عبادة اللّه تعالى هي بمعنى تأليهه وطاعته، فأمّا التأليه فهو خاص به سبحانه وتعالى، وأمّا الطاعة فإنها الامتثال لأوامر ونواهي اللّه سبحانه وتعالى، فإذا أمرنا تعالى بشيء فإن خضوعنا له سبحانه يستدعي أن ننفذ أمره، وإذا نهانا عن شيء فإن خضوعنا له سبحانه يستدعي أن ننتهي عن...

قال اللّه سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {مَّن يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدۡ أَطَاعَ ٱللَّهَۖ}(1).

إن العبادة والعبوديّة في اللغة: هي منتهى الخضوع(2)، فإذا خضع الإنسان لشخصٍ أو لشيءٍ غاية الخضوع فتسمى هذه الحال بـ(عبادة)، و(عبودية) وتستعمل هذه الكلمة في القرآن الكريم والروايات بهذا المعنى.

أقسام العبودية

لكن هناك مصداقان في هذا المجال:

1- فقد يكون الخضوع بقصد التأليه، كأن يجعل الإنسان شخصاً أو شيئاً ما إلهاً ويخضع له، وهذا النوع من العبادة خاص باللّه سبحانه وتعالى، فإذا خضع الإنسان لصنم أو شخص أو شمس أو حجر أو مدر بقصد التأليه فهو كافر أو مشرك.

2- وقد يكون الخضوع بقصد الطاعة، بمعنى أن يطيع الإنسان شخصاً ما، وقد ورد هذا النوع من العبودية في القرآن الكريم ونسب إلى غير اللّه سبحانه وتعالى أيضاً، كما في قوله تعالى: {وَأَنكِحُواْ ٱلۡأَيَٰمَىٰ مِنكُمۡ وَٱلصَّٰلِحِينَ مِنۡ عِبَادِكُمۡ وَإِمَآئِكُمۡۚ}(3)، والعباد: جمع عبد، لأن العبد يكون خاضعاً لأوامر سيده لكونه مملوكاً لا يقدر على فعل شيء.

يقول اللّه سبحانه وتعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ}(4)، فمن أطاع الرسول فقد أطاع اللّه، لأنّ اللّه هو الذي أمر بإطاعته، وقد أمرنا اللّه تعالى بإطاعة أئمة أهل البيت (عليهم السلام) إطاعة مطلقة. كما أمر بإطاعة آخرين لكن بشرط أن لا تكون في معصية.

ولا تجوز إطاعة مَن نهى اللّه عن إطاعته؛ ولذا يقول اللّه سبحانه وتعالى: {وَلَا تُطِعۡ مِنۡهُمۡ ءَاثِمًا أَوۡ كَفُورٗا}(5).

لذا حينما كان يأتي أحد المشركين إلى الرسول (صلى الله عليه وآله) كي يدخل الإسلام فإذا كان اسمه جميلاً حسَناً يبقيه، وأمّا إذا كان اسمه قبيحاً يغيره أحياناً، وإذا كان اسمه تعبيداً لصنم معين كأن يكون (عبد العزى) أو (عبد اللات) أو (عبد ود)، فإن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) كان يبادر لتغيير هذه الأسماء؛ أمّا إذا كان اسم الشخص مركباً من (عبد) و(شخص آخر) تجوز إطاعته فلم يكن النبي (صلى الله عليه وآله) يغيّره، فقد كان اسم أحد أصحاب الرسول (صلى الله عليه وآله) عبد المطلب بن ربيعة(6).

وعندما أسلم لم يغيّر رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) اسمه، مع أنه لو كان منسوباً لأحد الأصنام لغيّره، إن هذا النوع من العبودية لا يتعلق بالتأليه، وإنّما بإطاعة من أمر اللّه سبحانه وتعالى إطاعته، أو لم ينهَ اللّه سبحانه وتعالى عن إطاعته.

والحاصل: أن عبادة اللّه تعالى هي بمعنى تأليهه وطاعته، فأمّا التأليه فهو خاص به سبحانه وتعالى، وأمّا الطاعة فإنها الامتثال لأوامر ونواهي اللّه سبحانه وتعالى، فإذا أمرنا تعالى بشيء فإن خضوعنا له سبحانه يستدعي أن ننفذ أمره، وإذا نهانا عن شيء فإن خضوعنا له سبحانه يستدعي أن ننتهي عن ذلك الشيء، فلا يحق لنا أن نعترض على حكم اللّه سبحانه وتعالى.

تمرد إبليس

إن اللّه سبحانه وتعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم (عليه السلام)، والسجود هو غاية الخضوع؛ ولذا قيل: إن السجود هو خضوع ذاتي، ففي ذاته الخضوع، وعندما أمرهم بالسجود لآدم (عليه السلام) أبى إبليس ذلك، يقول بعض المنحرفين(7): إن إبليس سيد الموحدين، لأنه أبى أن يسجد لغير اللّه، في ما سجد الملائكة لغير اللّه!

لكن عمل إبليس لا يسمى توحيداً، وإنّما هو تمرد على أمر اللّه سبحانه وتعالى، فاللّه لم يقل للملائكة: ألّهوا آدم، بل قال: اخضعوا له بالسجود، لذا وجب عليهم الخضوع، أمّا إبليس فقد أبى واستكبر على اللّه سبحانه وتعالى؛ لأنه رفض أن يطيع أمره، واعتبر نفسه أعلى من هذا الأمر: {قَالَ أَنَا۠ خَيۡرٞ مِّنۡهُ خَلَقۡتَنِي مِن نَّارٖ وَخَلَقۡتَهُۥ مِن طِينٖ}(8)، فأصبح هذا العصيان استكباراً على أمر اللّه سبحانه وتعالى بعد أن كان بالأساس تكبراً على آدم (عليه السلام) .

إن إبليس كان يظن أن النار أفضل من الطين، ولذا لم يسجد لآدم (عليه السلام)، مع أن الطين الذي خلق منه آدم أفضل من النار، وهذا ما أشارت له بعض الروايات، فقد ورد عن الإمام الصادق (صلى الله عليه وآله) أنه قال: «إن إبليس قاس نفسه بآدم، فقال: خلقتني من نار وخلقته من طين، ولو قاس الجوهر الذي خلق منه آدم بالنار كان ذلك أكثر نوراً وضياءً من النار»(9).

إذن، لو تمرد إنسان على أمر اللّه سبحانه وتعالى وزعم أنه يريد من ذلك إطاعته سبحانه وتعالى، فهذه ليست إطاعة لأنها تنطوي على عصيان.

تمرد العصاة

إننا نلاحظ بعض الناس يعتبرون أنفسهم أعلم من القرآن الكريم والرسول (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) ...! طبعاً إذا تلفظ الإنسان بذلك بلسانه فذلك هو الكفر، وإذا كان الأمر في قلبه فهو شرك خفي، ولذا جاء في الحديث الشريف: «لو أن قوماً عبدوا اللّه وحده لا شريك له، وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، وحجوا البيت وصاموا شهر رمضان، ثم قالوا لشيء صنعه اللّه، أو صنعه رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) ألا صنع خلاف الذي صنع، أو وجدوا ذلك في قلوبهم لكانوا بذلك مشركين، ثم تلا هذه الآية: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجٗا مِّمَّا قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيمٗا}(10)، ثم قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): عليكم بالتسليم»(11).

فإذا خطر في بال الإنسان مثل هذا التفكير فهذا يعني أنه يعتبر نفسه أعلم من اللّه سبحانه ورسوله؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى لم يحرّم أو يحلل إلّا بحكمة؛ لذا فهو سبحانه لا يأمر ولا ينهى عبثاً، ولا يخلق لغواً: {رَبَّنَا مَا خَلَقۡتَ هَٰذَا بَٰطِلٗا سُبۡحَٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ}(12).

لقد نزّه اللّه سبحانه وتعالى نفسه عن اللغو والعبث، سواء في التشريع أم التكوين والخلق، فكل شيء لحكمة، فلو قال أحدهم: لو أن الأمر الفلاني لم يكن لكان ذلك أفضل، فمعنى هذا أنه يعتبر نفسه أعلم! لذا تعتبر هذه الحالة درجة من الشرك الخفي باللّه سبحانه وتعالى، لكنه لا يحاسب على هذا النوع من التفكير أو الظن الخاطئ، لما ورد في حديث الرفع، فإذا خطرت في بال الإنسان بعض الوساوس الشيطانية ولم يظهرها في لسانه أو عمله، فإن اللّه سبحانه وتعالى لا يعاقبه عليها، ولكنها ستكون سبباً في انحطاط درجته. فالتفكير في المعصية كالدخان الذي لا يحرق الدار وإنّما يسوّد جدرانها، فذلك التفكير يكون سبباً في اسوداد القلب.

وعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): مَن سره أن يحيا حياتي، ويموت ميتتي، ويدخل الجنة التي وعدنيها ربي، ويتمسك بقضيب غرسه ربي بيده فليتولَّ علي بن أبي طالب (عليه السلام) وأوصياءه من بعده، فإنهم لا يدخلونكم في باب ضلال، ولا يخرجونكم من باب هدى، فلا تعلموهم فإنهم أعلم منكم، وإني سألت ربي ألا يفرق بينهم وبين الكتاب حتى يردا عليَّ الحوض هكذا ـ وضم بين أصبعيه ـ وعرضه ما بين صنعاء إلى أيلة، فيه قدحان فضة وذهب عدد النجوم»(13).

الإخلاص والرضا

ثم إذا أردنا أن نعبد اللّه سبحانه وتعالى يجب أن تكون عبادة خالصة لا يشوبها شيء، كما لا بدّ أن نجعل مرضاته هي الأساس، لا كيفما نرغب وكيفما نريد؛ فإن درجة الرضا بقضاء اللّه سبحانه وتعالى عالية جداً، فقد يجزع الإنسان في مصيبة فيُحبط أجره، وأمّا إذا صبر على ذلك فإن له أجراً ودرجة عالية.

إذا تعرض أحدهم لحادث وكان في قرارة نفسه مؤمناً بأن اللّه سبحانه وتعالى هو الذي قدّر له ذلك الأمر، وكان راضياً به بلسانه وبقلبه فإنه قد يصل إلى درجة الصديقين، وبطبيعة الحال لا يصل إليها غالبية الناس، وربما يتمكن بعضهم من ذلك، ولكن يحتاج الأمر إلى جهاد كبير للنفس، فاللّه سبحانه وتعالى قدّر للصديقين هذه الدرجة بحسن أعمالهم.

سبب إطاعة الرسول والأئمة (عليهم السلام) 

وهنا يطرح التساؤل التالي: لماذا نطيع رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) والأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) ؟

والجواب: إن سبب إطاعتهم هو أن اللّه سبحانه وتعالى أمر بذلك، فهم لا يعصون اللّه ولا يخطئون، فهل من المعقول أن يأمر اللّه بإطاعة شخص إطاعة تامة في كل الأمور، مع أن هذا الإنسان يخطأ ويأمر بالخطأ؟!

إن بعض الفِرَق يفسرون (أولي الأمر) في قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ}(14) بالحكام والسلاطين والأمراء ونحوهم من الرؤساء(15)، حيث يقولون: تجب طاعتهم سواء كانوا أبراراً أم فجّاراً(16).

لكن من الناحية العقلية والشرعية هل يمكن أن يأمرنا اللّه سبحانه وتعالى بإطاعة حاكم يأمر بالمعصية؟ فلو كان ذلك لكان الدين متناقضاً، فهو من جهة يحرّم القتل مثلاً، ومن جهة أخرى يقول: أطع الحاكم الذي يأمرك بقتل الناس، فقد حدث تناقض في الأمر، فهل أطيع الحاكم أم لا؟ فإذا أطعته فسوف أعصي اللّه سبحانه وتعالى، وإذا عصيته فسوف أطيع اللّه.

إذن، يجب أن يكون (أولو الأمر) المعصومين (عليهم السلام)، ولا يوجد فيهم أي احتمال للخطأ، لكي تكون إطاعته متطابقة مع إطاعة اللّه تعالى دائماً.

والحاصل: إن اللّه سبحانه وتعالى إذا أمر بإطاعة شخص وبشكل مطلق فلا بدّ من أن يكون معصوماً، وحينما يأمر بإطاعة غير المعصوم فإنه يقيّده بأن لا تكون طاعته معصية للّه، مثلاً أمرنا اللّه بإطاعة الوالدين، لكن هذا الأمر ليس مطلقاً، فقال تعالى: {وَإِن جَٰهَدَاكَ عَلَىٰٓ أَن تُشۡرِكَ بِي مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٞ فَلَا تُطِعۡهُمَاۖ}(17)، فالإطاعة هنا مقيدة بأن لا تكون في معصية اللّه، بينما أطلق ولم يقيده في: {أُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ}، والإطلاق يشمل كل شيء، فيجب أن يكون أولي الأمر معصوماً ولا يحتمل في حقه الخطأ أبداً.

* مقتطف من كتاب: الكلمات: محاضرات في العقيدة والسلوك، لمؤلفه السيد جعفر الحسيني الشيرازي

 ........................................... 

(1) سورة النساء، الآية: 80.

(2) انظر: الصحاح 2: 503.

(3) سورة النور، الآية: 32.

(4) سورة النساء، الآية: 59.

(5) سورة الإنسان، الآية: 24.

(6) انظر: بحار الأنوار 15: 119-123؛ المطلب ليس من أسماء اللّه عزّ وجلّ، بل هو اسم لأخي هاشم جد الرسول، وحين تزوج هاشم في المدينة المنورة أنجبت زوجته شيبة الحمد، وقد توفي هاشم في غزة حين كان ذاهباً في تجارة، فبقيت زوجته في المدينة مع أهلها، وكبر شيبة الحمد في المدينة، ولما بلغ سن المراهقة، جاء المطلب واصطحب ابن أخيه، وأعاده إلى أهله في مكة، وعند دخول شيبة أوّل مرّة لمكة تصور أهلها أنه عبد اشتراه المطلب فأسموه عبد المطلب، وبقي هذا الاسم ملاصقاً له، بينما كان اسمه الحقيقي هو شيبة الحمد، ومن الطريف في الأمر أني قرأت إحدى فتاوى ابن باز، يذكر فيها أن تسمية عبد الحسين لا تجوز؛ لأنها عبارة عن شرك، ثم سئل: ولماذا الرسول لم يغيّر اسم عبد المطلب بن ربيعة؟ فقال: إن عبد المطلب يجوز استثناءً!! وكأنَّ الشرك قابل للاستثناء!! بل إذا جازت تسمية عبد المطلب فمن باب أولى أن تجوز تسمية عبد الحسين.

(7) انظر: شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد 1: 107، وفيه: «وكان أبو الفتوح أحمد بن محمّد الغزالي الواعظ، أخو أبي حامد محمّد بن محمّد الغزالي الفقيه الشافعي، قاصاً لطيفاً وواعظاً مفوهاً، وهو من خراسان من مدينة طوس، وقدم إلى بغداد، ووعظ بها، وسلك في وعظه مسلكاً منكراً؛ لأنه كان يتعصب لإبليس، ويقول: إنه سيد الموحدين، وقال يوماً على المنبر: من لم يتعلم التوحيد من إبليس فهو زنديق، أمر أن يسجد لغير سيده فأبى...».

(8) سورة ص، الآية: 76.

(9) الكافي 1: 58.

(10) سورة النساء، الآية: 65.

(11) الكافي 1: 390.

(12) سورة آل عمران، الآية: 191.

(13) الكافي 1: 209.

(14) سورة النساء، الآية: 59.

(15) روى الطبري في جامع البيان 5: 202 عن ابن زيد قال: «قال أبي: هم السلاطين!!».

(16) انظر: كشاف القناع 6: 202.

(17) سورة لقمان، الآية: 15.

اضف تعليق