حفزت معجزة آسيا الشرقية عدداً كبيراً من الدراسات التي تسعى الى شرح النمو السريع في كل مكان الاقتصادات الاسيوية ذات الاداء العالي والصين، في حين قد تبدو القضية أكاديمية في ظاهرها، الا أنها أصبحت إحدى أكثر النقاشات اثارةً للاهتمام في الاقتصاديات الحديثة الشائعة، لقد أعتمد مؤيدو الاقتصاديات الحرة على الانفتاح النسبي لاقتصادات آسيا الشرقية، واستخدامها للأسواق الخاصة، وأساسياتها القوية في الاقتصاد الكلي للجدل من أجل تبني سياسات حكومية أقل تدخلاً.
لقد أشار مؤيدو التدخل الحكومي الأكثر فاعلية الى التدخلات الانتقائية، مثل تشجيع الصادرات، السياسات الصناعية ومجالس المداولات، للدعوة الى اعطاء دور أكبر للحكومة في الاقتصاد، وقد أشار سياسيون آسيويون الى القيود التي فرضوها على الحريات المدنية والسياسية من أجل وضع اُسس للنظام وتجنب الفوضى.
وهنا يطرح سؤال مهم، إذن ما هو النموذج الاسيوي في النمو؟ وبتعبير أخر، هل نجحت الاقتصادات الاسيوية ذات الاداء العالي في تحقيق معدلات نمو استثنائية من خلال سياسات تختلف تماماً عن الارشادات المتعلقة بالسياسات التي يدافع عنها أنصار إجماع واشنطن الذي يمثل مجموعة من وصفات الاصلاح الخاصة بمالية الحكومة وادارة الاقتصاد، وقبل كل شيء يجب علينا مراجعة فكرة حسابات النمو، اذ يوجد ارتباط قوي بين نمو انتاجية العمل ونمو نصيب الفرد من الدخل، الا أنه يوجد اختلاف بينهما، اذ يعد النمو في آسيا الشرقية رائعاً من حيث مستوى نصيب الفرد من الدخل وكذلك مستوى نمو إنتاجية العمل.
يمكن تقسيم أي معدل نمو في انتاجية العمل الى قسمين: جزء النمو الذي يرجع الى الزيادة في رأس المال، والجزء الناجم عن تحسن المهارات أو التعليم، حيث تُسمى هذه العملية بحسابات النمو، وعندما يتم إعداد حسابات النمو لبلد أو منطقة معينة، فإن جزءاً من النمو في إنتاجية العمل لايمكن تفسيره دائماً من خلال الكمية الاضافية من رأس المال أو التعليم. ويُعد هذا الجزء مقياساً لأثر استخدام المدخلات المتاحة بطريقة أكثر كفاءة، ويمكن تفسير ذلك بأنه في حال تحقق معدل نمو أكبر مما يُمكن تفسيره من خلال النمو في رأس المال أو التعليم، فأن ذلك يعود حكماً لاستخدام المدخلات المتاحة بطريقة أكثر إنتاجية، مثلاً قد يكون تنظيم الانتاج قد تغير مما دفع الافراد الى العمل بكفاءة أكبر، أو أن نوعية التكنولوجيا قد تغيرت بحيث أصبحت كل وحدة من مدخلات رأس المال والعمل تنتج وحدات أكثر من المخرجات.
يطلق على الانتاجية الاي لا تفسر برأـس المال أو التعليم اسماً أخراً وهو (إنتاجية العوامل الكلية أو الانتاجية الكلية لعوامل الانتاج) (TFP)، اذ يعكس نمو انتاجية العوامل الكلية التغيرات في الانتاج التي لا علاقة لها بالتغيرات في مدخلات رأس المال أو العمل ولكنها ترتبط بالتكنولوجيا الجديدة والابتكار وإدخال تحسينات تنظيمية، وفقاً لمعظم التقديرات، ويعود القسم الأكبر من النمو في الدخل الفردي في الدول ذات الدخل المرتفع على المدى الطويل الى الزيادات في انتاجية العوامل الكلية.
من هذا المنطلق تبدو حسابات النمو بعيدة جداً عن الجدل حول آسيا الشرقية، ولكنها في الواقع ذات صلة وثيقة، اذ تحقق الجزء الاكبر من النمو الاسيوي منذ 1960 بفعل الزيادات التي حصلت في رأس المال والتعليم، في حين تلعب إنتاجية العوامل الكلية دوراً أقل من ذلك بكثير، حيث تتراوح مساهمة انتاجية العوامل الكلية بين 24%-36% من اجمالي النمو، وتبلغ 27% في الولايات المتحدة ذات النمو الأبطأ، بينما تقدر بـ 37% في الدول الصناعية الأخرى، حيث كانت الحقيقة القائلة بأن نمو إنتاجية العوامل الكلية ساهم تقريباً بنفس الحصة الاجمالية من النمو في اقتصادات الدول الاسيوية ذات الاداء العالي مفاجئة للكثير من المراقبين، وذلك لسببين، هما:
1- ليست اقتصادات الدول الاسيوية ذات الاداء العالي خلافاً للولايات المتحدة وبقية العالم الصناعي على ذات المستوى من التكنولوجيا الجديدة، وبالتالي يجب أن تكون تلك الاقتصادات قادرة وبسهولة أكبر على استخدام التقنيات التي تزيد من إنتاجية العوامل الكلية فيها.
2- رأي مؤيدو النموذج الاسيوي الجديد للنمو الاقتصادي بأن التدخلات الانتقائية مثل السياسات الصناعية وتشجيع الصادرات قد أدت الى زيادة الانتاجية. وفي واقع الامر، يبدو أن كل ما حققته تلك الاقتصادات هو نتيجة زيادة كمية رأس المال للعامل الواحد.
ما يعني أن تراكم رأس المال هو المتحكم بالقسم الأكبر من النمو في الاقتصادات الاسيوية ذات الاداء العالي وليس ارتفاع إنتاجية العوامل الكلية، انطلاقاً من هذا يرى العديد من الباحثين أنه قد لاتكون هناك معجزة على الاطلاق، وانما هي عبارة عن العمل الجاد والتضحية التي تأتي من خلال التخلي عن الاستهلاك اليوم من أجل رفع معدلات الادخار والاستثمار في المستقبل، فعلى سبيل المثال رفعت سنغافورة نسبة الاستثمار بين عامي 1966و1985، من 11% الى 40% من الناتج المحلي الاجمالي، وبالتالي فأنه ليس من المستغرب أن يساهم تراكم رأس المال بالجزء الأكبر من نمو تلك الاقتصادات. وفي حال كانت هذه القياسات صحيحة، تُصبح حجة الدفاع عن وجود نموذج آسيوي مميز ضعيفة، وبدلاً من التدخلات الانتقائية التي تستهدف صناعات محددة، تمثلت مفاتيح النمو بالادخارات المرتفعة والاستثمارات المرتفعة، إضافة الى العوامل الاخرى.
الخصائص الرئيسية للنمو لاقتصادي في الاقتصادات الاسيوية ذات الاداء العالي
وكخلاصة لما تقدم يمكن إجمال خصائص النمو الاسيوي بالأتي:
1 تعزيز المساواة والتراكم السريع للادخار وارتفاع معدلات الاستثمار، صاحب ذلك تراكم سريع في مستويات التعليم والمعارف، فضلاً عن النمو السريع في الصادرات الصناعية مع وجود بيئة اقتصادية كلية مستقرة.
2- البيئة المؤسساتية عامل مهم في خلق الثقة بمتخدي القرار، اذ تميل الادارات الحكومية التي تقرر السياسات الى أن تكون بمنأى عن عملية الشد والجذب للنظام السياسي، ويقود ذلك بعضهم الى شجب عدم تمثيل السكان في القرارات المتعلقة بالسياسة، الا أنها تسمح باتخاذ القرارات على أساس الجدارة الفنية بدلاً من المصلحة السياسية، حيث غالباً ما يُسمع صوت رجال الاعمال والصناعيين، وبدرجة أقل المجموعات الاخرى كالمستهلكين، من خلال هيئات استشارية تعرف بأسم مجالس المداولات، والتي عبارة عن آلية لتبادل المعلومات ومناقشة السياسات بين القطاع الخاص وصانعي السياسات الحكومية.
3- إن احدى العناصر الرئيسة للسياسة هي التحكم المالي بالتضخم والموازنة والديون الخارجية وأسعار الصرف، فعلى الرغم من اختلاف التضخم والموازنات والديون الخارجية من بلد لأخر، الا أنه تم السيطرة على هذه المتغيرات ضمن حدود وضعت من قبل الحكومة.
4- باستثناء هونغ كونغ، اتبعت كل دول الاقتصادات الاسيوية ذات الاداء العالي سياسات صناعية استهدفت تطوير صناعات محددة، وقد تركزت معظم هذه السياسات في الجزء الشمالي لليابان وكوريا وتايوان.
5- دعمت كل دول الاقتصادات الاسيوية ذات الاداء العالي الصادرات الصناعية، وقد نجحت هذه السياسات الى حد كبير، على الرغم من أن الاليات التي تربط نمو الصادرات بنمو أسرع في الناتج المحلي الاجمالي لا تزال غير مؤكدة.
اضف تعليق