائم؟ للإجابة على هذا السؤال، من المفيد العودة للنظر في نظام الاقتصاد العالمي لما بعد الحرب والدور الذي لعبه عبر الشركات والحكومات والمجتمع المدني والمنظمات الدولية. البعض ربما يعتقد ان الرأسمالية الغربية وضعت اصحاب الاسهم دائما في المقام الاول. غير ان ذلك ليس صحيحا.

كان المنتدى الاقتصادي العالمي قد تأسس قبل خمسة عقود في دافوس لكي يعزز "مفهوم تعددية اصحاب المصالح" multistakeholder concept وهو النموذج الذي برز من معرفة كل من الاتجاهين الاوربي والامريكي للرأسمالية. الشركات الامريكية في فترة ما بعد الحرب سعت الى إنضاج الاعمال والادارة المالية وتحقيق النمو والارباح المثالية. انها جعلت الشركات الامريكية ومفكرو الادارة الامريكيين موضع حسد من العالم. لكن المدراء الاوربيين في ذلك الوقت كانوا ايضا في موقف صحيح. هم تميزوا بالوعي الاجتماعي الذي اتضح في الالتزام العميق تجاه عمالهم وزبائنهم ومجهزيهم. بعض المهنيين أكّدوا من خلال تجاربهم في عدة مصانع، ان العمال ذوي الياقات الزرقاء هم ذوي لياقة وقيمة للشركة مثلما هم زملائهم من العمال ذوي الياقات البيضاء او المساهمين في الشركات التي يعملون فيها.

ان فكرة رأسمالية اصحاب المصالح تجسّد بيان دافوس الموقّع عليه من جانب المنتدى الاقتصادي العالمي الجديد. افتتاحية البيان أعلنت بان "هدف الادارة المهنية هو خدمة الزبائن والمساهمين والعمال والموظفين بالإضافة الى المجتمعات، وتحقيق الانسجام بين مصالح جميع الاطراف".

بيان دافوس يعود في جذوره الى تجربة ما بعد الحرب الاخيرة، لكنه كان ايضا إستعادة لأرشيف تاريخي طويل. الشركات كانت دائما وحدات اجتماعية وكذلك وحدات اقتصادية. في الحقيقة، كانت الشركات تأسست اولا في اوربا اثناء القرون الوسطى كمحرك مستقل لتحقيق التقدم الاقتصادي ولكن ايضا لخلق الازدهار للمجتمع وبناء المؤسسات للصالح العام كالمستشفيات والجامعات وهو ما نسميه "القيمة المشتركة".

لكن هذه الرؤية للشركات لم تلق قبولا عالميا. حيث أعلن في نفس الوقت، الاقتصادي في جامعة شيكاغو ملتن فريدمن عن رؤية مختلفة كليا، "هناك فقط مسؤولية اجتماعية واحدة للأعمال لاغير"، وهي " ان تستعمل مواردها وتنخرط في فعاليات مصممة لزيادة ارباحها". عمل الاعمال، باختصار، كان عملا. فكرة سيادة المساهمين قد وُلدت. وقبل وقت طويل، كانت الفكرة احتُضنت من جانب المائدة المستديرة وقادة آخرون في الحقل.

الحقائق غير المريحة

كانت رأسمالية المساهمين تبدو حقا متفوقة على رأسمالية اصحاب المصالح. الشركات الامريكية بسطت سيطرتها، واصبحت هيمنة المساهمين هي العقيدة السائدة في الأعمال الدولية. لكن النمو العالي في الثمانينات والتسعينات، وفي بداية هذا القرن اخفى بعض الحقائق المزعجة. الاجور في الولايات المتحدة بدأت بالركود منذ اواخر السبعينات فصاعدا، قوة الاتحادات تراجعت بشكل كبير مصحوبةً بتدهور في البيئة الطبيعية مع تحسن الاقتصاد. والحكومات وجدت من الصعب جمع الضرائب من الشركات متعددة الجنسية. كل تلك المشاكل اجتمعت في الازمة الحالية وان الجواب المهم الوحيد هو العودة الى رأسمالية اصحاب المصالح التي كانت استُبدلت بنموذج المساهمين.

في العقود الاربعة منذ الثمانينات، تزايدت بشكل كبير اللامساواة من كل الاشكال. في الولايات المتحدة كان نمو الدخل لدى 90% من الناس الذين هم في اسفل السلّم تقريبا صفر، بينما الدخل لدى الفئة في أعلى السلّم ارتفع خمسة أضعاف. اللامساواة في الثروة زادت بشكل كبير. كانت الميول مشابهة في كل مكان من العالم. في الستينات، كان الرئيس التنفيذي للشركة يستلم 20 مرة اكثر من راتب العمال لديه. اما اليوم، فان الرئيس التنفيذي الامريكي يستلم بمعدل 287 مرة اكثر من متوسط الرواتب.

وفي نفس الوقت، نمت الشركات الرائدة في العالم بشكل متصاعد، مما قاد الى زيادة قوة السوق وتغيير في علاقة الشركات مع الجاليات والحكومات بينما بدا ارتباط الشركات بالجاليات والذي كان عميقا في يوم ما يتضاءل بمرور الزمن. وعندما استغلت الشركات بذكاء حقوق الملكية والتحويل السعري العالمي، اصبحت العديد من الشركات المندفعة بتعظيم الارباح غير موثوق بها في دفع الضرائب. ومع نمو القطاع المالي المنفصل عن النمو الاقتصادي، تبع ذلك نتائج قصيرة الاجل وأضرار في الاستدامة الطويلة المدى.

المحصلة الكلية من كل ذلك كان تدهور الروابط بين الشركات والمجتمع. اما الحكومات، التي تواجه تحديات اقتصادية واجتماعية جديدة باتت غير قادرة على انجاز الاستثمارات المطلوبة، فحُرمت من العوائد الضريبية الضرورية.

اخيرا، وربما الأكثر اهمية، استمرت البيئة تعاني من الفعاليات الاقتصادية المتحفزة فقط لأجل تعظيم الارباح. في دافوس عام 1973، تحدّث الناطق عن نادي روما عن "حدود وشيكة للنمو". بيان دافوس لاحظ ان الادارة "يجب ان تفترض دور الوصي على العالم المادي لأجيال المستقبل" و"تستخدم الموارد المادية وغير المادية التي لديها بطريقة مثالية".

نحن ندرك الآن انه لو بقي استخدامنا لموارد العالم الطبيعية عند مستويات بداية السبعينات، لما واجه العالم ازمة المناخ الحالية. طبقا لشبكة البصمة العالمية Global Footprint Network (2)، كان عام 1969 العام الاخير الذي كانت فيه البصمة (تأثير الانسان على البيئة) الايكولوجية للبشرية صغيراً بما يسمح بالاستدامة. ولكن منذ ذلك الوقت، كنا باستمرار نتجاوز هذا الحد. الآن، في عام 2020، نحن نستعمل موارد حجمها حوالي ضعف النسبة المطلوبة للاستدامة.

الفرصة الاخيرة

مع تحذير الشباب لنا في كل العالم من التأخير، حان الان وقت إصلاح الخطأ التاريخي. الطريقة الوحيدة لإنقاذ الرأسمالية هي في العودة الى نموذج أصحاب المصالح، الذي اكتشفناه ونسيناه منذ عقود. ولكن مع الموقف الاجتماعي والاقتصادي والبيئي الحالي الذي هو اسوأ بكثير مما كان، سنحتاج اكثر من اي وقت مضى لخلق تغيرات تذهب أبعد من الكلمات. ولكن كيف يمكن القيام بهذا؟

في البدء، الشركات ومساهموها يجب ان يتفقوا على رؤية بعيدة المدى حول اهدافهم وآدائهم، بدلا من جعل النتائج الفصلية للشركة تقرر كل شيء. من هنا، يجب على الشركات ان تتبنّى التزاما ملموسا لدفع أسعار عادلة، ورواتب وضرائب في الاماكن التي تعمل بها. واخيرا، يجب علينا ان ندمج المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة في انظمة المراجعة والتقارير الرسمية للشركات.

هذه الخطوات سوف تتطلب تغيرات كبرى. لكن البديل عن ذلك سيكون أصعب واكثر ألماً. الشركات ستُجبر بواسطة الاجيال الجديدة من العمال والمستهلكين والناخبين على تغيير طرقها سواء رغبت بذلك ام لم ترغب. العديد من الشركات التي ترفضها هذه المجموعات سوف تضمحل ببطء، او ان الحكومات قد تتخذ اجراءً ثقيلا في فرض العقائد الجديدة وإعادة تأكيد نفسها كمرشد ضخم في الاسواق.

اذا كانت الشركات تريد تجنّب هذه السناريوهات، فان عام 2020 سيكون عاما مصيريا. في منتدى الاقتصاد العالمي، سوف يستمر التشجيع والحث على رأسمالية المصالح مع التزام واضح وملموس لجعلها شاملة ودائمة. هذه ربما الفرصة الأخيرة لإصلاح الرأسمالية من الداخل.

Capitalism must Reform to survive، الشؤون الخارجية Foreign Affairs Jan/Feb 2020

..................................
الهوامش
(1) في هذا النظام تتجه الشركات لخدمة مصالح جميع الاطراف ذوي العلاقة بالشركة والذين هم المستهلكين والمجهزين والعاملين والمساهمين والجاليات المحلية. في ظل هذا النظام يكون هدف الشركة هو خلق قيمة طويلة الأجل وليس مضاعفة الارباح او تعزيز قيمة المساهمين على حساب مصالح الجماعات الاخرى. المؤيدون لرأسمالية اصحاب المصالح يعتقدون ان خدمة مصالح جميع الاطراف وليس فقط اصحاب الاسهم، هي ضرورية للنجاح الطويل الأمد لأي شركة.
(2) Global Footprint Network هي منظمة تتألف من عدد من الخبراء والباحثين المستقلين، تأسست عام 2003 في الولايات المتحدة وبلجيكا وسويسرا. هي نشأت في الاصل كمنظمة خيرية غير ربحية في كل من تلك الدول الثلاث. هذه المنظمة تضع ادوات ووسائل لتطوير الاستدامة بما فيها الاستدامة البيئية، حيث تقيس كمية الموارد التي نستعملها والكمية المتبقية لدينا. تلك الوسائل تهدف الى جلب الحدود الايكولوجية الى مركز صنع القرار.
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق