ضمن أي سياقات تناقش مسألة الإلحاد؟ هل ضمن سياقات أدلة النفي وأدلة الإثبات أم ضمن سياقات وقائع الحياة أو العيش وهي وقائع الشر والظلم، وهما سياقان لكل منهما مجاله الخاص به في ارتهانات العقل بهما او لهما، فالعقل فاعل أساس في بناء تصورات كل سياق منهما، فالعقل يبتكر الأدلة سواء أدلة النفي أو أدلة الإثبات ويكتشف الأسباب لغرض ربط النتائج بها أو توقع النتائج.
وإذا كانت سمة الأدلة هي سياقات نظرية في العقل فان سمة الوقائع /الأسباب الحياتية أو المعيشية هي سياقات عملية واقعية في العقل، وتميل بهذا الى الجانب التجريبي والميداني في البحث والتطوير في المعرفة والفكر، ويبدو أن مسألة الإلحاد تندرج في سياقات الوقائع/ الأسباب الحياتية أو المعيشية وارتباطها في البحث بالجانب التجريبي والميداني أكثر من سياقات الأدلة التي تتأصل فيها فكرة الله، فالإيمان بالله يقوم على الدليل لدى المؤمنين وتتعدد لديهم أنواع الأدلة، لكن الإلحاد يقوم على جدل في هذه الأدلة أو النفي لها دون أن يستحضر أدلة النفي، فلا دليل على نفي الله، لكن الإلحاد يكتفي بتفنيد أدلة الإيمان.
والإلحاد في موقفه هو منتج تجربة شخصية- فردية يتداخل فيها السبب ذي الصبغة المادية - المعيشية وترويضات او محاولات ترويضات العقل باتجاه الإلحاد من خلال عقلنة او محاولة عقلنة تلك الأسباب بمنحها بعدا يقينيا وبعد ذلك علميا، لكنها لاتصل إلى مستوى الدليل بل يكتفي بمستوى خاص من القناعة، لذلك لا نعثر على دليل في ادبيات الإلحاد، بل الغالب فيها هو تفنيد دليل الإيمان مما يجعل الموقف الإلحادي بحاجة دائمة إلى عقلنة موقفه ورؤيته من خلال الزج بالواقع وتحديدا المزري الذي يعيشه الإنسان في تنظيم فكرة الإلحاد عبر إدراج تلك الأسباب الداعية إلى الإلحاد في منظومة النقاش القائمة والمستمرة بين المؤمنين والملحدين، وهي أسباب تتعلق أو تنتمي إلى آثار الواقع الديني الذي عاشته المجتمعات البشرية، فالظلم والكراهية والحروب والفتن الناشبة تحت مظلة الدين هي العوامل أو الوقائع التي تشجع على الإلحاد، سواء لعوامل الثأر من الدين والرجال القائمين عليه، أو لغرض الخلاص البشري من النتائج المترتبة على الدين. والمفارقة ان نشأة الدين في أولياته التاريخية أو تاريخية نشأة الدين تعكس ذلك الموقف في الخلاص البشري إلى الدين ذاته وتؤكد ظهور الدين لغرض الخلاص أو النجاة ذات التمدد الأخروي والدنيوي.
سياقات الإلحاد لدى برتراند راسل
كان برتراند راسل يقتنع بتساؤل: إن كان لكل سبب مُسبّب، ولكل فعل فاعل، ولكل حركة مُحرّك، فمن الذي أوجد المُسبّب الأول والفاعل الأول والمُحرّك الأول؟، وهو تساؤل ستيوارت مل، وهو بهذا يقلب الدليل دون أن يفنده أو ينفيه بدليل مواز له أو اشد قوة، وفي كتابه (لماذا لست مسيحيا) فان راسل يقول عندما كنتُ طفلًا كانوا يقدمون لي "الله" باعتباره إجابة على كل الأسئلة التي تُثار عن الوجود، ولكن عندما لم أجد إجابة عمن خلق الله انهار إيماني جملة، هكذا نجد سطحية دليل راسل او عدم فهمه بشكل عميق دليل الخلق حين يخلط بين قوانين الخلق وقانون الخالق، فدليل الخلق محموله الخلق وموضوعه الخالق، وعند راسل ومن قبله ستيوارت يتعادل أو يتساوى أو قل يختلط المحمول بالموضوع وبذلك يفقد المنطق قانونه، فالسبب والفاعل والمحرك هي وقائع لا يمكن تفنيدها أو إنكارها لكن ضمن ضرورات قوانين الخلق والفعل والحركة، وهنا تعرف وتظهر وتبدو تفسيرات لما يجري، لكن قانون الخالق يندرج فيه ذاتيا السبب والفاعل والمحرك، وهنا يختص بصيغة الأول ويدخل في تمييزه عن كل سبب وفاعل ومحرك صيغة السبب الأول أو الفاعل الأول او المحرك الأول ولذلك لا يفسر بالسبب هذا الأول.
إن راسل وباستدلاله الارتجاعي لدليل السبب في الأذهان فانه يطرح هذا الدليل ويعد نفسه مستغنيا عنه ويعلل اهتمامنا به او تمسكنا به نتيجة افتراضنا المسبق ان العالم له بداية وهو ما يتسبب في فقر مخيلتنا عن هذا العالم -والقول له- لكن راسل وبقدر نفيه لفكرة السبب واعتبارها فاقدة الصلاحية وإنها كانت تؤتي أكلها في الماضي –راسل– فانه يعود من جديد ويعتبر فقر المخيّلة هي التي تتسبب في تصورنا إن للعالم بداية وهكذا نجد السبب بديها في استبطانه وملاصقته فكر أو تفكير الإنسان، وانه غير خاضع الى تحولات الزمان التي يؤكد عليها راسل ويعتبرها فاقدة الصلاحية في هذا الزمان، وان فكرة السبب لديه غير واضحة، وكونها غير واضحة فانه تأكيد على وجودها لكنه وجود غامض وغموضه لا يعني بطبيعة الحال نفيه في وجوده، وأخيرا يلجأ راسل إلى نفي أو إلغاء قوانين الخلق التي هي قوانين الطبيعة ويعتبرها مجرد قناعات بشرية، والقصد هو توهين القاعدة التي يستند إليها الإيمان وهو أحد أدلته البدهية في دليل النظام الكوني الذي يسير وفق قوانين الطبيعة، ويذهب إلى تأكيد الصدفة في تفسير القوانين الطبيعية (بانها معادلات إحصائية تنبثق عنها قوانين الصدفة) لكنها حين تتحول إلى معادلات كونية فإنها تعبير عن تنسيق تام، والتنسيق هو وظيفة القوانين في النظام الذي لا يجرؤ راسل على نفيه عن العالم والكون رغم نفيه الكمال والخير في هذا العالم.
وكان المؤمنون الأوائل في أزمنة الأديان لم يعرفوا القوانين الطبيعية، لكنهم كانوا يرون في العالم والنظام والكون وآياته أدلة الله فيها، وحين يسلم جدلا أو يفترض إن الله هو الذي وضع هذه القوانين لكن سيبرز من وجهة نظره سؤال هو: لماذا اختار الله هذه القوانين دون غيرها؟ وجواب الإيمان المفترض عند راسل هو مزاجية المشيئة مما يدع إمكانية تعطيل هذه القوانين، لكنه افتراض غير متحقق يظل بإزاء واقع متحقق هو ديمومة عمل وفاعلية القوانين الطبيعية.
ثم يطرح إجابة دينية أخرى حول عدم اختيار قوانين أخرى، بان الله خلقها لأسبابه الخاصة وهي في تفنيده أنها تدع الله خاضعا أيضا إلى القانون الطبيعي، وهذه وعلى طريقة راسل مراوغة فكرية، فأسباب الله الخاصة به هي غير أسباب العالم والكون والخلق وإلا لتساوى الله والعالم والكون والخلق، وهو ما كانت تتصوره أو تتوقعه ديانات العراقيين القدامى والإغريق الأوائل، وكانت الآلهة في نظرهم نسخة عن البشر في تأثرها بالأسباب ذاتها وعينها التي يتأثر بها الخلق والناس، وإذا كانت القوانين الطبيعية لا صحة فإنها نتيجة غياب التصميم في الكون الذي يعد دليلا ايمانيا قويا، لكن راسل يسخر منه ويحاول نقض فكرة التصميم من أساسها لأنها تستند في تصوره إلى تكييف البيئة من اجل الكائنات التي تعيش فيها، لكن نظرية دارون أثبتت أن الكائنات هي من تتكيف وفق تغيرات وظروف البيئة، وهي قاعدة التكيف البيئي وينفي وجود أي تصميم فيها، وبهذا يفند راسل دليل التصميم.
لكن تظل قدرة الكائنات على تصميم تكيفها ونموها تشكل دعما لدليل التصميم من جهة الكائنات التي يبقى تصميمها الفسلجي والتكويني مذهلا جدا في التفكير، ومدهشا جدا في آفاق النفس باتصالها الوجودي، لكن راسل لا يصدق بالتصميم لوجود تشوهات خلقية وكونية مثل جماعة كوكلوكس كلان أو الفاشيون أو السير ونستون تشرشل، وهنا تبدو قناعة راسل بافتقاد العالم الجمال والخير، ومضمون قوله افتراضا من جانبنا، أنه لو كان هناك الله لكان العالم جميلا ومنظما وخيرا، لكن لو كان العالم كله خيرا كيف ندرك الخير ولا أقول الشر، ولو كان العالم كله جميلا كيف ندرك الجمال ولا أقول القبح، إن النقائض التي تحملها بنية العالم هي نقائض العالم التي تمنحه المسؤولية والمعنى، لقد كانت الحياة سديم غير مفهوم ولم تكن المعرفة وسيلة بناء الحياة، ولم يكن العالم يحمل معنى قبل أن يأكل ادم التفاحة وفيها انفرط في لبها عقد الحقائق وأصبحت الحقائق جدل الإنسان الأول، ولذلك قالت بعض الروايات إن ادم تناول من شجرة المعرفة ثم حدث الاختبار في تمييز الخير والشر والجمال والقبح.
وإذا كان راسل يدلل في كلامه حول أدلة النفي أو أدلة الإلحاد إنها لا تقوم بذاتها بقدر ما تعتمد تفنيد دليل الإيمان، فانه يرى أن الدين مرض وليد الخوف، ويقول "الإنسان استمد فكرة الإيمان بالله من نظم الطغيان والجبروت السائدة في الشرق، فعلاقة الإنسان بالله أشبه ما تكون بعلاقة العبد الذليل بالحاكم المستبد، وهي ذلة تأباها كل نفس تشعر بالمعزة والكرامة" وهكذا نجده ينتقل في مطاوي الإلحاد لديه هنا إلى سياقات أخرى في تجذيره في السياسة وأسباب الحكم ونتائج ما تثيره القوى المؤيدة للحاكم والظلم من رفض ونفي، وهي قوى لا تنحصر بالدين بل تتسع لتشمل كل القوى التي تقف بإزاء الاستغلال للناس، ثم هي قراءة مبتورة في تاريخ الشرق الديني.
لقد أستمد حمورابي قوانينه العادلة من الآلهة، وكان قادة الأديان من الأنبياء والرسل هم أول من أدانوا الظلم والفساد في الأرض، وكانوا هم الأكثر مواجهة لطغاة أزمنتهم. ويروي التاريخ الإسلامي الكثير من صور الاحتجاج الديني ضد الحكام المستبدين والطغاة، وكانت دماؤهم تتحول بهم إلى شهداء مقدسين، ونجد صور القتل البشعة لرجال المسيحية الأوائل على يد الحكام المستبدين من الرومان، لقد كان الرومان الأكثر استبدادا وبشاعة من استبداد الشرق، ولقد ظهرت صور من القتل والموت في العصور الوسطى وبداية العصور الحديثة على يد حكام أوربا المستبدين وباباوات الكنيسة لم يشهد لها تاريخ الإنسان بكل امتداده الزمني مثيلا أو قريبا من بشاعته، مما يفند نظرية الاستبداد الشرقي التي وضع فكرتها الاستشراق الأوربي وخرافة التفوق الأوربي.
وأما الخوف الذي هو أساس الدين عند راسل، وهو الخوف من الغموض، والخوف من الموت، والخوف من الهزيمة، فأن العلم من وجهة نظر راسل هو الذي يحررنا من عقدة الخيالات والبحث عن حلفاء وهميين في السماء، لكن راسل يتناسى أن العلم أضاف إلى مخاوفنا الشيء الكثير من الخوف، ودرج مستقبل الحياة بغموض أكبر، أنتج أسلحة الدمار والفناء، وما زالت تقنية العلم وبرامجه التصنيعية العسكرية ترهق حياتنا بالخوف وبالترقب للحرب نتيجة الإمكانات التي منحتها التكنولوجيا للجيوش في إنجاز انتصاراتها.
لقد تشكلت لدينا مخاوف جديدة على أثر التقنية والتكنولوجيا الحديثة، هناك ظاهرة الأوزون وارتفاع درجات الحرارة وتلوث البيئة والتهديد المستمر لحياتنا على الأرض، بل مسخت التكنولوجيا بواسطة الصناعة وتطوير العلم لها إنسانيتنا عبر تحويلنا الى كائنات مستهلكة، كائنات لا تفكر بالنافع والضار بقدر ما تفكر بالحصول على كل شيء يضمن اللذة العابرة التي تضمن عملية الاستهلاك الدائم التي تقف خلفها القوى الرأسمالية العالمية التي تمكنت من الهيمنة على العلم لاسيما في حقليه التقني والتكنولوجي.
ولا يعني هذا إننا على الضد من العلم، لكن افتقاده للقيم التي تأسست عليها الديانات التوحيدية الكبرى وشبه الديانات الأخلاقية والتعليمية واستبداله لها بالقيم الرأسمالية هو الذي تسبب بافتقاده مبدأ الرحمة والرأفة، وهي القيم المؤسسة في هذه الديانات، والمفارقة المهمة أن تطورات العلم وبعيدا عن قيم الرأسمالية أحالت دراسات الدين الى منهجيات متعددة بعد أن أتضح ذلك التلازم بين الدين والإنسان وليس المفترض عن الخوف حصرا، ونشأ علم خاص بالدين هو علم الأديان وظيفته وفق مرسيا الياد أن يجعل الوثائق والوقائع الدينية منهجا ميسورا لفهم الإنسان الحديث وإدراكه وأن مؤرخ الأديان وبفضل تلك الوثائق يتمكن من الوصول الى معرفة أعمق بالإنسان، والكلام لازال لمرسيا الياد.
أما آخر دليل يسوقه راسل فهو مسألة الخير والشر والرؤية الشائكة في تبرير وجودهما وتفسير علاقتهما بالله تعالى لا سيما الشر، وهنا ينتقل الى سياقات أخرى في الإلحاد، إنها لا ترتبط بالتفسيرات النظرية أو تفنيد أدلة الإيمان بل تستند إلى التجربة الذاتية الوجودية التي تشتغل بمسألة الوجود والمعنى والغموض من خلال انهمام ذاتي بالوجود والإحباط الذي يرافق عملية الانغماس بالوجود لملحد لا يكاد يجد معنى للحياة بل هي لحظة عابثة أو مضيئة وفق قوله في قعر الوجود - والكلمة له -، ويطرح سؤاله هنا: لماذا الشر الذي يسبب له الإحباط ويقوده الى نفي فكرة الله؟، لكن الله أوضح منذ البداية أن هناك شر وأن الاختبار سيكون عن طريقه، فالخير ممكن والشر ممكن وإمكانهما هو إمكان وجودي وليس وجوب وجودي والقرار في تحويلهما أو أحدهما من القوة إلى الفعل أو من الإمكان إلى الانجاز عائد إلى الإنسان وأن مجموعة كو كلوكس كلان أو ونستون تشرشل كانوا هم قد اتخذوا القرار، وبطبيعة الحال سيظل الملحد حائرا في تفسير وجود الشر مع وجود الله مما يعكس نظريته المضمرة غير المعلن عنها أن وجود الله لا يحتمل وجود الشر مما يدفعنا إلى القول أنه نوع من الإيمان المفرط أو بعبارة أخف، صورة من الإيمان البدهي وهو ما يدعو راسل إلى التردد في نفي وجود الله.
وإذا كانت فكرة الشر تعيق راسل عن الإيمان فان الظلم وفي ذات سياقات الشر يشكل عائقا آخر عن الإيمان بالنتيجة عن رأيه، وهو يناقش مقولة أن الله وجوده ضروري من أجل العدالة في هذا العالم، لكن الظلم المنتشر في هذا العالم يدفعه الى القول أن العدالة لا تحكم العالم والكون، إذا فما هي الضرورة في وجود الله مع هذا الظلم؟، لاشك أن الله على الضد من الظلم وأن اللحظة التي بعث الله بها الأنبياء هو ازدياد الظلم وهيمنته في الأرض، وتلك مهمة أو تضمينات الكتب المقدسة، وهنا يعيد الله الظلم إلى الإنسان، لكن راسل يفند ضرورة وجود الله بوجود الظلم، إذاً وجود الله يتعارض مع وجود الظلم ضمنيا في فكرة راسل، وهو تعارض يقود بالنتيجة الضمنية إلى عدم اتصاف الله بالظلم ولعدم قناعته غير المعلن عنها من ناحيته باتصاف الله بالظلم والشر فانه يلجأ إلى نفيه، لان الظلم الموجود في العالم لا يسمح له بالإيمان بالله، لكنه موقف يعبر عند ملحد عن صورة الله أو عن ضرورة الله في العدل من طرف خفي أو غير مباشر وهو ما يمنح راسل إيمانا غامضا في داخله بالإله.
اضف تعليق