q

من خلال التجربتين التشيلية والبريطانية، ادركت قيادة صندوق النقد الدولي، انه قد آن الاوان لان يجهز الصندوق نفسه منهجياً لان الدور الجديد دور الرائد العازم على تحفز مجموعة الدول النامية على تنفيذ اصلاحات تهتدي باليبرالية الحديثة، وتتماهى مع تصورات الرأسمالية المالية الامريكية، هذا هو ماحدث فعلاً وعلى مرحلتين خلال العاميين 1978-1979.

وبدأ، في ابريل من عام 1978، جرى استكمال اللوائح الداخلية السائدة في الصندوق من خلال الفقرات الثلاثة المتضمنة (المساندة المالية والمساعدة الفنية والمراقبة)، وفي الواقع فليس المقصود بالمساندة المالية سوى ان الوظيفة الاساسية الجديدة للصندوق تعني منح الصندوق البلدان النامية القروض والتوسط لحصول هذه البلدان على الائتمان المنشود، قد امست من صلب اللوائح المنشورة، اما المساعدة الفنية فأن الامر الواضح هو ان الصندوق قد خطى ها هنا خطوة ابعد، فمن خلال هذه الفقرة حاز الصندوق لنفسه حق المشاركة القوية في القول الفصل الخاص بتوسيع طاقات الجهاز الحكومي وبالقرارات المتعلقة ببنية المصرف المركزي للدولة المعنية وهكذا، استطاع الصندوق من الان فصاعداً اتخاذ التدابير اللازمة لأن يتقلد المناصب الرفيعة في وزارات الاقتصاد والمصارف المركزية، افراد هم على صلة وثيقة بالصندوق او انهم على ادنى تقدير يشاركوهم في تبني مبادىء الليبرالية الحديثة.

بيد ان اهم ماجاء في لوائح الصندوق الجديدة هو الفقرة المتعلقة بموضوع الرقابة، فأذا كان الصندوق حتى ذلك الحين، قد حصل تدخله في مراقبة الاجراءات المتعقلة بالتطورات الاقتصادية الكلية، يعني تطورات من قبيل خفض الكمية النقدية المتداولة

، ومكافحة التضخم، وضبط الميزانية الحكومية، ومسائل مديونية الدولة، فأنه اخذ لنفسه من الان فصاعداً حق مراقبة الوفاء بمتطلبات الادارة الرشيدة (الحوكمة)، وبمدى تنفيذ الاصلاحات في القطاعين القضائي المالي والاداري وبعبارة اخرى يمكن القول ان الصندوق قد اجازة لنفسه ممثلاً بأعلى مستوياته القيادية وبمستوى اكثر عمقاً مما كان سائداً حتى ذلك الوقت (التدخل في سيادة الدولة المدين له).

برامج التكيف الهيكلي

وفي العام 1979، عرض الصندوق على العالم (برامج التكيف الهيكلي)، بأعتباره اداة ستكون سارية المفعول بصفة عامة، ومؤشراً يسير بنحو بين الى الاتجاه الذي سيسلكه الصندوق مستقبلاً، وبانها اي هذه البرامج، تراعي من خلال مبدأ المشروطية الاهمية المتصاعدة للتدفقات المالية العالمية، وذلك من خلال المصطلحات الاربعة: ليبرالية، تحرير، استقرار،خصخصة، وعلى الرغم من الزعم بأن هذه الشروط سيجري تحديدها مستقبلاً ايضاً وفق واقع الدولة طالبة الائتمان، بيد ان قائمة الشروط تضمنت من الناحية الاساسية الشروط السابقة نفسها اي الشروط التي جملتها على سبيل المثال وليس الحصر:

*الوصول الى حالة التوازن في ميزانية الدولة وذلك من خلال انتهاج التقشف المالي، والغاء الانفاق المخصص لمناح معينة.

*خفض قيمة العملة الوطنية وذلك من اجل تعزيز القدرة التنافسية في الاسواق العالمية.

* رفع معدلات الفوائد بغية الحد من حجم الائتمان الداخلي .

* الغاء القيود على الواردات السلعية وتداول العملات الاجنبية.

*تعزيز تخصص الاقتصاد الوطني بأنتاج بعض السلع القابلة للتصدير.

* الغاء القيود المفروضة على الاستثمارات الاجنبية.

* خصخصة المشاريع الحكومية واملاك الدولة.

*تشريع لوائح قانونية تتضمن حقوق المشاريع الخاصة.

اجراءات التخفيض

ان كل واحدة من هذه الاجراءات كانت بالنسبة الى الجماهير العامة والفقراء، من ابناء البلدان المعنية وبالاً وسوطاً يجلدون بيه يوماً بعد يوم، فأجور العاملين لدى الدولة جمدت او انها خفضت كما جرى تسريح الكثير منهم، وعلى صعيد اخر تركزت نتائج تقليص الانفاق على قطاع التعليم والقطاع الصحي بنحو مخصوص، اي على قطاعات تعاني في جميع البلدان النامية من نقص شديد بالتمويل حتى يومنا الحاضر، وهكذا وفي بلدان تشكل الامية فيها احد اكبر العوامل المعيقة للتنمية، خفضت السلطات المصادر المالية الضرورية لعمل المدارس الحكومية، لابل ان هذه السلطات شرعت بتقاضي الرسوم من الطلبة المسجلين في مدارسها، وعلى الرغم من ان الرعاية الصحية كانت تعاني اصلاً قصوراً واضحاً، فأن السلطات مضت قدماً في تقليص الخدمات الصحية، من ناحية اخرى جرى الغاء الدعم المالي المخصص لمواد الوقود، بالرغم من ان هذا اللغاء سيجعل الكثير من العائلات بلا وقود، والامر الاكثر وبالاً هو ان السلطات قد قلصت او الغت الدعم المالي المخصص للمواد الغذائية الرئيسية، من هنا فالاطفال الذين كانوا يعانون نقص التغذية اصلاً باتوا يعانون العمر كله من امراض مختلفة او تعينه عليهم حالهم في ذلك حال الكبار الموت جوعاً.

من ناحية اخرى، سبب خفض قيمة العملة الوطنية تدهور القوة الشرائية لدى السكان وذلك لانه تعين عليهم الان دفع اسعار اعلى على السلع الاجنبية، ان تقليص حجم الائتمان الداخلي، بفعل الزيادات التي طرأت على معدلات الفائدة انعكس سلباً على الكثيرمن المشاريع الزراعية والحرفية الصغيرة، اي المشاريع التي يتوقف وجودها على حصولها على قروض ميسرة، واجبر العديد من هذه المشاريع على اعلان افلاسها وتسريح العمالين لديها، ولعل من نافذة القول، الاشارة الى ان افلاس هذه الشركات قد سبب تفاقه البطالة، وسبب الغاء القيود المفروضة على السلع المستوردة وعلى التعامل بالعملات الاجنبية، في تدفق رأس المال الاجنبي والسلع الاجنبية على البلد المعني بلا قيد او شرط واغراق الاقتصاد المحلي بسلع زهيدة الثمن.

نتائج اجراءات التخفيض (برامج التكيف الهيكلي)

وانعكست هذه النتائج على القطاع الزراعي وبنحو مخصوص مما ان صغار المزارعين ماكانوا قادرين على منافسة الشركات الدولية العملاقة المنتجة للمواد الغذائية، لقد اندلعت موجات افلاس واسعة وكانت نتيجة موجات الافلاس هذه هو ان البلدان الافريقية على وجه الخصوص، يعني البلدان التي كانت من قبل تصدر المواد الغذائية قد تحولت الى بلدان مستوردة للمواد الغذائية ليس لحقبة معينة من الزمن، بل ظلت مستوردة للمواد الغذائية حتى الوقت الحاضر.

وسبب الغاء القيود المفروضة على المستثمرين اندثار الكثير من المصانع المحلية اذ تعين عليها من الان فصاعداً مضاهات مشاريع تتفوق عليها تفوق كبيراً من حيث القوة المالية والكفءئة التكنولوجية والامكانات اللوجستية، من ناحية اخرى كانت خصخصت المشاريع الحكومية تعني ان مرافق عامة اساسية، مثل مشاريع الماء والكهرباء او وسائط النقل العامة قد صارت تحت رحمة القطاع الخاص، ورحمة مستثمرين ومضاربين، شرعوا حالة ما استكملوا حيازة هذه المشاريع، في رفع الاسعار بمعدلات خيالية، غير ابهين بالنتائج الاجتماعية المترتبة على مستويات الاسعار الجديدة.

يعني خفض الانفاق الحكومي ان البلد المعني ستكون لديه قدرات مالية اكبر لخدمة مابذمته من ديون كان قد استلفها من اطراف اجنبية، وعلى صعيد اخر كان خفض قيمة العملة الوطنية بمنزلة الحلم العظيم الذي يراود خيال المضاربين، فما كان على هؤلاء سوى الاقتراض وبعملة اجنبية بوقت مناسب والانتظار لفترة زمنية معينة لجني ربح يساوي بالعد والتمام معدل تخفيض العملة المعنية.

ارباح المستثمرين والمضاربين

من ناحية اخرى حظيت زيادة معدلات الفائدة بغية خفض معدلات التضخم برتحيب واسع وحار ايضاً، وصعدت الى جانب ذلك من المضاربة على العملات على خلفية تزايد القدرات المالية الموجودة بحوزة المضاربين، متسببةً بنهاية المطاف، في تعميق تبعية البلد المعني بالتطورت المالية الدولية، وبزيادة طاعة حكومته لرغبات وشروط المقرضين الاجانب، وغني عن البيان، ان تعزيز تخصص الاقتصاد الوطني بأنتاج عدد محدود من مواد اولية قابلة للتصدير، وما ينتج عن هذا التخصص من تبعية وتعرض للابتزاز، نعم كان هذا وذاك من جملة الامور التي درت ارباحاً خيالية على القوى العظمى والشركات العملاقة، درت ارباحاً جرى استمارها ثانية وبالحال في البلد المعني، لاسيما بعدما تم الغاء القيود المفروضة على الاستثمار الاجنبي، ودرت ارباحاً اخرى متزايدة حينما خصصت هذه الارباح لشراء المشاريع الحكومية التي تمت خصخصتها.

وسواء ركز المرء منظوره على هذا الاجراء او ذاك من اجراءات صندوق النقد الدولي، فالامر البين هو ان جميع هذه الاجراءات تشترك بالخصائص الثلاث التالية: انها جميعاً حملت الجماهير العامة اضراراً فادحة، وانطوت على منافع جمة بالنسبة الى المستثمرين الدوليين، وساهمت مساهمة قوية في تعزيز تبعبة البلد المعني الى اسواق المال العالمية.

وربما سال سائل عن السبب الذي دفع بلدان متزايدة العدد للتوجه صوب الصندوق النقد الدولي، والانضواء تحت رايته كدول اعضاء؟ ان الاجابة عن هذا السؤال غاية في البساطة: ان المصارف التجارية ترى ان الدول الجديرة بالحصول على التمويل هي تلك الدول فقط، التي خضت لشروط صندوق التقد الدولي والتزمت بتنفيذ برامج التكيف الهيكلي، وهكذا فأن كان هذا البلد او ذاك لا يريد لنفسه التعرض الى عزلة شاملة، واذا عزم على مواصلة المشاركة بالمستجدات الاقتصادية والمالية الدولية، عندئذ لن يكون لديه خيار اخر غير الانظمام في صفوف الصندوق والموافقة على شروطه، وبهذا النحو غدا ثلاثة ارباع بلدان امريكا اللاتينية وثلثا البلدان الافريقية، اعضاء في صندوق النقد الدولي.

اضف تعليق