ان التحفيز المالي الذي تقوم به الحكومات ما هو إلا تحويل للأموال من يد القطاع الخاص إلى يد الحكومة، أو ما يعرف في الاقتصاد بأثر المزاحمة، حيث تزاحم الحكومة القطاع الخاص في سوق الائتمان عندما تضطر إلى الاقتراض بصورة أكبر نتيجة العجز في الميزانية الناتج عن ارتفاع الإنفاق، هذه المزاحمة من الحكومة تؤدي إلى خفض استثمارات القطاع الخاص نظير زيادة الإنفاق الحكومي.
التقشف هو السياسات التي تستهدف تخفيض حجم الإنفاق الحكومي أو رفع الضرائب بهدف خفض عجز الميزانيات العامة للحكومات وتجنب تصاعد الديون الحكومية كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، وغالبا ما تلجأ الحكومات إلى السياسات التقشفية أثناء الكساد أو التراجع الحاد لمستويات النشاط الاقتصادي، أملا في أن تؤدي تلك السياسات إلى تحسين الأوضاع الاقتصادية، أو، من وجهة نظر أنصار سياسات التقشف الاقتصادي، إلى توسع مستوى النشاط وارتفاع معدلات النمو، في الوقت الذي يرى فيه مناهضو سياسات التقشف أنها، على العكس من ذلك، دائما ما يصاحبها ارتفاع في معدلات البطالة وانخفاض في معدلات النمو الاقتصادي.
ويرى أنصار سياسات التقشف المالي أن هذه السياسات تستهدف أساسا القضاء على عجز الميزانية أو تخفيضه، وهو ما يؤدي إلى آثار توسعية في الاقتصادي تساعد على استعادة النشاط الاقتصادي وارتفاع معدلات النمو. فكيف تؤدي السياسات التقشفية إلى رفع معدلات النمو؟ واقع الأمر أن هذا المدخل يستند إلى فرضية التقشف التوسعي Expansionary Austerity التي تلعب توقعات المستهلكين والمستثمرين دورا مركزيا فيها، والتي تبدأ بالتساؤل حول المدى الذي يمكن أن تقترض فيه الحكومة وترفع من دينها العام دون أن يؤثر ذلك سلبا في الاقتصاد، فوفقا لهذا المدخل لا تستطيع الحكومة أن تقترض إلى ما لا نهاية، فبعد مستوى معين من نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي ستبدأ معدلات العائد المطلوب على السندات الحكومية في التزايد مع تزايد مستويات الدين العام.
بغض النظر عن مدى قبول فكرة أن هناك مستوى محددا لنسبة الدين إلى الناتج الذي تأخذ بعده معدلات النمو في التراجع، فإن السؤال الأساسي هو كيف تؤدي سياسات التقشف المالي إلى مزيد من التوسع والنمو؟
يرى أنصار التقشف أن التحفيز المالي الذي تقوم به الحكومات ما هو إلا تحويل للأموال من يد القطاع الخاص إلى يد الحكومة، أو ما يعرف في الاقتصاد بأثر المزاحمة، حيث تزاحم الحكومة القطاع الخاص في سوق الائتمان عندما تضطر إلى الاقتراض بصورة أكبر نتيجة العجز في الميزانية الناتج عن ارتفاع الإنفاق، هذه المزاحمة من الحكومة تؤدي إلى خفض استثمارات القطاع الخاص نظير زيادة الإنفاق الحكومي.
أما الأثر التوسعي للتقشف فيأتي إما من خلال السيطرة على الإنفاق أو من خلال زيادة الضرائب، حيث ينظر إلى خفض مستويات الإنفاق الحكومي على أنه من الناحية العملية خفض لمستويات الضرائب المستقبلية ومن ثم يقع عبئها على المستهلكين في المستقبل، ولأن المستهلكين لهم نظرة طويلة الأجل، أي لا ينظرون إلى دخلهم الحالي فقط، وإنما يأخذون في الاعتبار أي دخل متاح في المستقبل، فإن تخفيض الإنفاق الحكومي في هذه الحالة يدفع بالمستهلكين نحو المزيد من الإنفاق الاستهلاكي، وارتفاع مستوى الطلب الكلي ومن ثم توسع النشاط الاقتصادي. من ناحية أخرى، فإن قيام الحكومة برفع الضرائب الآن سيحمل أثرا توسعيا في الاستهلاك، ذلك أن زيادة الضرائب اليوم سينظر إليها على أنها تغذي التوقعات بعدم زيادة، أو ربما بانخفاض، مستويات الضرائب في المستقبل، وهو ما يؤدي إلى زيادة الإنفاق الاستهلاكي ومن ثم النمو.
كذلك يرى أنصار التقشف التوسعي أن الخفض الكبير في الإنفاق المالي للحكومات يمكن أن يكون توسعيا لأنه يعد إشارة إلى حدوث تغير هيكلي في موقف السياسة المالية، وبالتالي زيادة قدرة الحكومة على تحقيق الاستقرار الاقتصادي المطلوب، وذلك مقارنة بالحالة التي تقوم فيها الحكومة بخفض محدود في الإنفاق الذي من الممكن أن يحمل أثرا انكماشيا في الاقتصاد لأنه قد ينظر إليه على أنه يعكس فشل صانع السياسة المالية في تحقيق الاستقرار المالي المطلوب.
أكثر من ذلك فإن خفض الإنفاق أو زيادة الضرائب من خلال سياسة التقشف ينظر إليه على أنه وسيلة لخفض تكلفة رأس المال، حيث ستقترض الدولة في هذه الحالة بصورة أقل وهو ما يؤدي إلى انخفاض معدلات الفائدة، الأمر الذي يعزز ثقة رجال الأعمال، وهو ما يدفع النمو، وبالتالي ينخفض العجز بصورة أكبر "نتيجة زيادة الإيرادات مع زيادة النمو"، وهو ما يساعد على الانتعاش الاقتصادي.
لكن أحدا لم يصدق مبدأ التقشف التوسعي بشكل تام أكثر من جان كلود تريشيه، رئيس البنك المركزي الأوروبي. ففي ظل قيادته بدأ الدعوة إلى التقشف على أنه الدواء الشافي للاقتصاد العالمي، الذي ينبغي فرضه في الحال وفي كل مكان، حتى في الدول الكبيرة مثل بريطانيا والولايات المتحدة، التي لا تزال تعاني من مستويات مرتفعة من البطالة، والتي لا تواجه ضغوطا من الأسواق المالية. لكن كما ذكرت فإن خرافة الثقة لم تظهر، والدول الأوروبية المتعثرة بالديون، كما كان ينبغي أن نتوقع، تعاني مزيدا من التراجع الاقتصادي بفضل برامج التقشف، وتراجعت الثقة بدلا من أن ترتفع. وبات واضحا الآن أن اليونان وأيرلندا والبرتغال لن تستطيع ولن تتمكن من رد ديونها بشكل كامل، على الرغم من قدرة إسبانيا على ذلك.
إن أوروبا بحاجة إلى الاستعداد لنوع ما من خفض الديون، يتضمن توليفة من المساعدات من الاقتصادات القوية، ونسبة خصم من قيمة الأصول التي ستفرض على الدائنين المستقلين، الذين سيضطرون إلى قبول عدم تسديد الديون بشكل كامل. بيد أن البراغماتية تبدو غير متوافرة. من ناحية، تأخذ ألمانيا خطا متشددا ضد أي شيء يشبه المساعدة للدول المتعثرة، على الرغم من أن أحد الدوافع لبرنامج الإنقاذ الحالي كان محاولة وقاية المصارف الألمانية من الخسارة.
من ناحية أخرى، يعمل البنك المركزي الأوروبي كما لو كان مصمما على إثارة أزمة مالية، فقد بدأ رفع معدلات الفائدة على الرغم من الحالة المرعبة التي تسود الكثير من الاقتصادات الأوروبية. وقد حذر مسؤولو المصرف المركزي الأوروبي من أي شكل من أشكال إغاثة الديون، الحقيقة أن أحد أعضاء المجلس الحاكم أشار، إلى أن إعادة هيكلة السندات اليونانية، حتى وإن كانت بسيطة، ستؤدي بالبنك المركزي الأوروبي إلى عدم قبول هذه السندات كضمان إضافي للقروض المقدمة إلى المصارف اليونانية. وصل ذلك إلى حد صدور إعلان يقول إنه إذا سعت اليونان إلى إنقاذها من الديون، فإن البنك المركزي الأوروبي سيتوقف عن دعم النظام المصرفي اليوناني، الذي يعتمد بشكل جوهري على هذه الديون.
اضف تعليق