وإذا سار الإنسان على طبق هذه القوانين التي جعلها اللّه سبحانه وتعالى فسوف يعيش عيشة هانئة مرفّهة من غير مشاكل، وأقصى ما يتمكن الإنسان من فعله في اختراعاته أو اكتشافاته هو أن يكتشف تلك القوانين، وأن يطبّق حياته عليها. وهكذا الحال في نظام التشريع، فقد خلق اللّه...

قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: {هُوَ ٱلَّذِيٓ أَرۡسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلۡهُدَىٰ وَدِينِ ٱلۡحَقِّ لِيُظۡهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُشۡرِكُونَ}(1).

لقد خلق اللّه سبحانه وتعالى هذا الكون بالحق، وجعل جميع القوانين التي فيه بالحق، فإذا خالف الإنسان تلك القوانين فهو المتضرر.

لقد جعل اللّه الجاذبية، وجعل النار محرقة، وجعل كثيراً من الأمور الأخرى، فإذا كان شخص لا يعترف بالجاذبية ثم ألقى بنفسه من شاهق فسوف تسحبه الجاذبية ويسقط، وربما يموت، فهذا النظام يجري سواء أعترف به أم لا.

وإذا سار الإنسان على طبق هذه القوانين التي جعلها اللّه سبحانه وتعالى فسوف يعيش عيشة هانئة مرفّهة من غير مشاكل، وأقصى ما يتمكن الإنسان من فعله في اختراعاته أو اكتشافاته هو أن يكتشف تلك القوانين، وأن يطبّق حياته عليها.

فقد صنع الإنسان الطائرة طبقاً لما رآه من طيران الطيور، واكتشف قانون الريح، مع أنه كان موجوداً، قال تعالى: {وَلِسُلَيۡمَٰنَ ٱلرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهۡرٞ وَرَوَاحُهَا شَهۡرٞۖ}(2)، لكن لم يكن الإنسان يعلم بذلك إلى أن قلّد الطيور واخترع هذا الاختراع، وأكثر الاختراعات هكذا، فهي اقتباس من مخلوقات اللّه سبحانه وتعالى. هذا في نظام التكوين.

وهكذا الحال في نظام التشريع، فقد خلق اللّه سبحانه وتعالى الإنسان ضمن تركيبة خاصة، {فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحۡسَنُ ٱلۡخَٰلِقِينَ}(3)، ثم أنزل اللّه سبحانه وتعالى النظام التشريعي لتنظيم أعمال الإنسان، فإذا طبق هذا النظام بحذافيره فسوف تكون حياته سعيدة، وإذا لم يطبّقه فسوف تكون حياته تعيسة، لذا قال تعالى: {وَمَنۡ أَعۡرَضَ عَن ذِكۡرِي فَإِنَّ لَهُۥ مَعِيشَةٗ ضَنكٗا}(4)، وسبب ذلك هو أن الإنسان مركب من جسم وروح، وهذه تركيبة خاصة يناسبها تشريع خاص، واللّه الخالق يعرف تلك الكيفية، فشرّع قوانين تناسبها، ولذا قال اللّه سبحانه وتعالى:

 {هُوَ ٱلَّذِي يُصَوِّرُكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡحَامِ كَيۡفَ يَشَآءُۚ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ * هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ مِنۡهُ ءَايَٰتٞ مُّحۡكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٞۖ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمۡ زَيۡغٞ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَآءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَآءَ تَأۡوِيلِهِۦۖ وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ}(5).

 فهناك ارتباط بين الآيتين، وهو: إن اللّه سبحانه وتعالى هو الذي خلق الإنسان ولذا يعرف تفاصيله، فشرّع قوانين تناسب حالته النفسية والروحية والجسمية، فإذا طبّق الإنسان حياته على تلك القوانين والتزم بها فسوف يكون سعيداً، وإلّا يكون شقياً. هذا في الدنيا قبل الآخرة، قال تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ ٱلۡعِجۡلَ سَيَنَالُهُمۡ غَضَبٞ مِّن رَّبِّهِمۡ وَذِلَّةٞ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۚ}(6).

مشاكل العصر

وهذا ما نجده في الدول المتطّورة صناعياً واقتصادياً، إلّا أنها مليئة بالمشاكل النفسية، حيث ينتشر الآن عندهم مرض الكآبة، وهو وباء العصر، وبسببه تكثر حالات الانتحار، فهناك حالات رهيبة جداً، وكلما كانت تلك الدول أكثر ثراءً تكون حالات الانتحار أكثر، حيث الشعور بالفراغ وعدم معنىً للحياة؛ وذلك لأن السعادة ليست بالمال فقط، فمن الممكن أن يكون الإنسان من أفقر الفقراء لكنه يعيش حياة سعيدة، ومن الممكن أن يكون هناك إنسان من أثرى الأثرياء لكن يعيش حياة تعيسة، لأن السعادة والشقاء أمران معنويان وهما مرتبطان بنفس الإنسان.

وهكذا الحال عندما نلاحظ البلدان الإسلامية، وحتى في المجتمع المتدين، فبسبب ابتعاد الناس عن أحكام اللّه سبحانه وتعالى تكثر المشاكل.

الإسلام نظام متكامل

إن الإسلام نظام متكامل فينبغي الالتزام بجميع ما فيه، وليس المقصود الالتزام بالواجبات والمحرمات فقط، فهي جزء من الشريعة الإسلامية. ففي الإسلام نظام متكامل اجتماعي وأُسري واقتصادي وسياسي، وهكذا في كل شيء من شؤون حياة الإنسان يوجد نظام متكامل.

فإذا كان بعض أفراد المجتمع المتدين يصلّي ويصوم ويلتزم بالواجبات ويترك المحرمات، لكنه حصر الأمر في هذا الجانب وترك الجوانب الأخرى، فسوف يؤدّي ذلك إلى اختلال النظام المتكامل.

مثلاً نرى ظاهرة العنوسة والعزوبة منتشرة؛ وذلك لأن المسألة الأسرية لم تراعَ بصورة صحيحة. إن الإسلام بسّط الزواج وسهله، ولكن الناس يصعبونه، فقد قال الرسول (صلى الله عليه وآله): «إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه {إِلَّا تَفۡعَلُوهُ تَكُن فِتۡنَةٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَفَسَادٞ كَبِيرٞ}(7)»(8)، فالمناط هو دين الرجل وأخلاقه لا أمواله.

إن البعض يصرّ على الأمور الكمالية، وهذا يعني الابتعاد عن النظام الإسلامي، فالإسلام له برنامج لكل شيء، فقبل أن يولد المولود لا بدّ أن يختار الإنسان له الحجر الطاهر، قال النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله): «تخيروا لنطفكم فإن العرق دسّاس»(9)، فالنظام متكامل من قبل أن تنعقد نطفة الطفل إلى أن يوضع الإنسان في قبره.

مثال آخر: لو نظرنا إلى الصلاة ـ مثلاً ـ لوجدنا أنها موزّعة على الأوقات، قال تعالى: {أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمۡسِ إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّيۡلِ وَقُرۡءَانَ ٱلۡفَجۡرِۖ}(10)، فمن دلوك الشمس ـ أي: من الزوال ـ يبدأ وقت الصلاة إلى غسق الليل يعني منتصف الليل، وهناك فترة استراحة من منتصف الليل إلى الظهر من اليوم الثاني، مع تخلّلها بصلاة الصبح الذي هو قرآن الفجر، فمن الزوال إلى غسق الليل لا يخلو هذا الوقت من صلاة واجبة، فالإسلام يريد أن يرتبط الإنسان باللّه؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى يعلم كل خصوصياته، ويعلم ما يصلحه وما يفسده، لأنه هو الذي خلقه: {أَلَا يَعۡلَمُ مَنۡ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ}(11)، فاللّه سبحانه وتعالى لطيف، أي: يعلم الأشياء اللطيفة الدقيقة(12).

سنن اللّه تعالى

سنن اللّه سبحانه وتعالى لا تبديل فيها ولا تغيير، قال تعالى: {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبۡدِيلٗا}(13)، و{فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَبۡدِيلٗاۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَحۡوِيلًا}(14)، و{وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِ ٱللَّهِۚ}(15).

ومن السنن أنه لا يصحّ إلّا الصحيح، فلو كان هناك شيء خلاف سنة اللّه فربما يستمر لفترة بسبب عامل القوة والقسر، لكن في النهاية سوف ينتهي؛ لأنه لا يصحّ إلّا الصحيح.

ولتقريب الفكرة نذكر المثال التالي: إننا نرى الناس لا يقبلون أي شيء جديد ـ من اختراع أو اكتشاف ـ ولكن بالتدريج نرى هذا الاختراع أو الاكتشاف يقبله الكل لماذا؟

والجواب: لأن فيه فائدة، وعندما تكتشف فائدته يقبلونه.

وهكذا الحال بالنسبة للقوانين التي جعلها اللّه سبحانه وتعالى، لأنها تسهّل حياة الناس، والناس يبحثون عن شيء يسهّل حياتهم، فالقانون التكويني يفرض نفسه وكذا القانون التشريعي، وذلك لأنه هو الحق، لذا قال اللّه تعالى: {هُوَ ٱلَّذِيٓ أَرۡسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلۡهُدَىٰ وَدِينِ ٱلۡحَقِّ لِيُظۡهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِۦ}(16)، والإظهار بمعنى الغلبة(17)، واللام في قوله تعالى: {لِيُظۡهِرَهُۥ} هي لام العافية.

والحاصل: إن دين الحق سيتغلّب على جميع الأديان، وهذا أمر غيبي، وفي الوقت نفسه أمر طبيعي، ولأنه حق وصحيح فسوف يفرض نفسه.

نعم، نرى أكثر الناس معرضين عن الإسلام وعن أهل البيت (عليهم السلام)، ولكن سيأتي يوم يفرض هذا الدين نفسه.

والإنسان إذا التزم بالنظام الإسلامي المتكامل في كل شيء فسوف يشعر بالسعادة، والسعادة ليست أمراً مادياً، بل هي أمر معنوي، وكذلك سوف تقلّ المشاكل في حياة الإنسان من كل الجهات، مضافاً إلى ذلك فإن اللّه سبحانه وتعالى يوفّقه للمزيد، هذا في الدنيا وأمّا في الآخرة فله الثواب الجزيل.

الصبر والتحمّل

إذن، علينا أن لا نصغي للباطل، فإن للباطل جولة وللحق دولة، صحيح أن أكثر الإعلام والمال والسلطة بيد أهل الباطل، ومن المعلوم أن من كان بيده السلطة والمال والإعلام فسوف يحدث هذا بهرجة، والإنسان إذا كان ضعيف النفس يتأثر بهذه البهرجة، وغالب الناس هكذا، إلّا أنه ينبغي على الإنسان أن لا يكون من هذا الغالب، فقد خاطب رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) عمار بن ياسر قائلاً: «فإن سلك الناس وادياً وسلك علي وادياً فاسلك وادي علي وخل عن الناس»(18)، ولذا قال عمار يوم صفين: «واللّه، لو ضربونا حتى يبلغوا بنا السعفات من هجر لعلمنا أنا على الحق وأنهم على الباطل»(19).

وفي الحديث الشريف: «إن المؤمن أشد من زبر الحديد، إن الحديد إذا دخل النار لان، وإن المؤمن لو قتل ونشر ثم قتل ونشر لم يتغير قلبه»(20). فالمؤمن لا يتأثر، بل هو أقوى من زبر الحديد؛ لأن الحديد يذوب في الحرارة العالية وينصهر، والمؤمن لا ينصهر.

وقد ورد في الحديث عن علي بن الحسين سيد العابدين‘: «من ثبت على موالاتنا في غيبة قائمنا أعطاه اللّه عزّ وجلّ أجر ألف شهيد من شهداء بدر وأحد»(21).

وقال (عليه السلام) : «من مات على موالاتنا في غيبة قائمنا أعطاه اللّه أجر ألف شهيد مثل شهداء بدر وأحد»(22).

إن اللّه سبحانه وتعالى يمتحن الإنسان فإن ثبت ولم يتزلزل في الشدائد فسوف ينصره اللّه، ولذا فهو بحاجة إلى مزيد من الصبر: {أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تَدۡخُلُواْ ٱلۡجَنَّةَ وَلَمَّا يَأۡتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوۡاْ مِن قَبۡلِكُمۖ مَّسَّتۡهُمُ ٱلۡبَأۡسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ(23) وَزُلۡزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ مَتَىٰ نَصۡرُ ٱللَّهِۗ أَلَآ إِنَّ نَصۡرَ ٱللَّهِ قَرِيبٞ}(24).

* مقتطف من كتاب: الكلمات: محاضرات في العقيدة والسلوك، لمؤلفه السيد جعفر الحسيني الشيرازي

.........................................

 (1) سورة التوبة، الآية: 33؛ سورة الصف، الآية: 9.

(2) سورة سبأ، الآية: 12.

(3) سورة المؤمنون، الآية: 14.

(4) سورة طه، الآية: 124.

(5) سورة آل عمران، الآية: 6-7.

(6) سورة الأعراف، الآية: 152.

(7) سورة الأنفال، الآية: 73.

(8) الكافي 5: 347.

(9) السرائر 2: 559.

(10) سورة الإسراء، الآية: 78.

(11) سورة الملك، الآية: 14.

(12) كلمة اللطيف إذا أطلقت على اللّه سبحانه وتعالى فلها ثلاثة معانٍ: الأوّل: بمعنى أنه لا يُرى. الثاني: بمعنى البرّ، أي: بار بهم. الثالث: العالم بالشيء الدقيق الذي له رقّة، فاللّه سبحانه وتعالى خبير وعليم بكل شيء.

(13) سورة الأحزاب، الآية: 62.

(14) سورة فاطر، الآية: 43.

(15) سورة الأنعام، الآية: 34.

(16) سورة التوبة، الآية: 33.

(17) كما في قوله تعالى: {كَيۡفَ وَإِن يَظۡهَرُواْ عَلَيۡكُمۡ لَا يَرۡقُبُواْ فِيكُمۡ إِلّٗا وَلَا ذِمَّةٗۚ} سورة التوبة، الآية: 8.

(18) الأربعون حديثاً (لمنتجب الدين ابن بابويه): 60.

(19) الكافي 5: 12.

(20) المحاسن 1: 251.

(21) كمال الدين وتمام النعمة: 323.

(22) بحار الأنوار 79: 173.

(23) البأس أمر نفسي، والضراء أمر بدني.

(24) سورة البقرة، الآية: 214.

اضف تعليق