يكمن الحل بمعالجة الأسباب التي أدت إلى ارتفاع أجور العامل العراقي، وهو خفض وترشيد الانفاق الحكومي، واعتماد المعايير الموضوعية التي من شأنها رفع إنتاجية الموظف الحكومي، وليس خفض أجوره، حيث يمكن لهذه الإجراءات وأخرى غيرها أن ترجع بالأجور إلى معدلاتها الطبيعية وترفع من جاذبية العامل العراقي...
البطالة الهيكلية هي توفر وظائف، ولكن لا يوجد عاملين يمتلكون المؤهلات اللازمة لهذه الوظائف في سوق العمل، فمثلاً قد تتوفر وظائف في مجال برمجة الحواسيب، ولكن يقابلها ندرة في الافراد القادرين على أداء هذه الوظيفة، حتى بين أولئك الخريجين. وهذا ما يسمى بـ (البطالة الهيكلية).
إلا إن المشكلة في العراق، هي ليست حتى في (البطالة الهيكلية)، فبنظرة فاحصة سريعة، نجد أن أغلب الاعمال التي تشغلها العمالة الوافدة هي وظائف خدمية ولا تتطلب مؤهلات فوق العادة، فلماذا إذن لا يتم توظيف العمالة العراقية في هذه الوظائف، ولماذا يتم استقدام العمالة الأجنبية من قبل القطاع الخاص في العراق؟!
هناك سببين مهمين: أولاً السبب الثقافي: رغم كونه سبب غير اقتصادي، إلا إن تأثيره مهم على الاقتصاد العراقي، فالطبيعة الاجتماعية للعامل العراقي تتطلب الكثير من العطل واضطراره للتغيب عن العمل لأسباب اجتماعية ودينية، وهذا ما قلل من إنتاجية العامل العراقي مقارنة بالعامل الأجنبي الذي غالباً ما تكون حتى إجازاته الطويلة (غير مدفوعة الاجور)!
ومع أهمية هذا السبب، إلا إن السبب الثاني هو الأهم اقتصادياً، وهو (تضخم رواتب العمالة العراقية).
لنبدأ مع: تكاليف الإنتاج، بشكل أساسي، كل مشروع لإقامته يتطلب عوامل الإنتاج المعروفة (الأرض، الرأسمال، اليد العاملة)، ولهذه العوامل تكاليف، يتم جمعها، ثم إضافة هامش الربح، ليتم تحديد السعر النهائي للمنتج، فمثلاً، تُصنع أو تُباع المنتجات في المدينة بسعر أعلى من الريف، بسبب غلاء إيجارات الأراضي والأبنية في المدينة ورخصها في الريف، وهذا المثال بسيط يوضح كيفية تؤثر تكلفة (إيجار الأرض) وترفع من اسعار المنتجات.
ماذا عن تكلفة الايدي العاملة؟!، بعكس العديد من دول الجوار، يعاني سوق الايدي العاملة المحلية في العراق من تضخم في الأجور وانخفاض في الانتاجية، وإذا أردنا تشبيه (تضخم الأجور) بالدوامة، فإن أول من أطلق هذه الدوامة هي الحكومات المتتابعة للعراق.
فبسبب عائدات البترول، والسياسات المتسرعة ذات الأهداف الانتخابية، تبنت الحكومات سياسات إنفاق حكومي توسعية مبالغ فيها، وذلك من أجل بناء اقتصادي حتى لو كان هزيل، وخلق رفاهية حتى لو كانت خادعة!
ومن باب الإنصاف، فإن سياسات الانفاق المتوسعة جداً قد صفق لها الشعب، ولكن بالتأكيد، لعدم معرفة عواقبها.
فتحت الحكومات باب التعيينات الحكومية على مصراعيه، وتم وضع سلم رواتب بعيداً عن مبادئ الإنتاجية والحاجة الفعلية، وهذا كله، أدى إلى جعل معدل دخل الموظف الحكومي أعلى من دخل نظيره في القطاع الخاص.
فمثلاً، شخصين يتقاضى كل منهما 500 ألف دينار، يعمل الأول بـ 4 أيام استراحة و 26 يوم عمل في شركة قطاع خاص، وبحسبه بسيطة يكون راتبه الفعلي 19 ألف دينار/اليوم.
بينما يعمل زميله الموظف الحكومي 22 يوم و 8 أيام استراحة في الشهر، فيكون راتبه اعلى ويساوي تقريباً 23 ألف دينار..
فرغم تساوي دخلهما الشهري، إلا أن امتياز العطل الكثيرة التي يتمتع بها الموظف الحكومي، زادت من راتبه الفعلي الذي يتقاضاه، وهذا ما زاد من جاذبية الوظيفة الحكومية، وبنفس الوقت زاد شعور التذمر والظلم لدى عاملي القطاع الخاص، وهو ما يدفعهم – في كثير من الاحيان – لتفضيل البطالة على العمل في القطاع الخاص.
قد نعتقد أن الحل هو في زيادة أجور العاملين في القطاع الخاص، إلا إن هذا الحل سيضعنا بين المطرقة والسندان.
فإذا كانت الحكومة تحدد رواتب موظفيها بعيداً عن معايير الإنتاجية والكفاءة، فإن المشاريع الاقتصادية الحقيقية لا تستطيع إلا أن تحدد رواتب العاملين وفقاً لهذه المعايير بالإضافة إلى معيار محدد أخر، وهو معيار سعر المنتج النهائي!
فالشركات العراقية إذا ارادت النجاح والاستمرار، فعليها خلق منتجات ذات تكاليف منخفضة قادرة على التنافس سعرياً مع المنتجات الأجنبية.
مزاحمة الحكومة للاقتصاد الحقيقي، وهنا تقع المطرقة والسندان، فأما أن يتجه صاحب المصنع لرفع أجور العامل المحلي لجذبه للعمل، وهذا سيؤدي إلى ارتفاع سعر المنتج وبالتالي انخفاض تنافسيته مع المنتجات المستوردة.. أو اللجوء إلى استقدام العمالة الأجنبية الرخيصة، وبالتالي سينخفض سعر المنتج العراقي ورفع تنافسيته مع المنتجات الأجنبية.
هذه المطرقة والسندان، لا نجدها في دول أخرى اتبعت حكوماتها سياسيات رشيدة في إنفاقها الحكومي، وقامت بتحديد احتياجها الفعلي من الموظفين الحكوميين، وتحديد اجورهم بناء على معايير الإنتاجية والعائد.
ففي تلك الدول كتركيا مثلاً، اخذ القطاع الخاص دوره في بناء اقتصاد متين بعيد عن مزاحمة الحكومة لقطاع الاعمال، واستطاع خلق منتجات رخيصة – بسبب رخص عوامل الإنتاج عامة والايدي العاملة خاصة -.
الحل: في استراتيجيات حل المشكلات، من الضروري التمييز بين (الاعراض) و (المسببات)، لكي يتم استهداف مسببات المرض، وليس أعراضه!
والعمالة الاجنبية الوافدة في العراق هي من أعراض السياسات الحكومية غير الرشيدة، ومن الخطأ الفادح طرد العمالة الأجنبية الذين يخدمون الاقتصاد العراقي! من خلال توفيرهم الايدي العاملة الرخيصة لقطاع الاعمال.
يكمن الحل بمعالجة الأسباب التي أدت إلى ارتفاع أجور العامل العراقي، وهو خفض وترشيد الانفاق الحكومي، واعتماد المعايير الموضوعية التي من شأنها رفع إنتاجية الموظف الحكومي، وليس خفض أجوره، حيث يمكن لهذه الإجراءات وأخرى غيرها أن ترجع بالأجور إلى معدلاتها الطبيعية وترفع من جاذبية العامل العراقي مقارنة بالعامل الأجنبي.
الخلاصة: لعب (الانفاق الحكومي غير الرشيد) دوراً في رفع أجور الايدي العاملة، وهو ما قلل من جاذبية العامل العراقي مقارنة بمنافسه الأجنبي.
في المقالة القادمة سنتحدث عن دور (الانفاق الحكومي غير الرشيد) في مزاحمة المشاريع الاقتصادية الحقيقية في الاقتراض وهو ما ساهم من طريق أخر بخفض جاذبية بيئة الاعمال والمشاريع في العراق وأثر على الاقتصاد العراقي مرة أخرى!.
اضف تعليق