فما أحوجنا اليوم الى التمسك بقيمنا وتقاليدنا المتأصلة، ونبذ العادات والتقاليد الهجينة والمُستهجنة. ونعتقد انه بإمكان المؤسسات التربوية، والتعليمية، والثقافية، ومراكز الدراسات والبحوث المعنية، القيام بهذه المهمة الوطنية، من خلال نشر الوعي المجتمعي والثقافي، وتعزيز منظومة القيم، والابتعاد عن السلوكيات الخاطئة...

تعتبر منظومة القيم الاجتماعية من أبرز المفاهيم السلوكية المعتمدة في دراسة طبيعة المجتمعات المعاصرة، فهي تُعد من أهم الركائز الاجتماعية التي تُبنى عليها المجتمعات، وتقام عليها الأمم، وكذلك من بين أهم الروابط التي تربط بين أفراد المجتمع الواحد. على اعتبار أنها حصيلة من المعتقدات والمبادئ والمعايير التي تتكون لدي الفرد مـن خـلال تفاعله مع محيطه الاجتماعي، بحيث تمكنه من اختيار أهدافه التي تحدد مسار حياته. 

ولهذا تحظى دراسة المفاهيم والقيم الاجتماعية بأهمية كبرى من قبل المراكز البحثية المعنية بالتنشئة الاجتماعية والأخلاقية. وقد تتعرض هذه المنظومة مع مرور الوقت الى جملة من التحولات الاجتماعية، السلبية منها أو الإيجابية، وذلك بفعل عوامل وظروف شتى. وهذا التحول يُوصف في أدبيات علم الاجتماع بالتغيير الذي يقع في بنية من بنيات المجتمع، ويسمح بظهور أنماط حياتية جديدة، مختلفة على ما كان سائد ومألوف، بحيث يكون هذا التغيير متجلي، ويمكن ملاحظته في أي واقع مُعاش.

ومن المتعارف عليه ان لكل مجتمع مجموعة من القيم التي يعتقد بها، وعادةً ما تشير هذه القيم الى المُـثل العليا التي يتبناها هذا المجتمع. وقد تتغير المنظومة القيمية لأي مجتمع، ولكن بشكل تدريجي بحيث لا يشعر بها أفراد المجتمع أنفسهم، وخصوصاً في المجتمعات التي تمتلك الإرث الحضاري والمخزون الثقافي والروحي . ونعتقد ان هذا التوصيف القيمي ليس ببعيد عن حالة المجتمع العراقي، بكل ما يمثله من قيم عليا عـُـرف بها عبر تاريخه الطويل. 

ولكن هذا المجتمع وفي أوقات مختلفة، ولاسيما في زمن الدكتاتورية قد تعرض الى هزات عنيفة، قيمية واجتماعية وثقافية، ناهيك عن الكوارث الاقتصادية والأزمات السياسية أثرت وبشكل مؤذي على البنية الاجتماعية لمفاصل المجتمع، وذلك عندما تحولت تلك الدكتاتورية الى مصنع لتفريخ الأزمات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والنفسية، وكوارث الحروب العبثية، والحصارات، وعسكرة المجتمع، والانقطاع عن العالم الخارجي حضاريا وعلميا وثقافيا. 

وعلى الرغم من حدة هذه الصدمات إلا انها لم تصل الى حد الانهيار القيمي، حيث بقي المجتمع العراقي محافظا على الكثير الثوابت والقيم المجتمعية، وقد حصل هذا بفعل الوازع الروحي والثقافي والاجتماعي، والذي حال دون حصول أي خللٍ كبير للقيم العليا لهذا المجتمع. 

إلا ان بعض الرواسب والأزمات قد انتقلت الى مرحلة ما بعد التغيير، بالرغم من التحول الكبير الذي شهده البلاد سياسياً واقتصاديا، وفي مجال الحريات العامة، بل ان البعض قد أستغل مساحة الحرية المتوفرة، وغياب الوازع الأخلاقي والوطني لديه، وضعف الرقابة لدى مؤسسات الدولة المعنية ليزداد غلوا في ممارسة السلوك المنافي للقيم والأعراف الاجتماعية، ناهيك عن خرقه للقوانين الوضعية. 

ولو أمعنا النظر جيداً بمجمل هذه الأوضاع المتأزمة لوجدنا منبعها واحد، وهو أزمة مفاهيم وقيم اجتماعية خاطئة، تكرست وتفاعلت، ومن ثم تحولت إلى سلوك وممارسة، حتى باتت هذه السلوكيات والممارسات بمثابة أعراف وقوانين، يتعامل معها البعض وكأنها من المُسلمات الاجتماعية والعرفية، وقد أخذت هذه المفاهيم المغلوطة تهيمن على مفاصل الحياة المختلفة، وتلحق الأذى بالجميع . 

وفي خضم هذا الواقع بات من الضروري البحث عن مخارج سليمة نتلافى من خلالها كل العقباء والمعوقات، وبالنتيجة الوصول الى بر الأمان. لذا نحن بأمس الحاجة كمجتمع الى اعادة إنتاج وهيكلة القيم الرفيعة التي حافظنا عليها منذ الأزل، والتي كانت ولا تزال تتناغم مع طموحاتنا، وتعمل على وضع الإنسان في مضامين الحداثة والمعرفة.  

ومن أجل ذلك لابد من إيجاد ثقافة بديلة تحل محل ثقافة العنف والفساد والكراهية، وكل الثقافات المزيفة التي ورثناها، وهذا يتطلب أيضا اعادة انتاج الوعي الاجتماعي من جديد. فما نعانيه اليوم من تدهور لمنظومة القيم الاجتماعية، والثقافية، وحتى السياسية، أنما هي إفرازات لذلك الخلل البنيوي الاجتماعي والقيمي الذي ضرب بقوة مفاصل مهمة من ثوابت المجتمع العراقي. 

لذلك علينا أولاً تشخيص هذه الظواهر السلبية التي طرأت على هذا المجتمع، ومن ثم وضع الحلول الناجعة لتلك الظواهر، فما أحوجنا اليوم الى التمسك بقيمنا وتقاليدنا المتأصلة، ونبذ العادات والتقاليد الهجينة والمُستهجنة. ونعتقد انه بإمكان المؤسسات التربوية، والتعليمية، والثقافية، ومراكز الدراسات والبحوث المعنية، القيام بهذه المهمة الوطنية، من خلال نشر الوعي المجتمعي والثقافي، وتعزيز منظومة القيم، والابتعاد عن السلوكيات الخاطئة.

اضف تعليق