طرحت كريستين لاغارد المدير العام لصندوق النقد الدولي في مؤتمر بنك انكلترا في 29 سبتمبر 2017، تساؤلات حول كيف ستغير التكنولوجيا المالية مشهد الصيرفة المركزية على مدار الجيل القادم؟ وذلك من خلال التأثير المحتمل للابتكارات الثلاثة – العملات الافتراضية والنماذج الجديدة للوساطة المالية والذكاء الاصطناعي، اذ إن بعض هذه الابتكارات وجد طريقه بالفعل إلى مَحافِظنا وهواتفنا الذكية ونظمنا المالية. ولكنها البداية فقط.
1- العملات الافتراضية
لنبدأ بالعملات الافتراضية، وحتى نكون واضحين، ليس لهذا الأمر صلة باستخدام العملات القائمة في أداء المدفوعات الرقمية – عن طريق PayPal أو مقدمي خدمة "النقود الإلكترونية" الآخرين مثل Alipay في الصين أو M-Pesa في كينيا، العملات الافتراضية تقع في فئة مختلفة، لأن لها وحدة حساب ونظم دفع خاصة بها. وتسمح هذه النظم بإجراء معاملات مباشرة بين الأطراف (peer-to-peer) دون غرف مقاصة مركزية، ودون بنوك مركزية.
وحتى الآن، تشكل العملات الافتراضية مثل "بيكوتن" تحد طفيف أو معدوم أمام النظام القائم للعملات "المجازة للتعامل" والبنوك المركزية. لماذا؟ لأنها تتسم بدرجة عالية من التقلب والمخاطر وكثافة استخدام الطاقة، ولأن التكنولوجيات التي تستند إليها لم تصبح بعد قابلة للقياس. فكثير منها مبهم للغاية بالنسبة للأجهزة التنظيمية، وبعضها تم اختراقه إلكترونيا، ولكن كثيرا منها ينطوي على تحديات تكنولوجية يمكن معالجتها مع الوقت. فمنذ وقت ليس ببعيد، ذهب بعض الخبراء إلى أن أجهزة الكمبيوتر الشخصي لن تُعْتَمد أبدا وأن الأجهزة اللوحية سيكون أقصى استخدام لها هو أن تكون بمثابة صينية قهوة غالية الثمن. ولذلك أرى أنه ليس من الحكمة أن نستبعدها.
قيمة أفضل مقابل النقود؟
انظروا، على سبيل المثال، إلى البلدان ذات المؤسسات الضعيفة والعملات الوطنية غير المستقرة. فبدلا من اعتماد عملة بلد آخر – مثل الدولار الأمريكي – قد يشهد بعض هذه الاقتصادات استخداما متزايدا للعملات الافتراضية. ولنسميها نسخة الدولرة 2، وتشير تجربة الصندوق إلى أن هناك نقطة حرجة يتتابع بعدها التنسيق حول أي عملة جديدة بشكل مطرد. ففي سيشل، مثلاً، قفزت الدولرة من 20% في عام 2006 إلى 60% في 2008.
ومع ذلك، فما الذي عساه يدعو الموطنين إلى حمل عملات افتراضية بدلا من الدولارات واليوروات والجنيهات الاسترلينية الملموسة؟ لأنها يمكن أن تصبح في أحد الأيام أسهل وأكثر أمانا من الحصول على العملات الورقية، وخاصة في المناطق النائية. ولأن العملات الافتراضية قد تصبح بالفعل أكثر استقرارا، فعلى سبيل المثال، يمكن إصدار هذه العملات واحدة لواحدة مقابل دولارات أو سلة عملات مستقرة. ويمكن أن يتم الإصدار بشفافية كاملة، تحكمه قاعدة موثوقة محددة سلفا، أو خوارزمية يمكن متابعتها ... أو حتى "قاعدة ذكية" يمكن أن تكون انعكاسا للظروف الاقتصادية المتغيرة، وهكذا، فمن نواح متعددة، قد تكون العملات الافتراضية منافسا قويا للعملات الحالية وتحديا أمام السياسة النقدية. وأفضل استجابة من مسؤولي البنوك المركزية هي الاستمرار في تنفيذ سياسة نقدية فعالة، مع الانفتاح لأي أفكار ومطالب جديدة تواكب تطور الاقتصادات.
خدمات دفع أفضل؟
ولننظر مثلاً إلى الطلب المتزايد على خدمات الدفع الجديدة في البلدان التي بدأت تشهد انطلاقة في الاقتصاد الخدمي اللامركزي المشترك، هذا الاقتصاد يقوم على المعاملات المباشرة بين الأطراف، والمدفوعات المتواترة صغيرة القيمة، وغالبا ما تكون عابرة للحدود.
4 دولارات مقابل معلومات مفيدة عن البستنة من سيدة في نيوزيلندا، و3 يوروات مقابل ترجمة محترفة لقصيدة شعر يابانية، و 80 بنسا لإعداد صورة افتراضية لشارع فلييت ستريت التاريخي: هذه المدفوعات يمكن أداؤها ببطاقات الائتمان وأشكال أخرى من النقود الإلكترونية. ولكن الثمن مرتفع نسبيا مقابل المعاملات صغيرة القيمة، وخاصة العابرة للحدود، وبدلا من ذلك، قد يفضل المواطنون يوما ما استخدام العملات الافتراضية، لأنها قد تنطوي على نفس التكلفة والسهولة التي يتيحها النقد – دون مخاطر تسوية، ولا تأخر في المقاصة، ولا تسجيل مركزي، ولا وسيط لفحص الحسابات والهويات. وستظل العملات الافتراضية محفوفة بالمخاطر ومفتقرة إلى الاستقرار إذا كانت إصدارا خاصا، بل إن المواطنين قد يدعون البنوك المركزية إلى إتاحة أشكال رقمية من العملة القانونية.
2- نماذج جديدة للوساطة المالية
ويقودني هذا إلى المرحلة الثانية من رحلتنا بالعربة الطائرة – النماذج الجديدة للوساطة المالية. ومن الأمور الممكنة في هذا الصدد أن يتم تقسيم الخدمات المصرفية أو تفكيكها. ففي المستقبل، قد نحتفظ بأرصدة ضئيلة لخدمات الدفع في محافظنا الإلكترونية.
ويمكن الاحتفاظ ببقية الأرصدة في صناديق مشتركة، أو استثمارها في منصات للإقراض المباشر بين الأطراف تتميز بتفوقها من حيث البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي من أجل احتساب الجدارة الائتمانية تلقائيا، إنه عالم يتميز بدورات تطوير المنتجات البالغة ستة أشهر وعمليات التحديث التي لا تتوقف، ولا سيما لبرمجيات الكمبيوتر، حيث تولَى قيمة كبيرة لبساطة واجهات المستخدم والأمن الموثوق. عالم البيانات فيه هي الملك. عالم يضم أطرافا فاعلة جديدة دون الحاجة إلى مقار للفروع، وقد يرى البعض أن هذا يضع علامة استفهام على نموذج الصيرفة الجزئية كما نعرفه اليوم، إذا تقلص الطلب على الودائع المصرفية وتدفقت الأموال إلى الاقتصاد من خلال قنوات جديدة.
كيف يمكن وضع السياسة النقدية في هذا السياق؟
إن البنوك المركزية اليوم عادة ما تؤثر على أسعار الأصول عن طريق وسطاء السوق الأولية، أو البنوك الكبيرة، التي تقدم لها السيولة بأسعار ثابتة – ما يسمى عمليات السوق المفتوحة. ولكن إذا كانت أهمية هذه البنوك ستتوارى في العالم المالي الجديد، وإذا كان الطلب سيتراجع على أرصدة البنوك المركزية، فهل يمكن أن يظل انتقال آثار السياسة النقدية بنفس الفعالية؟
وإذا كان هناك ما قد تضطر له البنوك المركزية بالفعل، فسيكون زيادة عدد الأطراف المقابلة في عملياتها. وبنك انجلترا يقود الطريق بالفعل من خلال إدخال وسطاء/متعاملين كبار وغرف مقاصة مركزية مقابلة، ولكل هذا انعكاسات تنظيمية بطبيعة الحال. فزيادة الأطراف المقابلة يعني دخول عدد أكبر من الشركات تحت المظلة التنظيمية للبنك المركزي – وهو الثمن الذي يُدفع للحصول على السيولة في أوقات العسر. أما مسألة ما إذا كان المستقبل يحمل من هذه الأوقات أكثر أم أقل فهو سؤال مفتوح. ومع ذلك فإن تحسين تنظيم بنوك الظل أصبح أكثر إلحاحا من أي وقت مضى.
وستتوسع مهام البنوك المركزية، ومعها ربما تزداد ضغوط التمحيص العام والضغوط السياسية. وستحتاج الاستقلالية – على الأقل في وضع السياسة النقدية – إلى مزيد من التحصينات كما ستتطلب تواصلا أكثر وضوحا، وقد نرى أيضا تحولا في الممارسات التنظيمية. فالأجهزة التنظيمية تركز في العادة على الإشراف على كيانات محددة بدقة. ولكن مع دخول مقدمي الخدمات الجديدة بصور وأشكال جديدة، قد لا يكون من السهل إدراجها ضمن الفئات القائمة. فكروا في شركة للتواصل الاجتماعي تقدم خدمات مدفوعات دون إدارة ميزانية عمومية نشطة. ما العنوان الذي يمكن استخدامه لتصنيفها؟ كل هذا مناسب للمحامين، ولكنه ليس مناسب بنفس القدر للأجهزة التنظيمية التي ستضطر، على الأرجح، إلى توسيع نطاق تركيزها من الكيانات المالية إلى الأنشطة المالية – مع إمكانية أن تصبح من الخبراء في تقييم سلامة وأمن الخوارزميات المستخدمة. الكلام أسهل من الفعل.
التعاون أساسي
ولكي تصبح الأمور أكثر سلاسة – بدرجة ما على الأقل – نحتاج إلى إقامة حوار. بين الأجهزة التنظيمية المتمرسة والأجهزة التنظيمية التي بدأت مؤخرا في التعامل مع التكنولوجيا المالية. بين صناع السياسات والمستثمرين وشركات الخدمات المالية. وبين البلدان، وسيكون من الضروري تخطي الحدود مع اتساع التركيز التنظيمي – من الكيانات الوطنية إلى الأنشطة بلا حدود، من فروع البنوك المحلية إلى المعاملات العالمية المؤمنة بالتشفير الكمي.
ونظرا لعضويتنا العالمية التي تضم 189 بلدا، فإن الصندوق منبر مثالي لعقد هذه المناقشات. والتكنولوجيا لا تعرف الحدود: ما هو الموطن، وما هو المضيف؟ كيف يمكن أن نتجنب المراجحة التنظيمية والتسابق نحو القاع؟ الأمر يتعلق بمسؤولية الصندوق في إرساء الاستقرار الاقتصادي والمالي، وأمان مدفوعاتنا العالمية وبنيتنا التحتية المالية،إن التعاون ينطوي على مخاطر – ومكاسب – كبيرة. ولا نريد أن نرى ثغرات في شبكة الأمان المالي العالمية، مهما امتدت وأعيد تشكيلها، وأنا مقتنعة بأن للصندوق دورا قويا يؤديه في هذا الخصوص. ولكن الصندوق ينبغي أن يكون منفتحا للتغيير، من ضَم أطراف جديدة إلى مائدة الحوار، إلى النظر في دور تقوم به نسخة رقمية من حقوق السحب الخاصة.
3- الذكاء الاصطناعي
ويقودني هذا إلى المرحلة الثالثة والأخيرة في هذه الرحلة – وهي الأثر التحويلي للذكاء الاصطناعي.هل سيدخل المحافظ البنك في عام 2040 لمجرد تلميع ماكينة وضع السياسة النقدية؟ هل يمكن لنبوءة، آندي [هالدين]، بتحويل 15 مليون وظيفة إلى التشغيل الآلي في المملكة المتحدة أن تؤثر على البنك وخبرائه ذوي المستوى العالمي؟
هناك أمر واحد واضح، وهو أن البيانات المتوافرة لنا تتزايد باستمرار. وتشير بعض التقديرات إلى أن 90% من البيانات المتاحة اليوم قد تم إنتاجها في العامين الماضيين، هذه ليست مجرد معلومات عن الناتج، والبطالة والأسعار، وإنما بيانات سلوكية أيضا عن نوادر الكائن الاقتصادي وسلوكياته اللامنطقية، وبفضل الهواتف الذكية والإنترنت، أصبحت هذه البيانات الآن وفيرة وواسعة الانتشار ومتزايدة القيمة مع إقرانها بالذكاء الاصطناعي. ويواصل الذكاء الاصطناعي خطواته الواسعة. فعلى مدار العام الماضي، خسر عدد من أفضل لاعبي Go ، وهي من ألعاب اللوحة القديمة، أمام كمبيوتر للتعليم الذاتي. وكان من المفترض في رأي الكثيرين أن يوم الحساب هذا لن يحل إلا بعد عقود. ولكن الجهاز تعلم التكتيكات، وأدرك الأنماط، وجعل لعبته هي المثلى – أفضل مما استطعنا نحن.
ومن الواضح أن الاقتصاد أعقد بكثير من لعبة Go . ولكن على مدار الجيل القادم، من شبه المؤكد أن الماكينات ستقوم بدور أكبر – في مساعدة صناع السياسات، وتقديم تنبؤات آنية، ورصد الفقاعات، والكشف عن روابط مالية/كلية معقدة، ومن ضمن الأسباب أن هناك عدم يقين كبير بشأن الاقتصاد. والتغيرات في العلاقات الاقتصادية الأساسية ينبغي رصدها، وتقييم مخاطرها. وسيظل التقدير الاستنسابي والتشكك المتواصل من الأقران، والتنوع في الآراء، وحتى وجود بضعة منشقين عن الفكر السائد، أمورا ضرورية لتحقيق سياسات جيدة. ولكن ماذا إذا كان بوسع الماكينات القيام بهذا العمل أيضا؟
يلي ذلك مسألة التواصل. فالسياسة النقدية الجيدة، كما نعرف، تتلخص في مهارة الحكي. فالسياسة تكون فعالة إذا كان بإمكانها تقديم تفسير واضح يستطيع من خلاله الجمهور تشكيل توقعات حول السياسة المستقبلية. فهل تستطيع الماكينات بالفعل تفسير قراراتها بلغة واضحة؟ وحتى إذا أمكن التغلب على هذه العقبة، ستظل هناك عقبة واحدة. فحتى في وجود أفضل الخوارزميات والماكينات، هناك أهداف لن تتحقق، وأزمات ستحدث، وأخطاء سترتكب. ولكن هل يمكن مساءلة الماكينات بالفعل – أمام زوجين من الشباب عاجزين عن شراء منزل، أمام الأم العاملة التي تجد نفسها بغير عمل؟
والمساءلة أساسية. فبدونها لا تتوافر لنا الاستقلالية؛ فأي وسيلة أخرى تستطيع إضفاء هذا القدر من القوة على منظمة تكنوقراطية؟ وبدون الاستقلالية، لا بد أن تضل السياسة الطريق، كما يذكرنا هذا المؤتمر بكل وضوح، إذن لا، أنا لا أرى أن الماكينات يمكن أن تتولى مهمة السياسة النقدية. ففي عام 2040، سيظل المحافظ الذي يدلف إلى البنك هو إنسان من لحم ودم، ووراء البوابة الرئيسية ستجد بشرا، على الأقل بضعة منهم.
اضف تعليق