ومن أفضل الطرق التي حفظت الدين، وأوصلته إلينا ـ وهو سبب لهداية الناس في طول التاريخ ما يعبّر عنه بعض الفقهاء بالتقية المداراتيّة، أو ما يسمى بالاصطلاح الجديد بالتعايش والسلم الأهلي. وقد يعبر عن هذا الأسلوب بالجهاد، فقد يجاهد الإنسان أعداءه عبر التقية، فهو ليس ذلاً وخنوعاً، بل هو جهاد...
قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: (وَلَا تَسۡتَوِي ٱلۡحَسَنَةُ وَلَا ٱلسَّيِّئَةُۚ ٱدۡفَعۡ بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِي بَيۡنَكَ وَبَيۡنَهُۥ عَدَٰوَةٞ كَأَنَّهُۥ وَلِيٌّ حَمِيمٞ * وَمَا يُلَقَّىٰهَآ إِلَّا ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّىٰهَآ إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٖ)(1).
إن اللّه سبحانه وتعالى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، واختار أفضل الطرق لهداية الناس، فعلّم تلك الطرق لرسوله محمّد (صلى الله عليه وآله) والأئمة الطاهرين (عليهم السلام)، ومن بعدهم تلقّى الفقهاء العظام هذه التعاليم، عن رسول اللّه والأئمة (عليهم السلام)، وذكروها في الكتب الفقهية، وبينوها للناس.
إن من سنن اللّه سبحانه وتعالى معارضته منهج الباطل لمنهج الحق: فقال سبحانه: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّٗا شَيَٰطِينَ ٱلۡإِنسِ وَٱلۡجِنِّ)(2)، وقال تعالى: (وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقۡتَتَلُواْ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَفۡعَلُ مَا يُرِيدُ)(3).
ففي زمان الرسول (صلى الله عليه وآله) كان المنافقون يتربّصون به الدوائر، قال تعالى: (وَمِمَّنۡ حَوۡلَكُم مِّنَ ٱلۡأَعۡرَابِ مُنَٰفِقُونَۖ وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ لَا تَعۡلَمُهُمۡۖ نَحۡنُ نَعۡلَمُهُمۡۚ)(4)، وقال عزّ وجلّ: (وَمِنَ ٱلۡأَعۡرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغۡرَمٗا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ ٱلدَّوَآئِرَۚ)(5)، وقد وصف اللّه سبحانه وتعالى حال المنافقين بقوله: (يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعۡنَآ إِلَى ٱلۡمَدِينَةِ لَيُخۡرِجَنَّ ٱلۡأَعَزُّ مِنۡهَا ٱلۡأَذَلَّۚ وَلِلَّهِ ٱلۡعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِۦ وَلِلۡمُؤۡمِنِينَ وَلَٰكِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ لَا يَعۡلَمُونَ)(6).
وأمّا بعد رحيل الرسول (صلى الله عليه وآله) فقد ظهرت حسيكة النفاق، وأزالوا الأئمة (عليهم السلام) عن مراتبهم التي رتبهم اللّه فيها، ولم يكتفوا بذلك بل استعملوا جميع الأساليب لإطفاء نور اللّه سبحانه وتعالى، بدءاً من التصفية الجسدية بالقتل، إلى الحصار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، إلى افتراء الأكاذيب، لكن هذا النور لم يطفأ؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى أراد له ذلك إرادة تكوينية فقال: (يُرِيدُونَ أَن يُطۡفُِٔواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَيَأۡبَى ٱللَّهُ إِلَّآ أَن يُتِمَّ نُورَهُۥ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡكَٰفِرُونَ)(7)، وقال: (يُرِيدُونَ لِيُطۡفُِٔواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡكَٰفِرُونَ)(8)، فإرادة اللّه التكوينية موجودة، ولكن اللّه سبحانه وتعالى جعل هذه الإرادة عن طريق الأسباب الظاهرية غالباً، وهذا ما نشاهده في حياة رسول اللّه محمّد (صلى الله عليه وآله) في مكة والمدينة حيث أوذي في اللّه وجاهد طوال حياته، فقد كان (صلى الله عليه وآله) يجاهد الكفار عن طريق الأسباب الظاهرية، وقد نفّذ ما أراده اللّه سبحانه وتعالى.
وهكذا كان حال الأئمة (عليهم السلام)، فقد أوصلوا لنا هذا الدين عن طريق الأسباب الظاهرية عادةً.
ومن أفضل الطرق التي حفظت الدين، وأوصلته إلينا ـ وهو سبب لهداية الناس في طول التاريخ ـ ما يعبّر عنه بعض الفقهاء بالتقية المداراتيّة، أو ما يسمى بالاصطلاح الجديد بالتعايش والسلم الأهلي. وقد يعبر عن هذا الأسلوب بالجهاد، فقد يجاهد الإنسان أعداءه عبر التقية، فهو ليس ذلاً وخنوعاً، بل هو جهاد.
إن الأئمة (عليهم السلام) أمروا شيعتهم بالجهاد عن طريق التقية، وذلك لإعلاء كلمة اللّه سبحانه وتعالى. والتقية من أهم الأسباب التي حفظت الشيعة أوّلاً، ثم كانت سبباً لانتشار التشيع ثانياً، ففي زمان من الأزمنة لم يكن يشكل الشيعة إلّا واحد بالألف من المسلمين أو أقل، وأمّا الآن فالنسبة كبيرة جداً. وقد تحقق هذا بسبب هذا الأسلوب الذي اتخذه الأئمة (عليهم السلام)، وأمروا به شيعتهم.
تكالب الأعداء وموقف العلماء الربانيين
إننا نرى ما حدث في السنين الأخيرة من تكالب الأعداء على شيعة أهل البيت (عليهم السلام)، حيث القتل وهتك الحرمات وغير ذلك، فلم يترك الأعداء منكراً إلّا فعلوه، لكن اللّه سبحانه وتعالى أعلى كلمة الشيعة؛ وذلك بسبب اتّباع الشيعة للفقهاء الربانيين، الذين أرشدوهم إلى تعاليم أهل البيت (عليهم السلام).
إن بعض الدول وبعض أئمة النفاق، حرّضوا سفهاءهم على قتل الشيعة عبر العمليات الانتحارية في العراق وغيره، ومن المعلوم أن الإنسان عندما يُقتل قريب له فسوف تشتد عنده القوة الغضبية(9)، إلّا أن الشيعة كانوا يتمسكون بالعقلانية وبالشرع، ويتمسكون بالقرآن الكريم وسنّة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، وسيرة الأئمة المعصومين (عليهم السلام)، ووصايا الفقهاء الربانيين.
إننا هنا لا نتكلم عن الجانب السياسي والآثار العظيمة، والنفع العظيم الذي ترتّب للشيعة بسبب امتثالهم لوصايا المراجع العظام، وإنّما نتكلم عن الجانب الشرعي، فالإسلام يقول: إذا عُرف القاتل وثبت ذلك بالأدلة والموازين الشرعية، وعند حاكم شرعي، فيجوز لأولياء المقتول أن يطالبوا بالقصاص.
لكن في حالات القتل العشوائي كيف يُعرف القاتل؟ وإذا أردنا أن ننتقم فربما يُقتل البريء، فوظيفة مراجع الدين هي حفظ الناس، وتبليغ الدين، ومن أهم الأمور في الشرع الدماء، وهي من الأمور التي يجب الاحتياط فيها، فإذا قتل الناصبي مجموعة من الشيعة فلا يجوز لأي شخص أن يذهب وينتقم ويقتل البريء. إن الإنسان لا يجوز له قتل الكافر البريء فكيف بالمسلم؟
والحاصل: إن الفقيه مأمور بحفظ دين الناس، ومن ذلك الالتزام بأحكام الشرع، ومن أهم أحكام الشرع حرمة الدماء، فالفقيه مكلّف بإرشاد الناس إلى حفظ الدماء وعدم القتل العشوائي، وعدم أخذ البريء بجريمة المجرم.
صحيح أن المواضيع الجزئية ليست من شأن الفقيه، وإنّما يلزم على المكلّف أن يشخّصها، لكن المواضيع العامة شأن الفقيه، وفي الحديث: «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة اللّه عليهم»(10)، فالموضوع العام غير مرتبط بتشخيص الإنسان العادي، وإنّما هو مرتبط بتشخيص الفقيه الجامع للشرائط.
إن الشيعة تكبّدوا خسائر كبيرة لكن النفع الذي وصلهم نفع عظيم جداً، وهذا النفع تمثّل في سمعتهم الطيّبة في كل العالم، فلا ينبغي على الإنسان أن ينظر إلى الإعلام الناصبي الذي يريد أن يقلب الحقائق، فإن العقلاء يعرفون أن من يحمل هذا الدين يؤمن بالسلم، وبعدم الاعتداء، وبعدم أخذ البريء بجريرة المجرم.
أفضل الطرق للدفاع
لو أراد شخص ما أن يقتلك ـ مثلاً ـ فيجب عليك أن تدافع عن نفسك؛ لأن هذا حق مشروع لك، ولكن بالطريقة الشرعية، ومن اتهمك فلا تقف مكتوف اليدين مقابل هذه التهمة، وإنّما يجب عليك أن تبطل ادعاءه بأفضل الأساليب.
يقول بعض الجهال: إن الشيعة لا يصلّون، وإنّما يعبدون القبور، وغير ذلك من الافتراءات، فيجب علينا أن ندافع عن أنفسنا من خلال البرهان العلمي، لكي نبطل هذه الأكاذيب.
فمن ذلك الجواب العملي، مثلاً عندما تبث عبر الفضائيات في كل يوم صلاة الجماعة من حرم أمير المؤمنين (عليه السلام)، وحرم الإمام الحسين (عليه السلام)، والناس يصلّون في الصحن، فالمشاهد عندما يرى ذلك فسوف تزول الشبهات عنه، فبهذا الفعل العملي يمكن أن تزال ألف شبهة.
قال اللّه تعالى: (ٱدۡعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلۡحِكۡمَةِ وَٱلۡمَوۡعِظَةِ ٱلۡحَسَنَةِۖ وَجَٰدِلۡهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُۚ)(11).
إن الإبطال العملي للشبهات من أفضل الطرق فكل عاقل يسمع كلام العدو يعرف أنه كاذب؛ لأنه يرى بعينه أن الشيعي يصلّي ويأتي ببقية العبادات.
وهذه توصية الأئمة (عليهم السلام) في التقية المداراتية، وهذا ليس ترك الولاء وترك البراءة، وليس ترك تربية أولادنا على الولاية والبراءة، وإنّما هو تعايش مع الآخر بما تقرّبه إلى المذهب الحق، وبالإضافة إلى حفظ النفس، فعندما يرانا الطرف الآخر ونحن بأحسن الأساليب في صلاتنا وصومنا وعبادتنا وأخلاقنا ومعاملتنا فسوف يتأثر بنا، ويكون التأثر أكبر لو قلنا لهم: إن هذا ما أمرنا به الأئمة (عليهم السلام).
إن التعامل بالأخلاق الحسنة له تأثير كبير في هداية الناس، وهذا ما أشارت له بعض الروايات: فعن زكريا بن إبراهيم قال: «كنت نصرانياً فأسلمت وحججت، فدخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) فقلت: إني كنت على النصرانية وإني أسلمت، فقال: وأي شيء رأيت في الإسلام؟ قلت: قول اللّه عزّ وجلّ: (مَا كُنتَ تَدۡرِي مَا ٱلۡكِتَٰبُ وَلَا ٱلۡإِيمَٰنُ وَلَٰكِن جَعَلۡنَٰهُ نُورٗا نَّهۡدِي بِهِۦ مَن نَّشَآءُ)(12)، فقال: لقد هداك اللّه، ثم قال: اللّهم اهده ـ ثلاثاً ـ سل عما شئت يا بني، فقلت: إن أبي وأمي على النصرانية وأهل بيتي، وأمي مكفوفة البصر فأكون معهم وآكل في آنيتهم؟ فقال: يأكلون لحم الخنزير؟ فقلت: لا، ولا يمسونه، فقال: لا بأس، فانظر أمك فبرها، فإذا ماتت فلا تكلها إلى غيرك، كن أنت الذي تقوم بشأنها، ولا تخبرن أحداً أنك أتيتني حتى تأتيني بمنى إن شاء اللّه. قال: فأتيته بمنى والناس حوله كأنه معلم صبيان، هذا يسأله وهذا يسأله، فلما قدمت الكوفة ألطفت لأمي وكنت أطعمها وأفلي ثوبها ورأسها وأخدمها، فقالت لي: يا بني، ما كنت تصنع بي هذا وأنت على ديني، فما الذي أرى عنك منذ هاجرت فدخلت في الحنيفية؟ فقلت: رجل من ولد نبينا أمرني بهذا، فقالت: هذا الرجل هو نبي؟ فقلت: لا ولكنه ابن نبي، فقالت: يا بني، إن هذا نبي، إن هذه وصايا الأنبياء، فقلت: يا أمه، إنه ليس يكون بعد نبينا نبي، ولكنه ابنه. فقالت: يا بني، دينك خير دين، اعرضه عليَّ فعرضته عليها فدخلت في الإسلام وعلمتها، فصلت الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة، ثم عرض لها عارض في الليل، فقالت: يا بني، أعد عليّ ما علمتني فأعدته عليها، فأقرت به وماتت، فلما أصبحت كان المسلمون الذين غسلوها، وكنت أنا الذي صليت عليها ونزلت في قبرها»(13).
إن كل إنسان عنده عقل عندما يرى الأسلوب الحق فسوف يدركه بعقله وفطرته؛ لأن هذا الدين يرتبط بفطرة كل إنسان: (فِطۡرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيۡهَاۚ)(14).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «إياكم أن تعملوا عملاً يعيرونا به، فإن ولد السوء يعير والده بعمله، وكونوا لمن انقطعتم إليه زيناً، ولا تكونوا عليه شيناً، صلوا في عشائرهم، وعودوا مرضاهم واشهدوا جنائزهم، ولا يسبقونكم إلى شيء من الخير، فأنتم أولى به منهم، واللّه ما عبد اللّه بشيء أحب إليه من الخبء. قلت: وما الخبء؟(15) قال: التقية»(16).
ومقصوده (عليه السلام) من العمل الذي يعيّر به هو: المعاصي، فمن يرتكب معصية ـ كالكذب مثلاً ـ فإن من يراه سوف يقول: هكذا يفعل الشيعة.
إن أفضل شيء لدحض الشبهات هو الممارسة العملية للعبادات، إضافة إلى الجدال بالتي هي أحسن، ومن ذلك زيارة الرسول (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام)، وخاصة زيارة الإمام الحسين (عليه السلام).
إنه من خلال التتبع لزيارات النبي وأهل بيته (عليهم السلام) لم أجد أنه يضع الزائر ظهره على القبر ويستقبل القبلة، إلّا في مورد واحد، وهو زيارة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: «كان أبي علي بن الحسين (عليهما السلام) يقف على قبر النبي (صلى الله عليه وآله) فيسلم عليه ويشهد له بالبلاغ(17)، ويدعو بما حضره، ثم يسند ظهره إلى المروة الخضراء الدقيقة العرض(18)، مما يلي القبر ويلتزق بالقبر، ويسند ظهره إلى القبر ويستقبل القبلة، فيقول: اللّهم إليك ألجأت ظهري، وإلى قبر محمّد عبدك ورسولك أسندت ظهري، والقبلة التي رضيت لمحمّد (صلى الله عليه وآله) استقبلت، اللّهم إني أصبحت لا أملك لنفسي خير ما أرجو، ولا أدفع عنها شر ما أحذر عليها، وأصبحت الأمور بيدك، فلا فقير أفقر مني، إني لما أنزلت إلي من خير فقير، اللّهم ارددني منك بخير، فإنه لا راد لفضلك، اللّهم إني أعوذ بك من أن تبدل اسمي، أو تغير جسمي، أو تزيل نعمتك عني، اللّهم كرمني بالتقوى وجملني بالنعم، واغمرني بالعافية وارزقني شكر العافية»(19).
ويفهم من قوله (عليه السلام): «كان أبي علي بن الحسين (عليهما السلام) يقف على قبر النبي (صلى الله عليه وآله)...» أن الإمام (عليه السلام) كان مستمراً على هذا الفعل، ولم يفعله مرّة واحدة فقط.
والحاصل: إن هذا الفعل ـ أي: أن يسند الزائر ظهره للقبر ـ لم أجده إلّا في زيارة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، فلا يوجد هذا في زيارة أمير المؤمنين (عليه السلام) أو زيارة باقي الأئمة (عليهم السلام)، فما هو السبب في ذلك؟
والجواب: لعل ذلك لأجل أن يبطل الزائر الشبهات التي تقول: إن الشيعة يعبدون القبر، وإنهم يعتبرون الرسول (صلى الله عليه وآله) شريكاً للّه سبحانه وتعالى.
أثر التقية المداراتيّة في نشر الحق
أن أكثر العامة لا يعرفون الحق، وإنّما يتأثرون بالإعلام السلبي؛ لذا يمكن عبر التعايش والمداراة أن نبيّن لهم الحق حتى يعرفوه.
وعن الصادق جعفر بن محمّد (عليهما السلام): «المؤمن علوي لأنه علا في المعرفة، والمؤمن هاشمي لأنه هشم الضلالة ـ إلى أن قال ـ، والمؤمن مجاهد لأنه يجاهد أعداء اللّه تعالى في دولة الباطل بالتقية، وفي دولة الحق بالسيف»(20).
والمؤمن علوي بمعنى أن قلبه مليء بالإيمان، وليس عنده انهزامية، وهو تابع لأمير المؤمنين (عليه السلام)، وأسلوبه أسلوب صحيح، وهذا الفارق بينه وبين غيره، فالبعض عنده حالة انهزامية، حيث يقول: نحن نذهب إلى العامة ونترك عقائدنا، فإذا اقتضت الوحدة الإسلامية مع العامة أن نتنازل عن عصمة الأئمة (عليهم السلام) فسوف نفعل!
إن هذه وحدة تخاذلية، فنحن لا نتنازل قيد شعره عن أيّ معتقد من معتقداتنا، وإنّما نقبل بالوحدة الإسلامية الحقيقية التي تهدي الناس إلى الدين الحق.
إن الجهاد قد يكون بالسيف، وقد يكون بالفعل، والمؤمن مجاهد لأنه لا ينبطح، فهو يجاهد أعداء اللّه عزّ وجلّ في دولة الباطل بالتقية، حيث يهدي الناس إلى الحق، فهذا جهاد في سبيل اللّه، وأمّا في دولة الحق فسوف يكون الجهاد بالسيف، وذلك حينما يظهر الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): أمرني ربي بمداراة الناس كما أمرني بأداء الفرائض»(21).
والمداراة غير المداهنة التي نهى اللّه عنها (وَدُّواْ لَوۡ تُدۡهِنُ فَيُدۡهِنُونَ)(22)، لأن المداهنة تعني الانبطاح والتنازل عن الحق، بمعنى أنك تريد أن تكسب رضاه ولو بالتنازل عن معتقدك: (يَحۡلِفُونَ بِٱللَّهِ لَكُمۡ لِيُرۡضُوكُمۡ وَٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَحَقُّ أَن يُرۡضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤۡمِنِينَ)(23)، بينما تكون المداراة على العكس من ذلك، فهي تعني أن يحافظ الإنسان على نفسه وعلى دينه ويهدى الناس إليه من خلال حسن الخلق وحسن المعاملة وحسن الأسلوب وحسن الكلام.
إن الذي يجهر بالعداوة لرسول اللّه (صلى الله عليه وآله) كافر، وإذا كان يبطنها فهو منافق، والمنافق كافر باطناً ويحشر مع الكفار في يوم القيامة، ومع ذلك فاللّه يقول لنبيه: (فَإِذَا ٱلَّذِي بَيۡنَكَ وَبَيۡنَهُۥ عَدَٰوَةٞ كَأَنَّهُۥ وَلِيٌّ حَمِيمٞ)(24)، فاللّه سبحانه وتعالى يأمر النبي (صلى الله عليه وآله) أن يتعامل هذا التعامل مع عدوه، الذي إمّا هو كافر أو منافق حتى يهديه.
ثم قال الإمام الصادق (عليه السلام): «مَن استعمل التقية في دين اللّه فقد تسنم الذروة العليا من العز، إن عز المؤمن في حفظ لسانه»(25)، و(الذروة) ـ بالضم والكسر ـ المكان المرتفع من كل شيء، و(العليا) تأكيد.
لعل البعض يتصوّر أن التقية في حالة الخوف فقط، فإذا كان الإنسان خائفاً على نفسه أو عرضه فيجوز له استعمال التقية، بينما الروايات تبين أن التقية المداراتيّة ليست في حال الخوف فقط، فقد يداري الشيعي المخالفَ لكي يهديه، وهذه ليست مداهنة، وليس تفريطاً في الحقوق.
والحاصل: أن البعض قد يكون في حالة إفراط أو تفريط، فهناك من يذهب للمداهنة وآخر يترك التقية المداراتيّة نهائياً، لكن الحد الوسط هو المتعيّن، فينبغي على الإنسان أن يربّي أولاده على الولاية والبراءة، فلا تنازل قيد شعره عن معتقداته، التي ثبتت عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، ولكن في الوقت نفسه يداري الطرف الآخر مداراة جهاد تجرّه إلى الإيمان.
اضف تعليق