تيرينس كونران رجل اعمال في غاية النجاح قام ببناء شركتين كبيرتين ناجحتين، معتمداً على التصميم المتقن وعلى مهارات العاملين في صناعات غالباً ما يكون النجاح التجاري واسع النطاق فيها، واكثر ما يشتهر به انجازان:محال هابيتيت التي اطلقها في ستينيات القرن العشرين والتي اصبحت بين ليلة وضحاها المزود المفضل في لندن، كما اشتهر بعد ذلك بسلسلة من محال موديلات الاثاث المنزلي والمطاعم الذكية.
وعلى مدى ما يزيد على ثلاثين عاماً، لم يكتف كونران عن التصنيع وتقديم الترفيه والبيع بكميات كبيرة، حيث توجد في وسط لندن اربعة مطاعم لكونران ومحلان من محاله ضمن مسافة نصف ميل، ويختلف كل منها عن الاخر الا انها ملكه بطريقة لايمكن تجاهلها، ان حبه الاول هو التصميم والتنفيذ، وعندما سأل عما اذا كان رجلاً عملياً صحح بلطف "انني رجل عملي جداً"، وفي عصر الماركات العالمية والتي هو في طريقه اليها لايزال عمله يعتمد على متعة الفرد في صناعة وتشكيل الاشياء.
ان الارادة الصلبة تقع في قلب اقتصاد الابداع، و ان المعطيات المتوفرة حول اقتصاد الابداع متفرقة، ولايقتصر الابداع ومنتجاته على المعامل والمحال وحدها، فهو يحيط بنا في كل مكان تقريباً، فنحن واقعون في شرك الكلمات والصور والمنتجات المرخصة والماركات والعلامات التجارية، ونتحدث عن فرط المعلومات بوسائل لانستخدمها ابداً في اثناء الحديث عن الافراط في شراء الملابس او الافراط في الغذاء.
حتى عندما نعرفها فأنه من الصعب ان نقيم المنتجات الابداعية ونقيسها، ومن السهل نسبياً ان نقدر قيمة قرص DVD، او آلة، ولكن تقدير حقوق النشر او براءة الاختراع فيهما وتقييمهما امراً اكثر تعقيداً، والمصادر الحكومية مرقعة ترقيعاً، فعلى الرغم من تصرحاتها حول اهمية اقتصاد الابداع والاقتصاد الجديد للانترنت، فان اغلب الحكومات استمرت بتكريس الخدمات والصناعات التقليدية، وثمة مبرر لتوجهها فهي تعتمد في دخلها اكثر ما تعتمد على الصناعات التقليدية واقل من ذلك على القطاع الخدمي، وقليلاً جداً على الملكية الفكرية في عائداتها من الضرائب، وتؤثر هذه المشكلة ليس فقط على الناتج المحلي بل يشمل تأثيرها التجارة الدولية ايضاً، وتغيب احصائيات استيراد وتصدير المنتجات الابداعية عملياً من الاحصائيات التجارية لأنها لاتخضع للرسوم الجمركية او لتحصيل الضرائب، وقد يكون هذا التجاوز خطيراً.
ان معيار اضافة صناعة الى لائحة الصناعات الابداعية يعتمد على مدى مطابقة الصناعة لتعريف اقتصاد الابداع: اي المناقلات المالية مضروبة بالمنتجات الابداعية، او ق.ب= م.ب × ت، والمعيار الذي يجب ان يحدده المنتج الابداعي هو ان يكون سلعة او خدمة ناتجة عن ابداع وان تكون له قيمة اقتصادية، ومعيار المناقلة يقتضي حدوث تبادل ذي قيمة اقتصادية وجميع المنتجات الابداعية تستحق احد الاشكال الرئيسية للملكية الفكرية، براءات الاختراع او حقوق النشر او الماركات او العلامات التجارية، لقد شمل البحث والتطوير ضمن العمليات المنتجات الجديدة التي قد تصل الى براءات اختراع.
امثلة المنتجات الابداعية
الاعلان
يرتبط الاعلان بالابداع بعلاقة حب- كراهية، وامام صناعة الاعلان اليوم فرصة سانحة وثلاثة تحديات، فأما الفرصة فهي توسيع اعمالها للتجاوز وسائط العرض والصحافة التقليدية والتلفاز والاعلانات الخارجية، وتدخل في علاقات ذات تقانة عالية ومنخفضة في آن معاً، تتواصل عبرها المنظمات مع زبائنهم وتنشر رموزها واسماء ماركاتها وشعاراتها في مناطق كانت خالية من الاعلانات، وقد اخذت بعض الوكالات منذ اليوم مالاً من خلال الانترنت والرعاية اكثر مما تجنيه من عرض الاعلانات، وهي لتحقيق ذلك تواجه ثلاثة تحديات، اول هذه التحديات وهو شبه محلول، يكمن في التخلي عن تحميل زبائنها عمولة الـــ 15% التقليدية من انفاقاتهم على وسائل الاعلان، وتبني اسلوب الرسوم والضرائب، اما التحدي الثاني فهو تعليم مهارات التسويق والاتجار الجديدة، جديدة عليهم على الاقل، ويتمثل التحدي الثالث في المنافسة مع العديد من شركات التصميم والتخطيط الاستراتيجي التي غالباً ماتكون اكثر شباباً ولياقة، والتي تتمتع مسبقاً بمهاراتها وتستطيع التركيز على المفاهيم والافكار الجديدة وتكليف غيرها بما تبقى.
ان صناعة الاعلان تتحول من كونها مجالاً ذا حقوق نشر الى مزيج من اعمال حقوق النشر والعلامة التجارية، فهذه الوكالات لا تنجز اعمالاً جديدة ذات ملكية فكرية فحسب، بل انها ايضاً مستخدم رئيس للاعمال الموجودة مسبقاً، ولو كان بعض اشهر الشعارات قد حكم عليها على سبيل المفارقة انها تفتقر الى المهارة والجهد المبذول في وضعها ومع انتقالها الى التسويق، فأنها تصبح اكثر انخراطاً في عملية احداث علامات تجارية وماركات.
العَمارة
يقدم المعماريون ابداعات تدعم صناعة البناء والانشاء التي تعتبر خامس اكبر صناعة في العالم بعد الدفاع والتعليم والصحة والاغذية، ويتنوع دورهم الفني والاقتصادي تنوعاً كبيراً من حفنة المعماريين الاوائل الحائزين على جوائز، والذين يصممون ابرز المباني في العالم الى مئات الاف من المعمارين والمساحين والبنائين والملاك الذين يصممون ويبنون البقية.
والعمارة هي عمل ذو حقوق نشر، تميزاً له نشاطات براءات الاختراع والعلامات التجارية، ومخططات المعماري محمية بقوانين حقوق النشر، تماماً كمخططاته المصغرة ونماذجه وجميع الاعمال الفنية والادبية، وصولاً للبناء نفسه، وغالباً مايحتفظ المعماريون بحقوق النشر الخاصة بأبنيتهم، ولو كانوا يمنحون تراخيص لمتعاقدين اخرين لبناء نسخ عنه، اما الشخص الذي يشتري او يستأجر بيتاً فلا يحصل عادةً على اي حقوق نشر.
وتتف6 ميز العمارة بكونها الصناعة الاكثر دولية، ويعود ذلك جزئياً الى عدم اعتمادها على الكلمات، وايضاً الى تحقيقها لنظام رموزها العالمي الخاص المستقل عن اي امة وثقافة بعينها، وحتى الحكومات التي تفرض القيود على الوردات الثقافية في جميع القطاعات الاخرى يسرها تكليف معماريين اجانب للعمل على ابنيتها الاكثر حساسية وطنية وثقافية.
وثمة على مستوى العالم قرابة مليون معمار محترف يحققون عوائد تبلغ نحو 45 مليار دولار، ومن بين الشركات الثلاثين الاولى حسب العوائد، تعود 20 منها الى امريكا واليابان، وتاتي بريطانيا في الموقع الثالث.
وقامت زها حديد المولودة في بغداد والمقيمة في لندن بتصميم متحف الفن الوطني للقرن الواحد والعشرين، وهو اول متحف وطني في ايطاليا للفن المعاصر.
ويعكس حجم سوق الانشاءات في بلد ما اقتصاد هذا البلد الوطني، الا ان اعمال المعماريين تزدهر على نحو غير متناسب في البلدان التي لديها قطاع خاص او رأس مال خاص مزدهر .
البرمجيات
ان تصميم برامج الحاسوب وكتابتها عملان ابداعيان واضحان، فقد عد كل من تيم بيرنرز لي الذي اخترع شبكة الويب العالمية، وريتشارد ستول مان ولينوس تور فالدس الذين اختراعا البرمجبات المجانية ونظام لينوكس، من بين اكثر الاشخاص ابداعاً في اواخر القرن العشرين، وقد يكون من المنطقي اضافة اي نوع من البرمجيات الى هذا التصنيف، وهكذا فأن تصنيع البرمجيات وبيعها ضمن عملية صناعية يندرجان في باب البحث والتطوير، والتصميم بمعونة الحاسوب كاد يندرج في باب البحث والتطوير، الا ان من يعملون في الحواسب ينظرون الى انفسهم كصناعة مستقلة.
انهم ينتجون بلا شك ملكية فكرية، حتى لو كان كثيراً من المبرمجين والقراصنة يفضلون ترك برامجهم متاحة مجاناً، وتبين ان برامج الحاسوب تعتبر اعمالاً ادبية على مستوى العالم، وتمنح امريكا براءات اختراع للبرنامج وللاثر الذين يحققان هذه البرامج .
وتساوي هذه الصناعة على مستوى العالم 600 مليار دولار والاسواق الرئيسية هي امريكا واوربا الغربية اللتان تشكلان لوحدهما 69% من المبيعات، والسوق الكبرى التالية هي اليابان بنسبة 10%.
مع ازدياد ادراك الدول الصناعية الغنية لمساهمة الابداع في نموها، مالذي تقوم به البلدان التي لاتزال في طور النمو؟ ان اسعار السلع تهبط في الكثير منها، ويشهد تعداد سكانها نمواً شديداً، بينما استغلت الولايات المتحدة واوربا الابواب التي تفتحها العولمة لأمتلاك او لترخيص الكثير من الاصول المحلية، ومع القليل جداً من الاستثناءات، فأن جميع بلدان الجنوب النامية الفقيرة تحاول اللحاق بركب التعبير الابداعي، فلديها قوة جبارة في ثقافتها وفنونها الوطنية، وهي تريد دفعها وتطويرها لأسباب تعود الى الاعتزاز الوطني والرغبة في تحقيق عائد اقتصادي، وليس ذلك في الامر السهل، فهي في عوز الى المقاولين التجاريين والى الاطلاع الى القانون وعلى المالية، والى سياسيين مناصرين، وبنفس السرعة التي تبني بها هذه البلدان قطاعاتها الخاصة بالبحث والتطوير في الهند وصناعة الافلام في تايلند والعاب الفيديو في كوريا الجنوبية، يتقدم الغرب الغني الى الامام او يحكم سيطرته ببساطة.
النمو العالمي
عالمياً، بلغت القيمة المالية لأقتصاد الابداع نحو 2.706 مليار دولار اي 2.7 تريليون دولار في العام 2005 وهي تنمو بمعدل 6% سنوياً. وبما انه، وتبعاً للبنك العالمي قد بلغ اجمالي الناتج المحلي 44.485 مليار دولار اي 44 تريليون دولار، فأن اقتصاد الابداع يمثل 6.1% من الاقتصاد العالمي.
وامريكا هي اكبر الاسواق، ففي العام 2004 بلغت قيمة الملكيات الفكرية الامريكية مابين 5 تريليون دولار و6 تريليون دولار اي مايعادل 45% من اجمالي الناتج المحلي، اي مايجاوز اجمالي الناتج المحلي لأي بلد اخر، وقد اثبت تقرير اعتمد على بيانات بنك الادخار الفدرالي ان الشركات الامريكية قد استثمرت نحو تريليون دولار سنوياً في المنتجات الثقافية غير الملموسة، وهو المقدار نفسه الذي تم استثماره في الزراعة والمكننة، كما اثبت الاتحاد العالمي للملكية الفكرية (ايبا) ان الصناعات الامريكية المعتمدة على حقوق النشر اسهمت في الاقتصاد الامريكي في العام 2000 اكثر من اي صناعة اخرى، اي اكثر من الصناعات الكيميائية او الطائرات وقطع الغيار الخاصة بها، او المعادن او التجهيزات الالكترونية، او الالات الصناعية والطعام والمشروبات.
ووفقاً للبنك المركزي فأن اكبر الاقتصاديات الوطنية من حيث اجمالي الناتج المحلي بعد امريكا هي اليابان والمانيا والصين والمملكة المتحدة وفرنسا وايطاليا والبرازيل، ولم يتغير هذا التصنيف منذ عدة سنوات فيما خلا النمو الاستثنائي الذي تشهده الصين، وبعكس تصنيف الاقتصاديات الابداعية للبلدان اجمالي الناتج المحلي بشكل كبير لكن مع بعض التباين.
لقد تبنت الصين افكار الابداع والاختراع ولكن اسواقها الوطنية لاتزال صغيرة ومجزئة، ولكن بعض المدن فيها تتحرك بسرعة لتشجيع القطاعات الابداعية ودعم رجال الاعمال المحليين، وغالباً ماتكون الاولوية للتصميم، فالحرف، فالنشر، ثم الاعلام الالكتروني والاتصالات الالكترونية وخصوصاً تلك التي تجتذب الشباب، وتتفق اغلب المصادر على ان الصين اصبحت في عام 2005 ثالث اكبر مصدر للمنتجات وللخدمات الابداعية، وهو انجاز كبير بالنسبة الى بلد اغلب سكانهم لا يتحدثون لغته.
اضف تعليق