وفي بلد مثل العراق ينتهج سياسة او نموذج السوق الحر كما هو معلوم وإن كان ذلك غير متحقق على الصعيد العملي، هل هو بحاجة للتخطيط (تدخل الدولة) في النشاط الاقتصادي؟ أم يجب ترك آلية عمل الاقتصاد لتفاعل القطاع الخاص والقطاع المصرفي المتمثل بالبنك المركزي لأن يُشكل مسار الاقتصاد في البلد، بمعنى هل من داعي لوجود وزارة التخطيط في بلد يعتمد آلية السوق كنموذج اقتصادي له؟...

إن التخطيط كان وما يزال عملية مستمرة منذ الأزل إلا أنه قد اخذ شكله الحالي كعلم منظم بعد الثورة الصناعية واختراع الآلة البخارية. فقد ظهرت فكرة التخطيط الاقتصادي المنظم عام 1910 على يد النرويجي كريستيان شونهيدر، وتم تعزيز فكرة التخطيط الاقتصادي والعسكري إبان الحرب العالمية الأولى 1914. وقد ادى قيام الثورة البلشفية في روسيا وظهور النظام الاقتصادي الاشتراكي ذو التخطيط المركزي عام 1917 الى تبنى التخطيط كسياسة دولة. اما في الاقتصاد الرأسمالي فقد ظهرت الفكرة الكنزية على يد الاقتصادي كينز، والمنادية بان آلية السوق وحدها غير قادرة على ضمان التوظيف الكامل مما يستوجب تدخل الدولة لتوجيه النشاط الاستثماري. وقد تبنت دول رأسمالية معروفة مثل ألمانيا وبريطانيا وفرنسا فكرة التخطيط قبل وخلال وبعد الحرب العالمية الثانية وكان اوج هذا التبني الرأسمالي للتخطيط المركزي من خلال صياغة وتنفيذ خطة الولايات المتحدة الأمريكية لاعادة اعمار أوروبا والتي عرفت بمشروع مارشال.

الا أنه وبعد ذلك سيما بعد فشل الوصفات الكنزية في معالجة حالة التضخم الركودي في السبيعينات وما مر به الاقتصاد العالمي من ظروف اقتصادية، دعت الحاجة الى تبني فكر جديد يأخذ على عاتقه مواجهة هذه التحديات، لذا بزغ نجم الفكر النقودي الى حيز التطبيق وإن كانت ولادته تسبق ذلك، وعلى يد الاقتصادي الكبير ملتون فريدمان، إن الجدل الذي دار بين النقوديين والكنزيين ليس مجرد جدل حول أي السياسات الاقتصادية الانفع والاجدر لادارة موارد البلد وحسب، وإنما ايضاً يضم في طياته حول فلسفة تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، وبالتالي ووفقاً للمحور النقودي فأن تطبيق هذه الوصفه يتضمن حدود دنيا من تدخل الدولة في الاقتصاد، وإن القطاع الخاص سيما النظام المصرفي يجب أن يكون مستقلاً وحراً في اتخاذ مايراه مناسب في التأثير في المتغيرات الاقتصادية.

وهنا ظهرت مشكلة أخرى واجهتها معظم الدول النامية أو لنقل تلك التي تتبع أو تتخذ من التخطيط المركزي أو أي كان نوعه مسار لها في تحقيق التنمية والاستقرار الاقتصادي، ففي الولايات المتحدة والدول الرأسمالية الأخرى التي طبقت النموذج النقودي لفريدمان حققت نجاحاً واضحاً من خلال استقلالية بنوكها المركزية مما حدا بها أن تترك المجال له وللقطاع الخاص في رسم السياسات الاقتصادية لبلدانها وتشكيل نموذجها الاقتصادي السوقي الحر بشكل واضح للجميع، وهذا النجاح لفت انتباه معظم دول التخطيط المركزي والتي ارادت بصورة واخرى استيراد او الاخذ بالنموذج النقودي في ادارة السياسة النقدية للبلد، على اعتبار ووفقاً للنهج النقودي في إن السياسة المالية ذات تأثير محدود في الوضع الاقتصادي، الا أن محاولة تلك الدول في الاخذ بهذه التجربة اصطدم بحاجز فقدان السيطرة على أهم مؤسسة مالية في البلد الا وهي البنك المركزي، لذا نجد أن هذه الدول وإن وضعت خطط ستراتيجية وتنموية ممتازة وذات أبعاد واهداف حقيقية الا انها لم تنجح في تحقيق ما تسعى اليه، ولربما السبب الرئيس في ذلك هو عدم استقلالية البنوك المركزية فيها للتعامل والتعاطي مع التغيرات الحاصلة في الاقتصاد عالمياً ومحلياً، وبالتالي فأن القيد السلطوي (السياسي) يمنع من جني ثمار أي خطة تنموية توضع وإن كانت جيدة من وجهة نظر المخطط على الاقل.

وهنا يُطرح تساؤل هام، وفي بلد مثل العراق ينتهج سياسة او نموذج السوق الحر كما هو معلوم وإن كان ذلك غير متحقق على الصعيد العملي، هل هو بحاجة للتخطيط (تدخل الدولة) في النشاط الاقتصادي؟ أم يجب ترك آلية عمل الاقتصاد لتفاعل القطاع الخاص والقطاع المصرفي المتمثل بالبنك المركزي لأن يُشكل مسار الاقتصاد في البلد، بمعنى هل من داعي لوجود وزارة التخطيط في بلد يعتمد آلية السوق كنموذج اقتصادي له؟

بصراحة نجد أنه لاداعي لها، وأنه يجب ترك القطاع الخاص هو الذي يُشكل ويصوغ خطط الاقتصاد في البلد، وقد يحتج البعض هنا، في إن قدرة القطاع الخاص في تحقيق ذلك ضعيفة، فضلاً عن ما سيثار من حجج فشل السوق في تحقيق العدالة والتنمية، لكن هذه ليست حجه كافية ولا مبرر لعدم اعطاءه الفرصة، فكل اشكال القطاع الخاص في الدول بدت بدايات ضعيفة وهزيلة وثم انتفضت وأصبحت هي المرشد للاقتصاد، إن ضمان استقلالية البنك المركزي بشكل حقيقي في رسم السياسة النقدية للبلد مع ضرورة عدم تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي الا في مايقع ضمن واجباتها الرئيسية بما فيها دعم القطاع الخاص، كفيل بايجاد قطاع خاص قوي قادر على الابتكار والموائمة في تحقيق القدر المطلوب من التنمية.

وقد يرى البعض في امكانية الذهاب الى تطبيق نموذج اشتراكية السوق او مايعرف برأسمالية الدولة والركون لها سيكون أفضل كما هو الحال في الصين، الا ان هناك عدة أسئلة قد تمثل عائق أمام تطبيق هذا النموذج، فمثلاً الظروف الموضوعية للصين تختلف عن الظروف الموضوعية للعراق، فضلاً عن مدى استقلالية البنك الصيني، وكذلك طبيعة النظام السياسي ورشادته وقدرته على تطبيق هكذا نهج، ومامقدار التدخل في الاقتصاد، وكم سيتحمل البنك المركزي هذا التدخل ولأي مدى، وماذا سيحصل لو طالب البنك بمزيد من الاستقلالية، ولربما يكون السؤال الأهم هل من ضمان في أن تدوم الفورة الاقتصادية الصينية لفترة طويلة من الزمن وقدرتها على الحفاظ على هذا المنجز على الصعيد الاقتصادي، أم انها ستضمحل مثلما يحصل في اليابان حالياً من تراجع اقتصادي.

اضف تعليق