q
إسلاميات - عقائد

هل يكون النظام نتيجة التصادفات التدريجية؟

اسئلة حول برهان النظم (5)

ترى عندما نقف على بقايا قصر متهدم تحت اكوام التراب، قد استخدم في بنائه الطين والصخر والاخشاب والحجر ومضى على اندثاره آلاف الأعوام لماذا لا يحق لاحد ـ عقلا ـ أن يدعي بان هذا القصر المندثر قد وجد ـ يوم وجد ـ نتيجة حوادث اتفاقية، وبسبب احداث...
بقلم: الشيخ جعفر الهادي

الاشكال

ان النظام لا يمكن ان يكون وليد التصادف اذا كان عدد التصادف محدوداً ومعدوداً والمواد المتفاعلة قليلة.

وأما اذا كان عدد التصادفات كبيراً جداً جاز أن تكون التصادفات والوقائع الاتفاقية المتلاحقة منشأ لحصول النظام، وتواجد الشيء المنظم، وذلك لان القائل بالتصادف لا يدعي ان النظام السائد في العالم حصل دفعة واحدة حتى يكون ذلك أمراً مستحيلا في نظر العقل، وانما يدعي ان التصادفات غير المتناهية اوجدت في كل مرة جزءاً من النظام، وهكذا تلاحقت هذه الأنظمة الجزئية الى ان تحقق هذا النظام الهائل الكامل.

فاحتمال حصول «خلية منظمة» عن طريق التصادف دفعة واحدة ـ مثلا ـ احتمال يستنكره العقل، ولا يقيم له وزناً، واما اذا كان عدد التصادفات كبيراً فلا مانع من أن يحصل النظام الكامل تدريجاً حينئذ، وذلك بأن تتلاحق جوانب من النظام، وتحدث شيئاً فشيئاً، في الآونة بعد الاخرى، حتى يحصل هذا النظام الهائل الكامل في هذه الصورة يكون احتمال حصول «الخلية المنظمة» عقيب التصادفات الكثيرة، احتمالا مقبولا وغير مستبعد في نظر العقل، وهكذا الحال في سائر الأنظمة الموجودة في الأشياء الأخرى.

الجواب:

ان الاجابة على هذا الاعتراض تكون من وجوه:

أولا: ان الانسان الفاحص في المخلفات الأثرية، وبقايا الحضارات السابقة اذا وقف على قطع اثرية قديمة (كالكيزان الخزفية والأواني المعدنية المنقشة، وغيرها مما دلت على مرور ازمنة طويلة على وجودها في الأطلال وتحت التلال، قد تبلغ مأة الف سنة مثلا) لا ينسب تكون هذه القطع الأثرية الى التصادف، حتى لو كان مادي الاتجاه والتفكير، مع امكان احتمال تكونها من التصادف في تلك المدة الطويلة، بل نجده على العكس من ذلك يستدل بها على وجود صناع مهرة وحضارات وثقافات، وتقاليد خاصة لمن صنعوها، وعاشوا في تلك المنطقة، وعلى غابات لهم من وراء تلك الأشياء المصنوعة بدقة، وظرافة، وجمال.

فلماذا لا يذهب «المادي» الى احتمال تكون هذه الاشياء عقيب تصادفات طويلة وعديدة تلاحقت خلال ازمنة متمادية، خاصة أن كل ما يدخل في صنع هذه القطع الأثرية كالكيزان الخزفية او الآواني المعدنية من عناصر، موجودة بعينها في الطبيعة، وفي تلك التلال او الكهوف؟ ترى عندما نقف على بقايا قصر متهدم تحت اكوام التراب، قد استخدم في بنائه الطين والصخر والاخشاب والحجر ومضى على اندثاره آلاف الأعوام لماذا لا يحق لاحد ـ عقلا ـ أن يدعي بان هذا القصر المندثر قد وجد ـ يوم وجد ـ نتيجة حوادث اتفاقية، وبسبب احداث عديدة وقعت على نحو الصدفة، مثل أن يكون طوفان هائج هو الذي قلع الصخور من الجبال، وقطع الاخشاب من الأشجار، وجلب المياه من البحار، وخلطها بالتراب، ثم انتهى الأمر ـ بعد سلسلة من التفاعلات الاتفاقية المتكررة والتصادفات العديدة جداً إلى قيام ذلك القصر وانتظام تلك الصخور والاحجار والطين على هيئة اسس وجدران، وسقوف وحيطان، وابواب ونوافذ، وسطوح وشرفات؟!

اليس ذلك لان العقل، كلما شاهد آثار الاتساق والانسجام والترابط والتعاون بين مجموعة من الأشياء والأجزاء على نحو يحقق غاية معينة، وهدفا خاصا يأبى أن ينسب ذلك الى التصادف والاتفاق؟

ثانياً: ان كثرة التصادفات، وان كانت تؤدي الى احتمال تكون بعض النظام، الا ان هناك احتمالا آخر وهو أن تصادفاً واحداً من تلك التصادفات يمكن أن تقضي على ذلك النظام البسيط الجزئي الحاصل من التصادفات السابقة.

ولأجل هذا لا يمكن ان ننسب «النظام الكامل» الى التصادفات المتعددة الكثيرة في الأزمنة المتمادية اذ أن كثرة التصادفات كما يمكن أن تؤدي إلى حصول شيء من النظام كذلك يمكن أن يؤدي تصادف واحد إلى انهيار كل ما وجد في السابق.

ولتقريب هذا المعنى الى الذهن نات بالمثال التالي:

لو اننا جمعنا في برميل كبير مأة قطعة من الأجر مرقمة من واحد إلى مأة، ثم خضضنا ذلك البرميل عشرات المئات لتنتظم تلك القطع فوق بعضها بالترتيب العددي عن طريق التصادف فاحتمال أن يتحقق ذلك بفعل التصادفات هو بنسبة واحد الى مأة، وهذا الاحتمال وان كان غير مستبعد الا ان احتمال أن تؤدي هزة أخرى وتصادف اخر الى انهيار ذلك النظام الجزئي، واضمحلاله امر وارد ايضاً، بل هو أقوى بكثير من الاحتمال الأول، ولهذا لا يمكن ان نعول على فكرة التصادفات الكثيرة في حصول النظام الكامل.

وبعبارة أخرى: أن التصادفات العديدة وان كان من المحتمل أن تنتهي الى النظم الجزئي لكنه في الوقت نفسه يحتمل أن يقضي بعض هذه التصادفات علی ما تحقق من النظم الجزئي اثر التصادفات السابقة، فالتصادفات الكثيرة سيف ذو حدين يمكن أن تبني ويمكن أن تهدم. واحتمال الهدم اقوى بكثير من احتمال البناء.

ثالثاً): ان الموجودات الطبيعية والمصنوعات البشرية أمام هذا الاحتمال (اي احتمال نشأتها بالصدفة) سواء فان العناصر الموجودة في المصنوعات البشرية كالساعة مثلا هي عين العناصر التي تتألف منها الموجودات الطبيعية كالجسم الانساني، فلماذا تقوم الطبيعة وبطريقة التصادفات بصنع القسم الثاني دون القسم الأول؟، فكما ان العناصر التي تتكون منها الأشياء الطبيعية موجودة في الطبيعة، كذلك العناصر التي تتألف منها الادوات والآلات الصناعية هي الأخرى موجودة في الطبيعة أيضاً، فلماذا تقوم الطبيعة بصنع الدابة والشجرة بسبب التصادفات ـ حسب زعمهم ـ ولا تقوم بصنع الساعة وما شابهها مع أن مقومات الجميع برمتها موجودة في نفس الطبيعة،؟ وما الفرق ـ تری ـ بين هذين الصنفين من الكائنات.

أليس لو صح امكان حصول الساعة وما شاكلها بسبب الصدفة وجب أن نجد في غابات الامازون او في صحاري الجزيرة العربية التي قلما يتفق ان يمر بها انسان، انواعاً عديدة من الساعات وغيرها من المصنوعات البشرية؟

ان العجيب هو أن الذين ينسبون تكون النظام السائد في الكون الى التصادف لا يقبلون ان يتفوه احد بان قطع الساعة المصنوعة انضم بعضها إلى بعض على هيئة ساعة ـ بعد أن كانت مفككة ـ وذلك بسبب التصادف فضلا عن حصول نفس ادواتها بهذا الطريق مع ان الأول (وهو انضمام القطع المصنوعة المفككة إلى بعضها) اقرب الى التحقق عن طريق الصدفة، من الثاني (وهو نشأة اصل القطع بالصدفة)!

كما أن من العجيب ايضاً ان يعد الناس ما يقوم به الانسان ـ في ضوء علومه وتحقيقاته ـ بصنع بعض الفيتامينات والهورمونات بالوسائل العلمية الدقيقة بحيث لا تتفاوت ولا تختلف ـ من حيث الكيفية والفوائد والاثار ـ عن نوعها الطبيعي، دليلا على نبوغ البشر وقوة فكره، مع أن نماذجها الأصلية موجودة في الطبيعة، مثلا بمثل، فلماذا لا يعدها هؤلاء دليلا على شعور صانعها وموجدها، وقصده؟

ان النظم السائد على الكائن الطبيعي مثل البروتين اعظم، واكثر تعقيداً من النظام السائد في جهاز الساعة، فهي تحتوي على نسب دقيقة في عناصرها، بحيث لو اختلت لاستحال وجود البروتين، فكيف يذعن هؤلاء بضحالة الشعور والقصد في تكون الساعة ونشأة غيرها من الآلات والمصنوعات البشرية، وينكرون ذلك في نشأة ما هو اعقد منها كالبروتين؟

* مقتبس من كتاب الله خالق الكون

اضف تعليق