لويس بينتو
بعد بداية انهيار أسعار النفط في العامين 2014 و2015، واجهت دول مجلس التعاون الخليجي (البحرين، الكويت، عُمان، قطر، السعودية، والإمارات) أطول فترة في تاريخها من الخسائر الشهرية المتتالية في احتياطات النقد الأجنبي. وأصدر صندوق النقد الدولي بيانات تفيد أنه في عاميّ 2015 و2016، بلغ عجز دول المجلس المالي المتراكم 268 مليار دولار أمريكي، العجز في الحسابات الجارية 64 مليار دولار أمريكي، في حين وصلت خسائر احتياطي النقد الأجنبي إلى 201 مليار دولار أمريكي.
في خلال هذه الفترة، اضطر عددٌ من البلدان المصدّرة للنفط الأخرى إلى تعويم عملتها وتخفيض قيمتها (روسيا، كازاخستان، أذربيجان، نيجيريا، وجنوب السودان)، أو إلى تحمّل عواقب تعويم “الباب الخلفي” للسقوط الحرّ لعملاتها في أسواق أسعار الصرف الموازية (فنزويلا وأنغولا). علاوة على ذلك بدأت الأقساط الآجلة المستمرة منذ 12 شهراً في بعض أسعار صرف الدولار الأمريكي مقابل عملات مجلس التعاون الخليجي، تعكس أسعار السوق للتخفيضات المستقبلية في قيمة العملة.
ضمن هذا السياق، باتت استدامة أنظمة سعر الصرف الثابت في دول مجلس التعاون الخليجي موضع تساؤل. تُرى هل ستحذو دول مجلس التعاون الخليجي حذو بعض أقرانها في منظمة أوبك؟ ولماذا؟ وهل أصبح إجراء جولة من التخفيضات في دول الخليج أمراً محتوماً؟ وما هي دول مجلس التعاون الخليجي الأكثر ضعفاً؟
للإجابة على هذه الأسئلة بشكل صحيح، لا بد أولاً من الفصل بين قضيتين مختلفتين: نظام سعر الصرف، وسعر بعض العملات المحدّدة بالنسبة لباقي العملات. وفي جين أنّ الموضوع الأول مرتبطٌ بالمسألة الأهم المتمثلة بإطار سياسة الاقتصاد الكلي واستجاباته إزاء الصدمات الحقيقية والاسمية، فإن الموضوع الثاني يتعلق بإمكانية حدوث اختلال محتمل في أسعار الصرف وقدرة المصارف المركزية على دعم سعر معين.
من شأن النظر عن كثب إلى أساسيات اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي أن تدعم فكرة أنّ أنظمة أسعار الصرف الثابتة، القائمة على ربط العملة التقليدي بالدولار الأمريكي كإطار للسياسات الاقتصادية الكلية المثلى. وتستند الأسباب إلى ست نقاط أساسية هي:
1- انطلاقاً من كونها اقتصادات صغيرة مفتوحة يهيمن عليها النفط ويتمتع فيها الفرد بنصيب مرتفع جداً من عائدات النفط، تميل دول مجلس التعاون الخليجي إلى تقديم فوائض مالية هيكلية كبيرة من الحسابات الجارية، وإلى مراكمة مبالغ كبيرة للمجهود الحربي، واحتلال مواقع مالية دولية إيجابية صافية. وبالتالي، يمكن استخدام هذه المدّخرات الضخمة لمواجهة العجز المؤقت وتجنّب تسويات الانكماش الكبيرة؛
2- أسعار الصرف الحقيقية الفعّالة مستقرة نسبياً نظراً لوجود إمدادات مرنة من العمال الوافدين ذوي الأجور المتدنية والمستقدمين من آسيا للعمل في دول مجلس التعاون الخليجي، الأمر الذي يحدّ من ضغوط الأجور المرتفعة في القطاع الخاص غير التجاري (لاسيّما قطاعي البناء والخدمات) ويمنع حدوث تضخّم ناجم عن ارتفاع الكلفة، ويقلّص المشاكل المترتبة عن ازدياد الطلب، أي أنه يحول دون حدوث تقلبات حقيقية في أسعار الصرف أثناء فترات ازدهار النفط؛
3- بما أنّ الأسواق المالية وأسواق رأس المال غير المتطورة لا تزال تحدّ نسبياً من فاعلية السياسة النقدية في دول مجلس التعاون الخليجي (الأُسر والشركات المحلية لا تتأثّر بتاتاً بتغيرات أسعار الفائدة الحقيقية والإسمية)، فإن تكاليف عدم وجود سياسات نقدية مستقلة تبقى منخفضة؛
4- بما أنّ مخزونات استثمارات محافظ الأوراق المالية الأجنبية منخفضة، وبما أن الحكومة والمؤسسات الحكومية تسيطر على الودائع الإجمالية، فإن هناك حدوداً لتدفقات رأس المال الكبيرة والمستمرة للخارج أو للدولرة (dollarization) في دول مجلس التعاون الخليجي؛
5- تتسم السياسات المالية بالقدرة على إعادة التوازن إلى الاقتصاد وإلى المخاطر السياسية التي قد تنجم عن خطط ضغط الإنفاق لعدة سنوات، لأن تخفيض النفقات العامة يتركز في القطاعات التي يهيمن عليها العمال الوافدون، والتي تتمتع بمرونة عالية في التنقل أو منح تراخيص الإقامة المرتبطة بعقود التوظيف؛
6- إن مرتكزات معدلات الصرف الإسمية البديلة أو الأكثر مرونة، مثل حقوق السحب الخاصة بصندوق النقد الدولي أو سلال العملات الرئيسية الأخرى أو اليورو أو أسعار الذهب أو النفط، لا توفّر مكاسب أو فوائد كبيرة من حيث استقرار الاستيراد والتصدير الشامل في دول مجلس التعاون. فأسعار النفط محدّدة بالدولار الأمريكي، وما يبعث على الغرابة هو أن التغيّرات الأخيرة في تركيبة التجارة الخارجية في دول مجلس التعاون، رغم أنها كانت ملحوظة، إلا أنها خاضعة لسيطرة شركاء آسيويين تتحكم بهم سندات ربط قاسية أو ناعمة بالدولار الأمريكي. وهذا يتماشى مع حقيقة غير مقدّرة تفيد بأن دور الدولار الأمريكي كعملة أساسية في الاقتصاد العالمي هو اليوم أعلى بكثير مما كان عليه عندما كانت دول الخليج مرتبطة بقوة بالعملة الأمريكية في أواخر السبعينات وأوائل ووسط الثمانينات.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن أي تحرّك نحو أسعار صرف أكثر مرونة سيشكل مخاطر كبيرة على مصداقية السلطات النقدية، ويفرض متطلبات ثقيلة من حيث الإصلاحات المؤسساتية في أسواق الصرف الأجنبي وعمليات البنك المركزي.
إذا كانت أنظمة أسعار الصرف الحالية لا تزال هي الخيار الأمثل، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو ما إذا كانت تخفيضات العملة ستدعم إعادة توازن اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي. ويبدو أنّ الإجابة المناسبة هنا ستكون سلبية. هناك افتقار عام للمنافع المادية من تخفيض قيمة العملة في كافة دول مجلس التعاون الخليجي. فالصادرات والواردات غير مرنة البتة تجاه التغيرات في الأسعار النسبية، والآثار الكمية الإيجابية النهائية المتعلقة بهذه التغيرات لا تعوّض آثار التكلفة في الاقتصادات التي تسيطر فيها الواردات على أسواق السلع والعمل. وهذا ينطبق حتى على اقتصادات دول المجلس ذات القواعد الاقتصادية الأكثر تنوعاً مثل الإمارات والبحرين، والتي تكون فيها الصادرات غير النفطية في الغالب عبارة عن إعادة تصدير أو خدمات مقدمة من قطاعات ذات نسبة عالية من العمالة الوافدة. كذلك، تكون المكاسب المالية القائمة على تخفيض قيمة العملة مقيّدة بشدة بسبب الصادرات الأغلى ثمناً (حصّة كبيرة من الواردات الكلية ترتبط بالحكومة) وتسويات أجور عمال القطاع العام، وأسعار الصرف الفعلية لا تتبع طرقاً أكثر أهمية واستمرارية مقارنةً بالفترات الأخرى التي شهدها التاريخ الحديث. وبناءً لتجارب دولية أخرى فإن عمليات تخفيض العملة غير الفعّالة تولّد ضغوطاً تؤدي إلى مزيد من التخفيض في قيمة العملة، ما يخلق اختلالاً مالياً حاداً.
كل ما سبق يدفع الجهات المسؤولة في مجلس التعاون الخليجي إلى إظهار رغبتها وإرادتها في دعم ربط العملة. لكن في حال وجود اختلالات متواصلة واستمرار ضغوط أسواق الصرف، تُرى هل ستكون هذه الدول قادرة على الصمود طويلاً؟ أفضل طريقة لتقييم هذا الأمر هي باستخدام مقاييس مختلفة لكفاءة الاحتياطيات (تغطية الاستيراد، ديون قصيرة الأجل للاحتياطيات، إجراء قياس M2 [ M2 هو مقياس للعرض النقدي، يشير إلى جزء معين من المال الوارد في الاقتصاد] للاحتياطيات، وقياس تقييم كفاية الاحتياطي ARA المرجّح من صندوق النقد الدولي) لمقارنة الأوضاع الحالية والسابقة مع السيناريوهات المستقبلية المحتملة. وباستثناء البحرين، فإن جميع دول مجلس التعاون الخليجي تحتفظ باحتياطيات تتجاوز المستويات الاحترازية القياسية، وتفوق المستويات التاريخية الدنيا التي وصلت إليها في الثمانينات وبداية التسعينات ونهايتها. وعند إدراج صناديق تثبيت الاستقرار وصناديق الثروة السيادية، يمكن للكويت وقطر والإمارات أن تحقق مواقع متقدمة في مستويات الاحتياطي الاحترازي الكافي.
ورغم أن موقف البحرين هو الأكثر حرجاً من حيث كفاية الاحتياطي، إلا أن موقعها الاستراتيجي والحرب الإقليمية بالوكالة السنية- الشيعية/السعودية- الإيرانية يقدّمان سيناريو يجعل مسألة المحافظة على اقتصادها الصغير أمراً “مهماً جداً لأن يفشل” بالنسبة لاقتصاد الخليج الكلي. تقدّم المملكة العربية السعودية الدعم السياسي والمؤسساتي والاقتصادي للبحرين من أجل المحافظة على الوضع الجغرافي السياسي الإقليمي الحالي. ويبدو أنّ الأسواق المالية تضع هذه الحقائق في اعتبارها. وعلى الرغم من المقاييس المالية الرئيسية وأساسيات الاقتصاد الكلي، إلا أن الأسواق الآجلة غالباً ما تشير إلى احتمالات أكبر بتخفيض العملة في المستقبل في عُمان والسعودية مقارنةً بالبحرين.
واجهت السعودية وعُمان خلال العامين الماضيين وعكات من الضغوط في مسألة ربط عملاتها. لكن حتى في ظل هذا السيناريو الدراماتيكي لعجز الحسابات المالية والجارية في مستويات عاميّ 2015-2016، وعدم الاعتماد على أسواق الدَين المحلية أو على أسواق رأس المال العالمية أو على تسهيلات دعم السيولة الإقليمية أو المتعددة الأطراف، فإن الاحتياطيات المالية ستبقى أعلى من المستويات الاحترازية لمدة تتراوح بين 36 إلى 33 شهراً في المملكة العربية السعودية و9 إلى 12 شهراً في عُمان.
عموماً، وعلى الرغم من اختلافات المنطقة من حيث القدرة على المحافظة على ربط عملاتها، فمن المرجّح أن يظل النظام قائماً في كافة دول مجلس التعاون الخليجي لفترة من الزمن. ولن تتحقق المطالب المتعلقة بإصلاحات نظام الصرف إلا تدريجيا، مع تحقيق الأهداف الوطنية الطويلة الأجل، والتي تشمل التنوّع الواسع وتأميم سوق العمل وتطوير الأسواق المالية وتكاملها. وأي تحوّل محتمل في المستقبل نحو ترتيبات أكثر مرونة في أسعار الصرف سيأتي نتيجةً للتغيرات الاقتصادية البنيوية في دول مجلس التعاون الخليجي، وليس كسبب من أسبابها.
اضف تعليق