يجب على الإنسان أن يأمل برحمة اللّه، ولا ييأس من روح اللّه، ولكن إذا كان الإنسان يرجو الآخرة من دون عمل فسيكون من مصادق طول الأمل المذموم، الذي يسبب ويلات كثيرة على الإنسان، لكنه إذا كان آملاً متفائلاً ومقروناً بالعمل فهذا هو الشيء المطلوب، وهو الذي يوصل الإنسان إلى مرفأ الأمان. إن كل شيء خلقه اللّه في الإنسان إنّما خُلِق لمصلحته، سواء في نفسه أم جسمه أم في هذا الكون، لكن...
قال اللّه سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {لَّيۡسَ بِأَمَانِيِّكُمۡ وَلَآ أَمَانِيِّ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِۗ مَن يَعۡمَلۡ سُوٓءٗا يُجۡزَ بِهِۦ}(1).
هناك حالتان للناس تجاه القضايا المختلفة، فبعضهم ينظر إلى الأشياء نظرة سلبية، فيرى كل شيء مظلماً أسود، ولا يرى الإيجابيات، وهناك صنف آخر من الناس يرى الجانب المضيء للأشياء مع محاولة علاج السلبيات.
وينبغي أن يكون الإنسان من الصنف الثاني إذا أراد أن يفوز في الدنيا والآخرة، وإذا أراد أن ينجح فعليه أن ينظر للأشياء نظرة إيجابية بعيداً عن السلبية.
روي: «أن عيسى (عليه السلام) مرّ والحواريون على جيفة كلب، فقال الحواريون: ما أنتن ريح هذا الكلب، فقال عيسى (عليه السلام): ما أشد بياض أسنانه!»(2).
لعلّه أراد (عليه السلام) أن يعلّمهم أنكم إن رأيتم شيئاً فلا تفكروا بالجانب السلبي منه فقط، بل فكروا في جانبه الإيجابي أيضاً، فكل إنسان لا يخلو من سلبيات؛ لأن الإنسان الكامل هو المعصوم (عليه السلام)، ومَن عداه لا يخلو من نواقص أو عيوب، فينبغي أن يهتم الإنسان بعيوب نفسه قبل أن يُشغل نفسه بعيوب الآخرين.
لو فكر الإنسان في الجانب الإيجابي فربما لا يصل إلى نتيجة أحياناً، لكنه في بعضها قد يصل إلى النتيجة المطلوبة، وأمّا إذا فكر في الجانب السلبي فدائماً لا يصل إلى النتيجة.
وتحقيق نتيجة جيدة في بعض الموارد خير من أن لا نصل إلى نتيجة إطلاقاً.
ولو كانت هذه الحالة السلبية ـ أي: النظر إلى الجانب السلبي فقط ـ موجودة لما انتشر الإسلام، فقد كان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) ومعه أمير المؤمنين (عليه السلام) وخديجة (عليه السلام) حين بدأ الإسلام، وكانوا محارَبين من أهل مكة، لكنه صبر بأمر من اللّه تعالى، وواصل سعيه واستقام كما قال سبحانه: {فَٱسۡتَقِمۡ كَمَآ أُمِرۡتَ}(3)، لذا فالإسلام الآن أكثر الأديان أتباعاً، وأسرعها انتشاراً على الرغم من محاربة الكثيرين له وبأحدث الوسائل.
لكن ينبغي أن يكون التفاؤل والأمل ضمن حدودهما، لأن كل نعمة إذا تجاوزت حدها انقلبت إلى الضد، فالمطر ـ مثلاً ـ إذا نزل من السماء يُعد نعمة من اللّه، وإذا لم ينزل فتكون نقمة، لكن إذا نزل المطر أكثر من الحد فسوف يصبح سيلاً يهدم البيوت، ويتلف الزرع، ويجلب الويلات للإنسان، أمّا إذا كان ضمن حده فيكون نافعاً.
فيجب أن لا يتجاوز الأمل حده، ولا يتحول إلى حالة من الكسل والتواكل.
فقد ورد في الروايات أنه ينبغي على الإنسان أن يجتنب عن طول الأمل، بمعنى أن يأمل بالشيء من دون أن يعمل للحصول عليه، قال أمير المؤمنين: «لا تكن ممن يرجو الآخرة بغير العمل»(4)، قال اللّه تعالى: {لَّيۡسَ بِأَمَانِيِّكُمۡ وَلَآ أَمَانِيِّ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِۗ مَن يَعۡمَلۡ سُوٓءٗا يُجۡزَ بِهِۦ}(5).
روي أنه: «تفاخر المسلمون وأهل الكتاب، فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم، ونحن أولى باللّه منكم، فقال المسلمون: نبينا خاتم النبيين، وكتابنا يقضي على الكتب، وديننا الإسلام، فنزلت الآية(6)، فقال أهل الكتاب: نحن وأنتم سواء، فأنزل اللّه تعالى الآية التي بعدها: {وَمَن يَعۡمَلۡ مِنَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ مِن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ}(7) ففلح المسلمون...»(8).
فالآخرة لا تُنال بالأماني المجرّدة، بل يجب أن يكون عند الإنسان أمل برحمة اللّه، بشرط أن يكون مقروناً بالعمل.
يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): «إن أخوف ما أخاف عليكم اثنتان: اتباع الهوى وطول الأمل، فأمّا اتباع الهوى فيصد عن الحق، وأمّا طول الأمل فينسي الآخرة»(9).
بعض الناس يرتكب كثيراً من المعاصي آملاً الشفاعة. صحيح أن الشفاعة حق وهي تشمل جميع المؤمنين، لكن الإنسان الذي يعمل السيئات كيف يضمن استمراره على الإيمان؟ فقد كان كثير من الناس مؤمنين ثم ارتدّوا أو انحرفوا؛ قال تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَٰقِبَةَ ٱلَّذِينَ أَسَٰٓـُٔواْ ٱلسُّوٓأَىٰٓ أَن كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ بِهَا يَسۡتَهۡزِءُونَ}(10).
فهناك كثيرون يموتون ويظن الناس أنهم ماتوا مؤمنين، لكنهم قد يكونون كفروا باللّه عند موتهم؛ مثلاً ورد في الحديث الشريف: «من مات ولم يحج حجة الإسلام لم يمنعه من ذلك حاجة تجحف به، أو مرض لا يطيق فيه الحج، أو سلطان يمنعه فليمت يهودياً أو نصرانياً»(11). فتركه الحج كان سبباً في أن يموت كافراً، والشفاعة لا تشمل الكافر، فأية ضمانة لدى هذا الشخص الذي يترك ما أمر به اللّه سبحانه وتعالى؟
ثم إنه إذا مات الإنسان العاصي الموالي فربما لا تشمله الشفاعة في البرزخ، فقد يكون معذباً إلى يوم القيامة.
كما أن اللّه قد لا يأذن بالشفاعة يوم القيامة فوراً، فربما تنال بعض الناس بعد الدخول في النار.
فيجب على الإنسان أن يأمل برحمة اللّه، ولا ييأس من روح اللّه، {إِنَّهُۥ لَا يَاْيَۡٔسُ مِن رَّوۡحِ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡقَوۡمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ}(12)، ولكن إذا كان الإنسان يرجو الآخرة من دون عمل فسيكون من مصادق طول الأمل المذموم، الذي يسبب ويلات كثيرة على الإنسان، لكنه إذا كان آملاً متفائلاً ومقروناً بالعمل فهذا هو الشيء المطلوب، وهو الذي يوصل الإنسان إلى مرفأ الأمان.
إن كل شيء خلقه اللّه في الإنسان إنّما خُلِق لمصلحته، سواء في نفسه أم جسمه أم في هذا الكون، لكن المشكلة تنشأ من الإنسان نفسه، فقد يسيء الاستعمال.
حب الخلود
الإنسان لديه حب البقاء الأبدي، فكل يحب أن يخلد في الدنيا، ويعيش آلاف السنين ولا يموت، وكل إنسان يكره الموت.
وهذا الحب الدائم للحياة لا يختص باليهود الذين ذمهم القرآن بقوله: {وَلَتَجِدَنَّهُمۡ أَحۡرَصَ ٱلنَّاسِ عَلَىٰ حَيَوٰةٖ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشۡرَكُواْۚ يَوَدُّ أَحَدُهُمۡ لَوۡ يُعَمَّرُ أَلۡفَ سَنَةٖ}(13) نعم، اليهود أكثر حرصاً فهم يودون الخلود في الدنيا، وودهم هذا مذموم؛ لأنهم يريدون صرف عمرهم في معصية اللّه.
فكلّ إنسان يحب أن يبقى إلى ما لا نهاية؛ وذلك لأن هذه الغريزة جعلها اللّه سبحانه وتعالى فيه، ونحن قد لا نعلم المصلحة في ذلك، لكن إذا لم نعلم ما هي تلك المصلحة فلا يعني أن هذا أمر خاطئ؛ بل نعلم أنها لمصلحة لأن الذي جعلها هو الخالق الحكيم.
ويمكن أن يقال: إن الإنسان مرّ منذ بدء الخلق بمراحل متعددة، منها: مرحلة عالم الذر، ومرحلة الرحم، ومرحلة الدنيا، ثم بعد ذلك سيمرّ بمرحلة القبر، والبرزخ، والقيامة، ثم الجنة أو النار ونحن لا نعلم الكثير عن هذه المراحل، وليس كل شيء خُلِق في الإنسان يتعلق بتلك المرحلة الخاصة التي يعيشها، بل ربما خُلق لمراحل مستقبلية ستأتي لاحقاً، فالطفل وهو في بطن أمه له عين لكنه لا يرى بها، فهل هذا الخلق لغو؟ صحيح أن الجنين لا يحتاج إلى العين في بطن أمّه، لكنه سيحتاجها في مرحلة الدنيا، لذلك لا يصح أن يتساءل الإنسان لماذا يوجد للجنين عين وأنف وغير ذلك؛ لعدم حاجته لها في بطن أمه؟
ولذا قيل: إن حالة حب الخلود لدى الإنسان لم تخلق لهذه الدنيا، وإنّما خلقت للآخرة؛ لأن الإنسان يكون خالداً فيها، صحيح أنه لا يستفيد الإنسان من غريزة حب البقاء الأبدي في هذه الدنيا، فحينما ينتقل إلى الدار الآخرة فإذا كان من أهل الجنة فيتم إشباع هذه الغريزة في ذلك الوقت.
وهنا يأتي دور استثمار هذه الغريزة لمصلحة الإنسان، بأن يقال له: ما دمت تحب البقاء والخلود، فإن اللّه تعالى قد قدّر ذلك لك في الآخرة وفي النعيم الأبدي بشرط العمل الصالح، وإلّا انقلب الخلود وبالاً عليك بعذاب النار أبداً إن لم تؤمن ولم تعمل صالحاً.
اضف تعليق