إذا كانت الظروف صعبة فقد تجوز التقية أو المداراة، لكن ينبغي أن يبقى الهدف الأساسي للتقية أو المداراة هو إيصال الحق. فالمداراة أو التقية لا تتناقض مع مبدأ العمل بالحق إطلاقاً، وإنّما هي حفظ النفس حتى يأتي الوقت والموقع المناسب للجهر بالحق أو العمل به؛ لأنه إذا لم...
قال اللّه تعالى: (وَدُّواْ لَوۡ تُدۡهِنُ فَيُدۡهِنُونَ)(1).
المراد من المداهنة: الخنوع على حساب الحق، وهذه الحالة مذمومة، فلو تعايش الإنسان مع مجتمع من المخالفين أو الكفار على حساب الحق أو جاملهم كذلك فهذه هي المداهنة المرفوضة.
مثلاً: كان شخص يُدعى في المجالس التي يُقدم فيها الخمر، فكان يشرب معهم ويقول: إنني أستحي أن لا أحضر معهم ولا أشرب لأن ذلك خلاف الآداب!! لكن هذه مداهنة على حساب الحق، فهو يريد أن يكسب رضا الطرف المقابل عن طريق المداهنة بسخط اللّه تعالى، وهذا من صفات المنافقين. يقول اللّه تعالى: (يَحۡلِفُونَ بِٱللَّهِ لَكُمۡ لِيُرۡضُوكُمۡ وَٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَحَقُّ أَن يُرۡضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤۡمِنِينَ)(2)، فالأولى أن يرضوا اللّه ورسوله لا أن يرضوا الناس.
وأمّا المداراة فتعني أن يراعي الإنسان مشاعر الطرف المقابل، فلا يوجّه إليه إهانة في وجهه، على أن لا يحدث هذا على حساب الحق؛ لذلك تجوز التقية للذين يعيشون في مجتمعات يسيطر فيها المخالفون أو الكفار لكي لا يؤذوهم، فيجوز الكتمان، وليس المداهنة.
لذلك نقرأ في القرآن الكريم في قضية مؤمن آل فرعون: (وَقَالَ رَجُلٞ مُّؤۡمِنٞ مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ يَكۡتُمُ إِيمَٰنَهُۥٓ)(3)، فقد كان يدافع عن موسى (عليه السلام) دفاعاً مستميتاً، لكنه في الوقت نفسه كان يكتم إيمانه، ولم يكن يداهن حينها، ففي الوقت الذي كان يخفي إيمانه كان ينصحهم ويدافع عن موسى (عليه السلام)، وعن العقيدة الصحيحة الحقّة من دون أن يجاهر بأنه من أتباعها.
في عالم اليوم لا يوجد شيء يخفى من عقائدنا، وذلك بسبب الفضائيات ومواقع الانترنت والكتب وغير ذلك، فكل شيء معلوم إذ الانفتاح الإعلامي لم يبقِ شيئاً قيد الكتمان، لكن في الوقت نفسه يمكن للإنسان أن يستعمل التقيّة إذا كان الظرف يتطلّبها، أو أنه يدافع ويبين الحقيقة بالمقدار الممكن، كما فعل مؤمن آل فرعون، وليس معنى ذلك محاولة إرضاء الكفار والمخالفين، إذ ذلك غير ممكن كما قال اللّه تعالى: (وَلَن تَرۡضَىٰ عَنكَ ٱلۡيَهُودُ وَلَا ٱلنَّصَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمۡۗ)(4) بل المقصود دفع شرهم بالمقدار المستطاع مع الدفاع عن الحق بالطرق الممكنة.
قبل مائة سنة، قال مجموعة من حكام بلدان المسلمين ومن وقف إلى جانبهم: يجب أن نلتحق بركب الحضارة الغربية، لكنهم بعد مرور كل هذه السنوات اقترفوا سيئاتهم ولم يلتحقوا بركبهم أصلاً، فلم يأخذوا أي نقطة من نقاط القوة، بل انتشر السفور والخمور، وانتشر الخراب السياسي والاقتصادي والاجتماعي وغير ذلك.
والحاصل: إذا كانت الظروف صعبة فقد تجوز التقية أو المداراة، لكن ينبغي أن يبقى الهدف الأساسي للتقية أو المداراة هو إيصال الحق.
لقد كانت ظروف أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في غاية الصعوبة، وقد استخدم الأئمة (عليهم السلام) التقية غالباً، لكن هذا لا يعني أنهم لم يعملوا بالحق ولم يبينوه بالمقدار الممكن، وهذا الأمر لم يُعجب السلطات الحاكمة؛ لذا كانوا يعمدون إلى تصفيتهم.
إذن، فالمداراة أو التقية لا تتناقض مع مبدأ العمل بالحق إطلاقاً، وإنّما هي حفظ النفس حتى يأتي الوقت والموقع المناسب للجهر بالحق أو العمل به؛ لأنه إذا لم يستطع الإنسان أن يجهر بالحق فعليه أن يعمل به، ومن أفضل الطرق للذين يعيشون في الظروف الصعبة جداً هو ما قاله الإمام الصادق (عليه السلام): «كونوا دعاة إلى أنفسكم بغير ألسنتكم»(5)، فربما يكون الإنسان في مكان لا يتمكن من الجهر بما يعتقد به، لكن الآخرين يعلمون أنه شيعي، فإذا كان صادقاً أميناً في أقواله وأعماله، وكان حسن الأخلاق فإن هذا تبليغ لما يؤمن به.
وقد نُقل إنه في بعض البلدان التي يسيطر النواصب فيها على الدوائر الرسمية ويضايقون المؤمنين اهتدى بعضهم بسبب أخلاق الشيعة العاملين في تلك الدوائر، وذلك من خلال الصدق والوفاء والالتزام بالمواعيد، والعمل بصورة صحيحة، وعدم خيانة أرباب العمل، والأمانة المالية، والالتزام بالصلاة في مواعيدها، فالالتزام بالواجبات وترك المحرمات تعتبر من الدعوة والتبليغ.
إن أكبر دولة إسلامية في العالم من حيث السكان هي أندونيسيا، حيث دلت بعض الإحصائيات بلوغ عدد سكانها (220) مليون نسمة، منهم (180) مليون نسمة مسلم، والسبب في انتشار الإسلام في أندونيسيا هو ذهاب بعض التجار المسلمين إليها، سواء من اليمن أو الهند؛ لأن تربتها كانت خصبة ومنتجاتها الزراعية طيبة، وقبل ستمائة سنة تقريباً كان الناس هناك وثنيين، فاستطاع التجار المسلمون بأخلاقهم والتزاماتهم وعدم خداعهم للناس أن يرسخوا حب الإسلام لدى هؤلاء، وقد أسلموا بالتدريج، فسبب انتشار الإسلام في تلك البلاد أخلاق التجار المسلمين، فقد انعكست مبادئ وقيم الإسلام على أعمالهم، ولأن الإسلام هو دين الفطرة فإن الناس يتقبلونه إذا وصل إليهم بجوهره الصحيح.
ثم يأتي الجهر بعد ذلك: (وَجَٰدِلۡهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُۚ)(6)، ثم ينصر اللّه سبحانه وتعالى المؤمنين: (إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرۡكُمۡ)(7).
جاء في الروايات: أن عدد الأنبياء (عليهم السلام) كثير جداً، فعن صفوان بن مهران الجمال، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: قال لي: «يا صفوان هل تدري كم بعث اللّه من نبي؟ قال: قلت: ما أدري، قال: بعث اللّه مائة ألف نبي وأربعة وأربعين ألف نبي ومثلهم أوصياء بصدق الحديث وأداء الأمانة والزهد في الدنيا، وما بعث اللّه نبياً خيراً من محمّد (صلى الله عليه وآله) ولا وصياً خيراً من وصيه»(8).
وكان من بين هؤلاء الأنبياء مجموعة من الرسل، والرسول هو النبي الذي أُمر بالتبليغ، فمجموع الرسل قليلون جداً وأكثر الأنبياء كانوا غير رسل، وتكون فائدة النبي كبيرة في المجتمع، حيث يكون فيه بمثابة الإنسان الكامل، حتى وإن لم يتكلم؛ لأن وجوده وعمله يهدي الناس إلى الخير، فإذا كان في الأسرة الكبيرة رجل صالح أو امرأة صالحة فإن وجودهما فيه إشعاع وفائدة، حتى وإن لم يتحدث عن نفسه للأولاد والأحفاد، كذلك وجود الأنبياء (عليهم السلام) في المجتمعات، فهو يترك تأثيره فيها حتى لو كان النبي صامتاً؛ وذلك لحكمة وجوده وصلاحه وإشعاعه الذي يؤثر في الناس.
لذا على الإنسان أن يستفيد من وقته ويهذب نفسه وعمله، وأن يكون في وجوده نوراً يؤثر في الآخرين، فيصبح من قبيل الدعاة إلى أهل البيت (عليهم السلام) بغير لسانه، وإذا تمكن أن يضيف لسانه إلى عمله فذلك نور على نور.
اضف تعليق