اقتصاد - مقالات اقتصادية

آثار السياحة الدينية على اقتصاد العراق وتكوين الناتج الوطني

المحور الحادي عشر: قطاع السياحة ـ السياحة الدينية

يمكن للسياحة الدينية أن تؤدي دوراً مهماً في ازدهار اقتصاد العراق والنهوض بمستوى الخدمات الانسانية والاجتماعية واقامة البنى التحتية وتوفير مستوى معيشي مقبول للسكان يدعم مستلزمات الامن والاستقرار والتقدم. ان ذلك يتطلب اعتماد التخطيط العلمي السليم لتطوير الامكانات السياحية الكبيرة لاسيما في قطاع السياحة الدينية...
ورقة دراسة موجزة: د. رؤوف محمّد علي الأنصاري

 

المقدمة

تبين كافة المؤشرات ان العراق يمكن ان يصبح مركزاً سياحياً رائداً، لاسيما في قطاع السياحة الدينية، بسبب مكانته الدينية والتاريخية والحضارية، لاحتضانه معالم حضارية اسلامية بارزة، ومراقد أئمة لهم ملايين الاتباع في العالم، بالاضافة الى مراقد الانبياء، ابراهيم، ونوح، ويونس، وجرجيس، وهود، وصالح وذو الكفل... ومراقد أئمة أهل البيت (ع): الامام علي بن أبي طالب (ع) في مدينة النجف الأشرف، والإمام الحسين وأخيه العباس (ع) في مدينة كربلاء المقدسة، والامامين موسى بن جعفر الكاظم ومحمد الجواد (ع) في مدينة الكاظمية، والامامين علي الهادي والحسن العسكري (ع) في مدينة سامراء... وفي بغداد مرقدي الامام أبي حنيفة النعمان والشيخ عبد القادر الكيلاني، بالإضافة الى مراقد شيوخ الطرق الصوفية في مختلف أنحاء العراق.

ويمكن للسياحة الدينية أن تؤدي دوراً مهماً في ازدهار اقتصاد العراق والنهوض بمستوى الخدمات الانسانية والاجتماعية واقامة البنى التحتية وتوفير مستوى معيشي مقبول للسكان يدعم مستلزمات الامن والاستقرار والتقدم. ان ذلك يتطلب اعتماد التخطيط العلمي السليم لتطوير الامكانات السياحية الكبيرة لاسيما في قطاع السياحة الدينية، التي تجعل منها كمصدر مهم للدخل الوطني وتحقيق الرفاهية للمجتمع، بحيث جعلت العديد من الدول تعتمد عليها في زيادة دخلها من العملات الاجنبية وتعزيز مكانتها ودورها السياسي والاقتصادي.

الآثار المباشرة للسياحة الدينية

أولاً: أثر السياحة الدينية في الدخل الوطني

يتكون النـاتج أو الدخل الوطني من خلال الفعاليـات التي تمارسـهـا القطاعات الأخرى المختلفة (زراعية، صناعية، خدمية) على مدار السـنة، وكل قطاع منها يمتلك مجموعة مشاريع تتمثل بالمعامل والمصانع والمزارع والمنشآت والمؤسسات والمرافق وغيرها. وتقوم هذه الوحدات بمزج عناصر الإنتاج مع بعضها لكي تحولها إلى سلع وخدمات نافعة للمجتمع.

والسيـاحة الدينية أيضاً تمارس أنـشطتهـا من خلال وحداتها الخدمية المتمثلة بالفنادق، المطاعم، وسائط النقل.. الخ، والتي تقوم بدورها بمزج عناصر الإنتاج وتحويلها إلى مجموعة خدمات تباع لزوار العتبات المقدسة.

إن الدخل الناتج عن السـياحة الدينية، هو مقدار مـا ينفقه الزوار مقابل الخدمات أثناء رحلاتهم لزيارة العتبات المقدسة، والذي يعد من زاوية أخرى، إيراداً للوحدات الخدمية العاملة في مجال السياحة الدينية.

وهناك العديد من الدول تعد السياحة بالنسبة لها أحد المصادر الرئيسية في تكوين دخلها الوطني. ومن الممكن أن يكون للسياحة الدينية شأن كبير في الدخل الوطني العراقي بما تمتلكه من مقومـات حضاريـة تتمثل بالمدن الدينية المقدسة والأماكن الدينية الأخرى، القادرة على استقطاب ملايين الزوار المسلمين وغيرهم سنوياً.

ثانياً: أثر السياحة الدينية في ميزان المدفوعات

يصاحب عملية استضافة الزوار القادمين إلى العراق بهدف زيارة العتبات المقدسة، دخول مقدار كبـير من العملات الأجنبية. وبذلك تكون السياحة الدينية مصدراً مهماً لكسب العملات الأجنبية تدعم فيه ميزان المدفوعات. وفي هذا الصدد يجب مراعاة إجراء موازنة مـا بين العائد من العملات الأجنبية بواسطة الزوار الوافدين للسياحة الدينية من جهة، وما ينفق بالعملات الأجنبية على استيراد مستلزمات الإنتاج المستخدمة من قبل المنشآت السياحة الدينية من جهة أخرى. وحصيلة الفارق بين العائد والإنفاق هي التي تقرر دور السياحة الدينية في ميزان المدفوعات. ففي حالة تفوق العائد، يكون هناك فائض في العملات وينشأ الدور الايجابي، وفي حالة تفوق الإنفاق يكون هناك عجز وينشأ الدور السلبي.

ثالثاً: أثر السياحة الدينية في الميزانية الحكومية

يمكن للسيـاحة الدينيـة أن تكون مصدراً مالياً مهماً لخزينة الدولة عن طريق الإيرادات التي تحققها الرسوم المستوفاة من الزوار عن الخدمات المقدمة لهم، لاسيما إذا اقتنع الزائر بأن هذه الأموال سوف تنفق أيضاً لأغراض تطوير المراقد والمواقع الدينية والمؤسسات الخدمية التابعة لها. وتعتبر الضرائب والرسوم التي تفرض على المشاريع السياحية مصدراً مهماً لميزانية الدولة.

رابعاً: أثر السياحة الدينية في توفير فرص العمل

تنتمي صناعة السياحة إلى قطاع الخدمات. وهذا يعني أن النشاط السياحي يمتاز بدرجة عالية من الاعتماد على الجهود البشرية المتمثلة بعنصر العمل. ومن الصعوبة بمكان إحلال المكـنـنة محل عنصر العمل إلا في حدود نطاق ضيق كاستخدام الحاسوب الالكتروني. وهذا ما أكّدهُ أحد العلماء الفرنسيين وهو فورستيه من خلال نظريته المبنية على مجموعة من أرقام وحقائق مستنبطة من واقع التطور للقطاع السياحي، وكانت النتيجة أنه كلما تطور القطاع السياحي كلما زاد اعتماده على عنصر العمل، وهذا يعني أن للسياحة قابلية فائقة على إيجاد فرص عمل جيدة ضمن حدود القطاع السياحي.

خامساً: أثر السياحة الدينية في إعادة توزيع الدخل وتنشيط التنمية جغرافياً

غالباً ما يتم تنفيذ المشاريع التنموية، بالدرجة الأساس، في المدن الكبيرة والكثيفة السكان، ويكون ذلك على حساب المدن الصغيرة والأرياف والأماكن النائية. ففي الوقت الذي ينعم فيه سكان المدن بكل مستلزمات الحياة العصرية، فإن سكان الأقاليم الأخرى يعانون من نقص شديد في هذا المجال، وهذا يؤدي إلى التوزيع غير العادل للتنمية والدخل.

ففي العراق على سبيل المثال تتوزع المراقد الدينية في المدن الدينية الكبيرة كما هو في كربلاء والنجف والكاظمية وسامراء، وكذلك في المدن الصغيرة والأرياف والأماكن النائية كما هو في مدن الحمزة والقاسم وغيرها مثل مناطق الحر وعون بن عبد الله وأحمد بن هاشم في محيط مدينة كربلاء.

وهنا يأتي دور السياحة الدينية في توزيع عادل للدخل والمشاريع التنموية في كافة المناطق النائية والمدن الصغيرة والكبيرة، وبالخصوص مشاريع الطرق والنقل والخدمات كالأسواق والفنادق والمطاعم والمرافق السياحية وغيرها.

الآثار غير المباشرة للسياحة الدينية

أولاً: الأثر المضاعف للسياحة الدينية

إن المبالغ التي تنفق من قبل زوار المدن الدينية المقدسة، والتي تكون إيراداً لأصحاب المشاريع السياحية، يُعاد إنفاقها مرة ثـانية وثالثة. وهكذا فإن الدخل المتحقق من نشاط السيـاحة الدينيـة يتضاعف في نهاية الأمر لعدة مرات بحكم تأثير المضاعف الاقتصادي. ولغرض تحسين قيمة المضاعـف، وبالتالي مضاعفة الدخل المتحقق عن نشاط السياحة الدينية، لابد من تنمية القطاعات الأخرى التي تمد السياحة الدينية بعناصر الإنتاج، والمتمثلة بالدرجة الأساس بقطاعات البناء والإنشاء والصناعات المحلية المتعددة وخاصة الحرف والصناعات الشعبية التي يمكن الاعتماد عليها في سد حاجات السوق المحلية.

ثانياً: أثر السياحة الدينية في تنشيط حركة الإنتاج والاستثمار في القطاعات الأخرى

للسياحة عموماً قدرة عالية على خلق سلسلة من العمليات والنشاطات الإنتاجية (بسبب امتدادات الطلب السياحي المعقدة المباشرة منها وغير المباشرة إلى أكثر فروع وقطاعات الاقتصاد الوطني) وتسهم في قيام العديد من الصناعات الثانوية والجانبية التي تتصل بأكثر من مائة وخمسين صناعة مختلفة.

وبـنـاءً على ذلك فإن آثار السياحة الدينية تمتد إلى القطاعات الأخرى، وبذلك تكون محركاً قوياً للاقتصاد الوطني العراقي.

ثالثاً: أثر السياحة الدينية في تنمية مشاريع البنى التحتية وتطويرها

حرصاً على إبراز الجوانب الحضارية المتميزة أمام زوار المدن الدينية المقدسة في العراق، لابد من تنفيذ عدد من مشاريع البنى التحتية التي توفر جانباً مهماً من مستلزمات الحياة العصرية، ليس ضمن حدود بلديات المراقد المقدسة فحسب، بل وفي كل المواقع التي يتواجد فيها الزوار، وتشمل مشاريع الخدمات كافة. وإن هذه المشاريع لا تقتصر على استخدامات الزوار لها فقط، وإنما تشمل سكان المدن المقدسة والمناطق الأخرى كافة.

رابعاً: أثر السياحة الدينية في تنمية البنى الفوقية وتطويرها

إن تنمية المناطق الدينيـة وأهميـة الظهور بالمظهر اللائق أمام الزوار والسواح، يعني بالضرورة الاهتمام بالبنى الفوقية للبلد عموماً، وللمنشآت السياحية والمراقد الدينية خصوصاً. والاهتمام لا يقتصر على بناء مشاريع البنى الفوقية وتوفيرها، بل يتعداه إلى الاهتمام الكبير بالبنى الفوقية التي تعنى بنوعية الأبنية وتصاميمها ومظهرها الخارجي، وبالخصوص المراقد الدينية التي تُعد من أبرز معالم الحضارة الإسلامية في العراق والعالم الإسلامي.

خامساً: أثر السياحة الدينية في تحسين البيئة وتطوير المواقع التاريخية والأثرية

على الرغم من أن المراقد المقدسة والمواقع الدينية الأخرى تشكل عنصر الجذب الأساس في مجال السياحة الدينية، إلا أن تحسين البيئة وتطوير المواقع التاريخيـة والأثريـة تعد من الأولويـات المهمة التي لا غنى عنها وهي مكملة للسياحة الدينية.

فالزائر أو السائح الذي يقطع المسافات الطويلة لتأدية مراسيم الزيارات الدينية، يرغب أيضاً بممارسة بعض الأنشطة الثقافية والترويحية، منها الإطلاع على المعالم التاريخية والأثرية الموجودة ضمن حدود المناطق الدينية. ومجاميع كبيرة من الزوار يخصصون جزءاً من وقتهم للراحة والاستجمام في البساتين والمتنزهات، وجزءاً آخر من الوقت يخصص للتسوق وبالخصوص في الأسواق القديمة.

وهذا يتطلب الاهتمام بالجوانب التالية:

- حماية البيئة من التلوث.

- زراعة الغابات الاصطناعية والأحزمة الخضراء وحماية البساتين.

- إقـامة الحدائـق العامة والمتنزهات وملاعب الأطفال وبالخصوص المتنزهات الخاصة بالنساء والأطفال فقط.

- ترميم وصيانة المواقع التاريخية وتحسين الأحياء القديمة.

سادساً: أثر السياحة الدينية في الإعلام

يعتبر الإعلام أحد الوسائل الأساسية للتعريف بالمنجزات الحضارية للبلد أمام دول العالم، وتخصص لهذا الغرض أموال طائلة من ميزانية الدولة سنوياً.

ويُعد الزائر أو السائح أفضل وسيلة دعائية إعلامية مجانية صادقة تعكس واقع التطور الموجود في البلد عند عودته إلى بلده. وإن استقبال ملايين الزوار والسواح سنوياً، يعني كسب تأييد عشرات الملايين من أبناء مختلف الدول، إذا ما تم استضافة الزوار والسواح بطريقة حضارية ولائقة وكسب رضاهم من خلال حسن الضيافة والمعاملة وتوفير كافة الخدمات والمستلزمات الضرورية لهم.

وهناك آثار أخرى للسياحة الدينية يجب أن تحظى بالاهتمام والدراسة والتقييم وهي:

- أثر السياحة الدينية في المستوى العام للأسعار

في الزيارات الدينية المهمة، يتدفق مئات الآلاف من الزوار على المدن الدينيـة المقدسـة خصوصاً مدينة كربلاء المقدسة، ويقابل هذا العدد الهائل من الزائرين ارتفاع كبير في الأسعار وبالذات المواد الاستهلاكية منها، وتخلق حالة من التضخم النقدي، وتنعكس آثار هذا التضخم وبشكل سلبي على سكان المدن الدينية من ذوي الدخل المحدود، مما يؤدي إلى انخفاض في مستواهم المعيشي. لذلك لابد من إيجاد طريقة توفر المواد الاستهلاكية لسكان المدن الدينية المقدسة، وخاصة من ذوي الدخل المحدود، وبـأسـعـار عاديـة لا تؤثر على مستواهم المعاشي، كإقامة الجمعيات التعاونية الاستهلاكية الخاصة بأبناء المدينة فقط.

- أثر السياحة الدينية في قضايا التبعية الاقتصادية

تتمثل هذه الحالة عندما يكون تشغيل المرافق السياحية معتمداً بالأساس على الزوار القادمين من بلدٍ معين كإيران مثلاً. وبالتالي فإن الأنشطة الاقتصادية في المدن الدينية المقدسة ستتأثر سلباً أو إيجاباً باقتصاديات ذلك البلد. فتنتعش السـياحة الدينية في المدن المقدسـة عندمـا يكون ذلك البلد في حالة من الرخاء الاقتصادي، والعكس صحيح.

أو قد تحدث ظروف استثنائية تحول دون وصول الزوار من ذلك البلد لأسباب عديدة مما يولد اهتزازاً بالغاً في الأنشطة الاقتصادية للمدن الدينية المقدسة. والمطلوب تنويع مصادر الطلب على السيـاحة الدينيـة في البلد، وعدم الاعتماد بصورة رئيـسيـة على بلدٍ واحد، وهذا يتطلب الترويج للسياحة الدينية في كافة البلدان الإسلامية والبلدان الأخرى التي تتواجد فيها جاليات إسلامية كبيرة.

- الأثر الاجتماعي والثقافي للسياحة الدينية

نتيجة الاحتكاك والتعامل المباشر بين السكان المحليين من جهة، وزوار المدن الدينية المقدسة القادمين من بلدان مختلفة ومتعددة الثقافات من جهة أخرى، سوف يطلع السكان ويكتسبون العديد من العادات والتقاليد الاجتماعية والثقافية وعلى مستويات مختلفة، مما يؤثر إيجاباً أو سلباً على البيئة الاجتماعية للبلد. وبمعنى آخر فإنّ هذا الاحتكاك سيولد تغييراً في البيئة الاجتماعية والثقافية. وقد برهنت القرون الماضية بأن احتكاك سكان المدن الدينية مع القادمين لزيارة مراقدها المقدسة أدى إلى رفع المستوى الثقافي للسكان، وانعكس على التركيبة السكانية المتسامحة للمدن الدينية، كما كانت منطلقاً للكثير من الحركات الفكرية والسياسية والترجمة ودراسة اللغات والثقافات والعادات.

.................................
* تدعو الأمانة العامة للهيئة الاستشارية العراقية للإعمار والتطوير (ICADP)، التي تأسست عام 2010، الأخوات والإخوة الزملاء الأعزاء من الأكاديميين والخبراء العراقيين المختصين في مختلف المجالات والميادين العلمية والثقافية من داخل العراق وخارجه، لتقديم رؤيتهم لإصلاح الوضع في العراق، من خلال: تقييم تجربة الحكم والعملية السياسية وإدارة الدولة ما بعد عام 2003 وإيجاد الحلول الناجعة لإخفاقاتها، عِبرَ مشاركتهم بدراساتهم ومقترحاتهم العلمية كلٌ حسب اختصاصه، وتقييمها بالشكل التالي:
أولاً ـــ تحديد المشاكل والمعوقات فيما يتعلق بالموضوع الذي يتم إختياره.
ثانياً ـــ تقديم الحلول والمقترحات العلمية الواقعية لها دون الخوض في تفاصيلها.
وإرسالها عن طريق البريد الالكتروني: E- mail: icadp@ymail.com
د. رؤوف محمّد علي الأنصاري/الأمين العام

اضف تعليق