q
يحتدم الصراع الاقتصادي والتجاري اليوم بشكل كبير وواضح، اذ بلغت التنافسية أوجها وأطلقت العنان لنفسها لتصبح سمة هذا العصر الرقمي الفريد من نوعه في التغيرات المتلاحقة والمستمرة وعلى كافة الاصعدة، حتى وصلنا الى مرحلة ما يعرف بالذكاء الاصطناعي، والذي بات اليوم هو المفتاح لعالم الغد والمستقبل...

يحتدم الصراع الاقتصادي والتجاري اليوم بشكل كبير وواضح، اذ بلغت التنافسية أوجها واطلقت العنان لنفسها لتصبح سمة هذا العصر الرقمي الفريد من نوعه في التغيرات المتلاحقة والمستمرة وعلى كافة الاصعدة، حتى وصلنا الى مرحلة مايعرف بالذكاء الاصطناعي، والذي بات اليوم هو المفتاح لعالم الغد والمستقبل، وبما ان موضوع الذكاء الاصطناعي لايزال قيد الانجاز والبحث ولايزال هدف بعيد المنال وتدور حوله الشكوك والتساؤلات، الا ان اثارته هنا تطرح تساؤل مهم مفاده، هو ان الذكاء الاصطناعي هو نتيجة من الاختبارات والبحوث والدراسات والتجارب والبحث والتطوير جاءت محصلتها بهذا الشكل من التطور والتقدم، وكل هذا اندرج تحت مفهوم استثمار المعرفة. فأين نحن من هذا الاستثمار الهائل الذي من خلاله أصبحت المعرفة هي المتحكم في الاقتصادات العالمية؟.

فعلى سبيل المثال، لننظر إلى معهد ماساتشوستس للتقنية (MIT) في الولايات المتحدة الأمريكية، فمنذ أن أُسس المعهد، وهو رائد في تشجيع الباحثين على العمل بروح الفريق في جميع المجالات مع تخطي الحدود المؤسسية وحدود التخصصات والكليات.. وقد أدى ذلك إلى إنشاء علاقات التعاون المشترك بين المعهد والصناعة.. مما أثمر عن تأسيس الآلاف من الشراكات والمؤسسات البحثية الرائدة، مما ساهم في بناء الاقتصاد المعرفي والتنمية المستدامة للولايات المتحدة الأمريكية.

فقد تميز معهد (MIT) بحل المشكلات التقنية الحقيقية على المستوى العالمي، فهنالك حالياً أكثر من 800 شركة تعمل مع أعضاء هيئة التدريس والطلاب على المشاريع ذات الاهتمام المشترك، ومن بين هذه الشركات العالمية الرائدة: شركة بي أيه اي، وبي بي، ودو بونت، وايليكتريكت دو فرانس وشركة ايني، وفورد موتورز، وشركة ميرك، ونوكيا، وشركة نوفارتيس، وشركة كوانتا كومبيوتر، وروبرت بوش، وشركة شل وتوتال، وغيرها.

وقد نشط معهد (MIT) في تسجيل براءات الاختراع وترخيص التقنيات ونقلها إلى الصناعة، ففي عام 2009م عمل المعهد على تسجيل 131 براءة اختراع، ومنح ما يزيد على 67 رخصة.. ووفقاً لدراسة أجرتها مؤسسة ريادة كوفمان في عام 2009م، ما يزيد على 25 ألف شركة تم تأسيسها من قبل المعهد مما ساهم في خلق 3.3 مليون وظيفة وتريليوني دولار في المبيعات السنوية العالمية.. كما وتصدر المعهد المرتبة الأولى في تمويل الصناعة من نفقات البحث والتطوير بين جميع الجامعات والمؤسسات العلمية وفقاً لدراسة أجرتها مؤسسة العلوم الوطنية، حيث بلغت البحوث الصناعية المعرفية التي يرعاها المعهد 116 مليون دولار في عام 2009م، أو ما يعادل 16 % من مجموع تمويل البحوث في المعهد، وفقا للخبير عبد الله العثمان.

هذه الارقام المذكورة لم تكن وليدة الصدفة او جاءت في ظروف استثنائية بل هي انعكاس لوجود ستراتيجية تحمل في ذاتها أهمية دور العقل والمعرفة في التطور والارتقاء، ففكرة البقاء للاصلح هي من ضمن هذا الفهم المركب والواسع، والا فكيف لهذه الفكرة ان تقوى وتنمو الا في ظل تطور العقل ليبقى من يحمل المعرفة هو الاصلح والافضل في الاستمرار على هذا الكوكب. حتى اصبحت المعرفة على هذه الارض من اثمن السلع التي يمكن ان تباع وتشترى.

نحن والمعرفة، الخلل والحل

على الرغم من كثرة البحوث والدراسات حول الاستثمار في المعرفة واهميتها في الحياة، الا اننا لانزال ندور في فلك الدراسات النظرية البعيدة عن ارض الواقع والتي تبقى مجرد رزم من الاوراق موضوعة على الرفوف، اذ لم نجد لحد الان نهضة حقيقية في هذا المجال تعمل على الاستثمار في العقل والرأس مال البشري بالشكل الذي يقلل من حجم الفجوة التي بيننا وبين الدول الاخرى، وحتى تلك الجهود المبذولة سيما من بعض الدول التي شعرت بأهمية الاستثمار المعرفي وقعت في ذات المطل الذي كنا ولانزال نقع فيه وهو استنساخ التجارب، فبدل ان تكون لنا تجارب رائدة في مجال الاستثمار المعرفي، اتجهنا نحو استيراد هذه التجارب كما هي، وبالتالي لن تسعفنا في انقاذ الوضع او تقديم نموذج وطني محلي قادر على بناء منظومة قاعدية من شأنها ان تكون النواة لهكذا مشروع.

والاهم من كل هذا اننا لانزال ننظر ان مجرد استنساخ هذه التجارب او جذب وجلب العلوم هو المفتاح للحاق بعالم التكنولوجيا والصناعة المتقدمة، ان المشوار الطويل لهذه الدول الرائدة في مجال التكنولوجيا والاستثمار المعرفي جاء نتيجة خطى ثابتة وموزونه وفي نفس الوقت متسارعة كنتيجة لتحقيق اعلى ميوة تنافسية ممكنة تمكنها من قيادة العالم، وان اول ماقامت به في هذا المجال لم يكن مجرد تمويل تلك المشاريع والبحوث ودعمها وحسب كما نظن نحن, بل جاء في ايجاد بيئة مواتية لتلك العقول في ان تعمل وتبحث وتنطلق بعيداً عن كل التيارات الرافضة للتطور تحت اي ذريعة ممكنة. وهذا يبدو حجر عثرة لاتزال الدول العربية خاصة تعاني منه في بداية كل طريق تسير فيه، وهو ماهي الحدود لهذه المعرفة وماذا سينتج من صدام المعرفة والقيم والنزاعات الاجتماعية والدينية والنفسية، وبالتالي الخوف من المعرفة في تقضي على كل تلك الرواسخ المجتمعية التي بقيت صامدة طوال تلك العقود، فمثلاً ما هو دور المرأة وماهي حدودها في القيادة المجتمعية والسياسية، واين يجب ان يقف العقل والعلم عندما يصطدم بجدار الاعراف والتقاليد والثوابت الدينية، ماهي الحرية الممكن منحها للمعرفة في أن تشغل الحياة؟.

ان هذه الاشكاليات هي بصراحة تجعل من فكرة الاستثمار المعرفي مجرد فكرة وهدف غير واقعي على ارض بلداننا، مادام الصدام والنزاع مستمر، فثوابت الحرية والعقل هي الاساس والمنطلق في ان نستثمر في المعرفة وبدون وجود ارضية صالحة لهذا الاستثمار من الناحية المجتمعية فأن مهما مولنا مشاريعنا وابحاثنا ودراساتنا ستبقى تقليدية ونمطية تفتقر للابتكار والابداع وما هي الا محاكاة بائسة لما يدور في الغرب من تطور وتقدم.

اضف تعليق