تساهم السياسة المالية العامة بدور حيوي في خلق وتعزيز النمو الاقتصادي المستدام وذلك بسبب الحاجة الى حيز مالي للإنفاق على الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية والاستثمار العام، وكلها أولويات ملحة في العالم العربي. ولغاية الان لم يتحقق في الوطن العربي التعافي الكامل من الأزمة المالية العالمية...

تساهم السياسة المالية العامة بدور حيوي في خلق وتعزيز النمو الاقتصادي المستدام وذلك بسبب الحاجة الى حيز مالي للإنفاق على الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية والاستثمار العام، وكلها أولويات ملحة في العالم العربي.

 ولغاية الان لم يتحقق في الوطن العربي التعافي الكامل من الأزمة المالية العالمية وغيرها من الاضطرابات الاقتصادية الكبيرة التي سادت العقد الماضي. ففي البلدان المستوردة للنفط، لا تزال عجوزات المالية العامة كبيرة، كما ارتفع الدين العام بسرعة من 64% من إجمالي الناتج المحلي في 2008 إلى 85% من إجمالي الناتج المحلي عام 2018، ويتجاوز الدين العام حالياً 90% من إجمالي الناتج المحلي في حوالي نصف هذه البلدان.

اما في البلدان المصدرة للنفط فقد تحقق تعافياً طيباً من صدمة أسعار النفط الكبيرة عام 2014. مع ذلك، لا يزال النمو متواضعاً والآفاق تتسم بدرجة كبيرة من عدم اليقين بسبب التحول الكبير عالميا إلى استخدام الطاقة المتجددة على مدار العقود القليلة القادمة، تماشياً مع اتفاقية باريس للمناخ. وبذلك فان المسار الاقتصادي القادم للمنطقة محفوف بالمخاطر والتحديات، وهو ما يزيد من صعوبة المهمة التي تؤديها سياسة المالية العامة، ومن ثم زيادة أهمية بناء أسس قوية ترتكز عليها هذه السياسة.

مؤخرا، وخلال فعاليات "منتدى المالية العامة في الدول العربية" المنعقد في دبي، نوقشت العديد من قضايا المالية العامة، للوصول بشكل أعمق إلى أسس وابعاد سياسة المالية العامة وإدارتها الرشيدة. وقد تم التأكيد على ركيزتين أساسيتين من ركائز الإدارة الرشيدة للمالية العامة هما:

اولا: أطر المالية العامة

يمثل أطار المالية العامة السليم مجموعة القوانين والترتيبات المؤسسية والإجراءات اللازمة لتحقيق أهداف سياسة المالية العامة لبلد ما. ويسمح مثل هذا الإطار للحكومات بالتخطيط لموازناتها على المدى المتوسط بصورة تعكس أهدافاً واضحة ومتناسقة وذات مصداقية. وهناك مجال لتحسين أطر المالية العامة في الوطن العربي والتغلب على معضلة الرؤية قصيرة المدى ونقص المصداقية. وبالنسبة للرؤية قصيرة المدى، فنظراً لأن النمو الاقتصادي المستدام هو هدف متوسط الأجل بطبيعته، تحتاج سياسة المالية العامة إلى تَوَجه متوسط الأجل.

 لان التركيز على الأفق الآني يزيد من صعوبة تنفيذ الإصلاحات التي تتسم بالأهمية ولكنها أطول أجلاً في مجالات عدة من نحو تصميم نظم فعالة للحماية الاجتماعية والتخلص من ظاهرة الركوب المجاني للفئات مرتفعة الدخل ومعالجة ترهل القطاع العام. وتعني الرؤية قصيرة المدى أن سياسة المالية العامة تضخِّم موجات الانتعاش والركود بدلاً من أن تروضها مما يزيد من صعوبة تحقيق النمو الاقتصادي المستدام والاحتوائي.

وفيما يخص مصداقية المالية العامة فان عوامل عدة مثل مبالغ الإنفاق العام الكبيرة التي لا تدرج في الموازنة العامة وضعف إدارة المخاطر في مختلف بلدان الوطن العربي يشيع توجيه موارد الثروة السيادية لتمويل المشروعات بشكل مباشر، دون المرور على عملية الموازنة العادية.

وهناك مؤسسات مملوكة للدولة في بعض البلدان لديها مستويات عالية من الاقتراض خارج الموازنة العامة أيضاً. وليس من شأن معالجة هذه المخاطر التي تواجه المالية العامة أن تعزز مصداقية الموازنة وشفافيتها فقط، بل أن تساعد على كبح الفساد أيضاً. كذلك فإن مصداقية الموازنة تدعو لتحسين إدارة المخاطر، مع وضع موازنة أكثر شمولاً تقوم على تنبؤات واقعية.

 وقد بدأت بعض البلدان بدأت بالفعل في تعزيز أطر ماليتها العامة منها:

- قامت المملكة العربية السعودية والكويت والإمارات العربية المتحدة والسودان وقطر ولبنان جميعها بإنشاء وحدات للمالية العامة الكلية، وهي خطوة أولى مفيدة في تعزيز إطار المالية العامة.

- اعتمدت الجزائر مؤخراً قانوناً جديداً للموازنة يركز بقوة على المدى المتوسط، كما استحدثت البحرين برنامجاً للمالية العامة يهدف إلى تحقيق التوازن على المدى المتوسط.

- تحقق موريتانيا والمغرب والأردن ولبنان تقدماً كبيراً في التخطيط للاستثمارات العامة وتنفيذها على المدى المتوسط.

- تنشر مصر حالياً بياناً بالمخاطر المتوقعة على المالية العامة مرفقة بالموازنة العامة، وتصدر أثناء السنة تقييماً داخلياً للمخاطر التي تتعرض لها الموازنة. وتعمل دولة الإمارات أيضاً على إطلاق مشروع لإدارة مخاطر المالية العامة وستصدر هذا العام اختبارها الأول لقياس تحمل الضغوط على المالية العامة.

- وهناك مجال لمزيد من التحسينات، فربما تستطيع البلدان المصدرة للنفط احتذاء حذو بلدان أخرى غنية بالموارد، مثل شيلي والنرويج، في استخدام قواعد المالية العامة لحماية أولوياتها الأساسية، مثل الإنفاق الاجتماعي، من التأثر بتقلب أسعار السلع الأولية.

- ولأطر المالية العامة القوية فوائد مهمة أخرى، فهي تشكل الأساس لإدارة الدين السليمة، كما أنها تسمح بتنسيق أفضل بين سياسة المالية العامة والسياسة النقدية، حتى تعمل أذرع الإدارة الاقتصادية الكلية معاً، وليس بصورة متعارضة.

ثانيا: الحوكمة الرشيدة والشفافية

 تهتم الركيزة الثانية لتحقيق الإدارة الرشيدة للمالية العامة بالحوكمة الرشيدة والشفافية. وتشير الحوكمة إلى الأطر والممارسات المؤسسية في القطاع العام. وتشكل المؤسسات القوية عاملاً حيوياً لتحقيق الشرعية، وتعزيز فهم المواطنين لأهداف السياسات بصورة أوضح، وإعطائهم صوتاً أقوى للتعبير عن الرأي، وكسب مساندتهم لسياسة المالية العامة.

 ومن ناحية أخرى، فإن المؤسسات الضعيفة تعني ركيزة ضعيفة للسياسات يمكن أن تتصدع وتتداعى بسبب عدم كفاية الشرعية والمساءلة العامة. والأسوأ من ذلك أن هذه التصدعات يمكن أن تؤدي أيضاً إلى إتاحة شق يتسلل منه الفساد. والفساد هو عامل الإرباك الأكبر للسياسة المالية العامة.

فبدون ثقة في عدالة النظام الضريبي، تزداد صعوبة تعبئة الإيرادات اللازمة للإنفاق على الاحتياجات الضرورية في مجالات الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية. وقد تنزع الحكومات إلى تفضيل المشروعات المظهرية الضخمة بدلاً من الاستثمار في الموارد البشرية والإمكانات الإنتاجية. وهذه قضية عالمية تنطبق على البلدان الكبيرة والصغيرة، وعلى الاقتصادات المتقدمة وذات الدخل المنخفض، وعلى القطاعات العامة والخاصة.

 ومن هنا، لا غرابة في أن تخلص الابحاث والدراسات إلى أن الحوكمة الضعيفة والفساد يرتبطان بانخفاض كبير في كل من النمو، والاستثمار، والاستثمار الأجنبي المباشر، والإيرادات الضريبية ومستويات أعلى من عدم المساواة والإقصاء.

وفي حقل المالية العامة، يتطلب زيادة شفافية المالية العامة تسليط ضوء على كل بنود الموازنة والحسابات الختامية والعامة. ومن شأن ذلك أن يقدم صورة أدق لمركز المالية العامة وآفاقها المتوقعة، والتكاليف والمزايا طويلة الأجل لأي تغييرات في السياسة القائمة، ومخاطر المالية العامة المحتملة التي قد تتسبب في انحراف المسار.

ومثل هذا النوع من الإصلاحات يؤتي ثماره لاحقا، على سبيل المثال في حالة جورجيا. فحتى عام 2003، كانت تعتبر من أكثر البلدان فساداً على مستوى العالم. ولكنها قامت بعد ذلك بإصلاح مؤسساتها وشن حملة على الفساد. وأدى ذلك إلى حدوث تحسينات فورية في الاقتصاد الوطني. فالإيرادات الضريبية زادت من 1.2% من إجمالي الناتج المحلي في 2003 إلى 2.5% من إجمالي الناتج المحلي في 2008، حيث أصبح دافعو الضرائب على ثقة أكبر في عدالة النظام الضريبي والمالي في البلد.

ومع تحسين الحوكمة، يمكن التخلص من حالة التفكك الناجمة عن الفساد ليحل محلها الاندماج في الاقتصاد المنتِج. إن سياسة المالية العامة الرشيدة تتطلب ركائز مؤسسية سليمة، والركائز القوية في مجالات مثل أطر المالية العامة والحوكمة تعطي المواطنين الثقة في أن سياسة المالية العامة تخدم صالح الجميع وليس فقط الأثرياء وأصحاب النفوذ.

* باحث في مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2019
www.fcdrs.com

اضف تعليق