أن الاقتصاديات التي يغلب على تركيبها التمويل بالتحوط هي الإقتصاديات الأكثر أماناً أما الاقتصاديات التي يغلب عليها التمويل بالمضاربة أو التمويل البونزي هي الاقتصاديات الأكثر عرضة للأزمات المالية في اي لحظة، فإذا حدث ورفع معدلات الفائدة بهدف تطبيق سياسات اقتصادية ستُقدِم المؤسسات على بيع أصولها.
هايمن مينسكي هو اقتصادي أميريكي ولد عام 1919 وتوفى عام 1996، عمل كأستاذ اقتصاد بجامعة واشنطن و تدور أبحاثه حول تفسير الأزمة المالية. وظل مينسكي مهمّشاً طيلة فترة حياته و حتى الأزمة المالية العالمية عام 2008. فبعد هذه الأزمة بدأ الكثير بالرجوع لكتابات مينسكي حتى أنه أصبح نجم وسائل الإعلام بعد وفاته كما أن مجلة الايكونوميست ذكرت اسمه على الأقل في ثلاثين مقالاً منذ عام 2007. في حين أنه لم يتم ذكره في الصحف سوى مرة وحيدة أثناء حياته و كانت بشكل موجز. ويعتبر هايمن مينسكي من أوائل الاقتصاديين الذين اهتموا بدراسة الأزمات المالية والاستقرار المالي. ويشير مينسكي إلى أن الأنظمة الرأسمالية تتسم بعدم الإستقرار المالي وذلك بسبب المديونية الناتجة عن الإقراض والإقتراض حيث أن النظام الرأسمالي يولّد صدمات داخلية تسبب الأزمة المالية. وفسر مينسكي ذلك من خلال عاملين :
- أن أنظمة التمويل في النظام الرأسمالي هي أنظمة محققة للاستقرار ولكنها غير مستقرة في الوقت نفسه حيث أن المؤسسات المالية في فترات الاستقرار الاقتصادي تقوم بزيادة الاقتراض ومنح التسهيلات الائتمانية وهذا يساهم في زيادة الأرباح و لكن يؤدي إلى حدوث مخاطر في الوقت نفسه.
- أن فترات الرواج والإزدهار الطويلة في الاقتصاد الرأسمالي تؤدي إلى علاقات مالية غير مستقرة نتيجة دخول أعداد كبيرة من المستثمرين الجدد الراغبين في تحقيق أرباح سريعة وخروج المستثمرين ذوي الخبرة بأرباحهم التي حققوها و بالتالي إرتفاع المديونية. كما أن فترات الإستقرار الطويلة تولد ثقة لدى المصارف وبالتالي تزداد عمليات الإقراض القائمة على المضاربة حيث يعتقدون بأن الأوقات المزدهرة ستدوم للأبد.
وقد قسم مينسكي التمويل المالي إلى ثلاث أنواع تلجأ إليها الشركات و المؤسسات والعائلات:
- تمويل التحوط (hedge financing) : في هذا النوع تعتمد الشركات والمؤسسات على التدفقات المالية المستقبلية لسداد جميع قروضهم وهذا النوع من التمويل هو الأكثر أماناً.
- تمويل المضاربة : (speculative financing) وهذا النوع من التمويل فيه بعض الخطر ويشمل القدرة على سداد فوائد القروض من التدفقات النقدية دون سداد مبلغ الدين الأصلي حيث يستمر مدة الدين الأصلي أو القرض لفترة أطول مما كان متفقاً عليه.
- تمويل بونزي :(Ponzi financing) وهو الأكثر خطورة حيث أن التدفقات المالية لا تغطي الفوائد ولا الدين الأصلي و بالتالي تلجأ المؤسسات والشركات إلى المزيد من الإستدانة أو تبيع ما تملك من أصول. ويسمى هذا النوع بتمويل بونزي نسبة إلى تشارلز بونزي وهو أحد أكبر المحتالين في التاريخ الأمريكي.
وأشار مينسكي إلى أن الاقتصاديات التي يغلب على تركيبها التمويل بالتحوط هي الإقتصاديات الأكثر أماناً أما الاقتصاديات التي يغلب عليها التمويل بالمضاربة أو التمويل البونزي هي الاقتصاديات الأكثر عرضة للأزمات المالية في اي لحظة، وذلك لأنه إذا حدث وتم رفع معدلات الفائدة بهدف تطبيق سياسات اقتصادية ستُقدِم المؤسسات على بيع أصولها وفي هذه الحالة سيحدث انهيار كبير في قيمة الأصول وبالتالي تنهار الشركات والمؤسسات، ومن الممكن ان تتجنب الشركات والمؤسسات هذا المصير المأساوي بالتحول إلى تمويل التحوط ولكن في ظل ازدهار ورواج الاقتصاد فإن الحصول على الديون يصبح أكثر جاذبية وإغواءاً.
وتتجسد “لحظة مينسكي” بشكل واضح جدا في الاقتصاد الأمريكي عام 2008 حيث قامت البنوك بإعطاء قروض رهن عقاري للمقترضين محدودي الدخل الذين لم يكن بإستطاعتهم سداد تلك الديون و بالتالي قامت البنوك ببيع هذه العقارات وهذا خلق عرض للعقارات أعلى من الطلب وهوت أسعار العقارات وأصبح النظام المصرفي الأمريكي أمام أزمة حقيقية كان لها تأثيراً كبيراً على معدلات النمو الإقتصادي، وقد أُهملت مساهمات مينسكي العلمية حتى الأزمة المالية 2008 حيث ظهرت للعلن وفسرت الكثير من أسباب هذه الأزمة. بينما يعتقد الكثير من الاقتصاديين أن أهم أسباب الاخفاقات الاقتصادية تحديث بسبب صدمات خارجية، يرى مينسكي أن النظام الرأسمالي يولد صدمات داخلية تسبب الأزمة وتعود إلى عدم الاستقرار المتأصل في الرأسمالية المالية. وأن الآلية الرئيسية التي تدفع الاقتصاد إلى أزمة لا مفر منها، هي تفشي المضاربات وتراكم ديون القطاع لاخاص (مستثمرون، بنوك، شركات). يوضح مينسكي أنه في أوقات الازدهار، حيث تزيد التدفقات النقدية للشركات عن الكمية المطلوبة لسداد ديونها، تزداد الرغبة في تحمل مخاطر المضاربة وتبدأ معدلات المضاربة بالازدياد، وعندما تتجاوز الديون قدرة المدينين على السداد (وخاصة في فترات التقنين المال(مما يؤدي بدوره إلى حدوث الأزمة. هذا التحرك البطيء نسبياً، للنظام المالي من الاستقرار إلى الهشاشة المتبوع بانهيار مفاجئ يعرف ما يسمى "لحظة مينسكي".
ويقول مينسكي: "المسلمة الأولى الدالة على عدم الاستقرار المالي هي أن الاقتصاد يملك مؤسسات تمويل يحقق بمساعدتها الاستقرار، بينما المؤسسات المحققة للاستقرار هي نفسها غير مستقرة، أي أن هذه المؤسسات تقوم في فترات الاستقرار والازدهار بتسويق المنتجات المالية المبتكرة التي تساهم في زيادة الاقراض ومنح تسهيلات ائتمانية مبالغ فيها تساهم في زيادة نسبة الأرباح وفي الوقت نفسه تضاعف من حجم المخاطرة. والمسلمة الثانية هي أنه بعد مرور فترات الازدهار يبدأ الاقتصاد بالتحول من نظام العلاقات المالية التي تؤمن استقرار الاقتصاد إلى العلاقات المالية التي تقوض هذا الاستقرار وذلك كنتيجة لارتفاع نسبة المديونية ودخول عدد كبير من المستثمرين الجدد الراغبين بتحقيق أرباح سريعة وخروج المستثمرين ذوي الخبرة في السوق بأرباحهم المحققة. أي أن الاقتصادات الرأسمالية بمرور الزمن تتحول من البنية المالية المحكومة بوحدات التمويل المتحوطة (Hedge Funding Units) إلى بنية جديدة تميل الكفة فيها إلى وحدات التمويل بالمضاربة وتمويل هرم بونزي (Ponzi). وإذا كان الاقتصاد يعاني من ضغوط تضخمية، يتم مكافحة التضخم بفرض قيود نقدية، عندها حتى وحدات المضاربة سوف تتحول إلى وحدات بونزي وقيمة وحدات بونزي السابقة سوف تتبخر. وبالتالي فإن الوحدات الاستثمارية ستعاني من نقص في التدفقات النقدية وبالتالي ستجبر على تقديم تنازلات والتخلص من الأصول الأمنة لمقابلة التزاماتها، مما يؤدي إلى انهيار في قيمة الموجودات".
الائتمان الرخيص وقلة مجالات الاستثمارات الأخرى في الصين أدت إلى ازدهار أسواق الأسهم والعقارات، حيث يمكن تحقيق عوائد جيدة، وانعكس ذلك بارتفاع حصة أسواق الملكية في الصين إلى 15% من الناتج المحلي الإجمالي و28% من الاستثمار في الموجودات الثابتة. وبحسب ماكنزي فان 50% من إجمالي المديونية في الصين هي قروض عقارية. ومن عام 2007 ازداد حجم سوق أسهم الرهن العقاري بمقدار 50% من إجمالي المديونية في الصين هي قروض عقارية. ومنذ عام 2007 ازداد حجم سوق أسهم الرهن العقاري بمقدار 21% وفي الربع الأخير من عام 2014 تضاعف بمقدار 4 مرات. وهو تماما ما تحدث عنه مينسكي "تحول الوحدات الاستثمارية إلى وحدات مضاربة وبونزي".
اضف تعليق