توفر الحياة انما هو نتيجة اجتماع شروط تكون بمثابة اجزاء العلة لوجود ظاهرة الحياة، أي أن حدوث ظاهرة الحياة يستحيل بانعدام جميعها أو بعضها. وهذه الشروط من الكثرة لدرجة أن احتمال اجتماعها بالترتيب والنسق الذي يؤدي الى استقرار ظاهرة الحياة بمحض الصدفة يصل الى واحد على ملیارد من الاحتمالات...
بقلم: الشيخ جعفر الهادي-مقتبس من كتاب الله خالق الكون
لم يكن برهان النظام الذي قلنا بأنه يتمشى مع جميع العصور، ويناسب جميع العقول والمستويات، لينحصر تقريره بالشكل الذي مرّ علينا فهناك صور أخرى لتقرير هذا البرهان نكتفي بذكر وبیان صورتين منها فقط، وهاتان الصورتان هما:
١ ـ حساب الاحتمالات في نشأة الحياة.
2 ـ اثبات قانون الضبط والتوازن في الكون.
اليك فيما يلي:
حساب الاحتمالات
ان توفر الحياة فوق الارض انما هو نتيجة اجتماع شروط عديدة تكون بمثابة اجزاء العلة لوجود ظاهرة الحياة، أي أن حدوث ظاهرة الحياة يستحيل بانعدام جميعها أو بعضها.
وهذه الشروط من الكثرة لدرجة أن احتمال اجتماعها بالترتيب والنسق الذي يؤدي الى استقرار ظاهرة الحياة بمحض الصدفة يصل الى واحد على ملیارد من الاحتمالات، وهو احتمال لا يذهب اليه أي عاقل في تفسير ظاهرة الحياة المعقدة الراهنة.
ولمزيد من التوضيح لابد أن نلقي نظرة إلى بعض هذه الشرائط الطبيعية التي جعلت الحياة ممكنة بصورتها الحالية، هذه الشرائط التي بانتفاء واحد منها تستحيل الحياة في أرضنا هذه فضلا عن انتفاء جميعها.
نماذج من شرائط استقرار الحياة
ان الشرائط والعناصر التي ادى اجتماعها بكيفية خاصة إلى نشوء ظاهرة الحياة واستقرارها، لا يمكن أن تحصى نظراً لكثرتها فهناك مئات الالاف بل آلاف الالاف من الشرائط الطبيعية الظاهرة، والخفية التي لولاها لما امكن أن تنشأ الحياة، منها ما يرتبط بالفلك، ومنها ما يرتبط بالهواء والمحيط والغازات ومنها ما يرتبط بالأرض وما فيها من نبات وحيوان وجماد، وما سنذكره هنا ليس سوى نماذج منها تقودنا إلى ما يقف وراء هذه الحياة من عوامل وأسباب وشرائط واليك ذلك:
1 ـ يحيط بالارض التي تعيش على متنها غلاف سميك من الغازات يسمى بالغلاف الجوي يبلغ سمكه (800 كیلومتراً) وهو بمثابة مظلّة واقية تصون الكرة الأرضية من التعرض لخطر النيازك التي ينفصل منها يومياً من الكواكب ويتناثر في الفضاء ما يقرب من عشرين مليونا.
فلو كان الغلاف الجوي هذا ألطف وأرق مما هو عليه الان لاخترقت تلك النيازك غلاف الأرض الخارجي وسقطت على كل بقعة من الأرض وأحرقتها، هذه النيازك تواصل رحلتها بسرعة (أربعين میلا) في الثانية، ونتيجة لهذه السرعة العظيمة فإنها ستحرق كل شيء يمكن احراقه على الأرض.
هذا إلى جانب أن هذا الغلاف الغازي يقوم بدور حيوي وهام جدا وهو تنظيم مقدار الحرارة الواصلة من الشمس إلى الأرض، بصورة تناسب الحياة عليها.
فماذا كان يحدث لو أن سمك هذا الغلاف اختلف عما هو عليه، هل كان من الممكن أن تصل الحرارة بالمقدار المناسب للحياة إلى أرضنا هذه؟
2 ـ يعتبر الماء من عوامل الحياة الجوهرية على وجه الأرض، وفي البحار، ولأجل هذا ولأجل أن يمكن استمرار الحياة في المحيطات والبحار والانهار أثناء الشتاء فان الماء خلق بحيث يتجمد عند بلوغ درجة الحرارة ما يقرب الصفر، فتكون بمثابة المظلّة الواقية التي تحفظ الأحياء في البحار من شدة البرد، اذ يهيئ ـ حينئذ ـ جواً دافئاً داخل الماء، فالثلج يقوم ـ حينئذ ـ بدور الحاجب للماء الذي تحته كيما تبقى حرارته دون درجة التجمد فتبقى الأسماك والحيوانات المائية على قيد الحياة، والّا لانجمد الماء واستحالت الحياة.
ثم اننا نلاحظ شيئاً آخر في هذا السياق وهو خفة وزن الثلج عن الماء، فان الماء تقل كثافته بعد التجمد فيخف وزنه، ولهذا الأمر قيمة عظيمة بالنسبة الى الحياة اذ يترتب على هذه الخاصة أن يطفو الثلج على سطح الماء ولا ينزل إلى القعر. فماذا كان يحدث لو كان الثلج أثقل من الماء، هل كانت تبقى الأسماك والحيتان حينذاك؟
3 ـ يعدّ التراب هو الاخر من عوامل الحياة تماماً كالماء وهو يحتوي على مواد كیمیاوية ضرورية للنباتات فهي تغتذي بها وتحولها إلى ثمار يتناولها الإنسان، وأغذية مناسبة للحيوانات كما وإن التراب يحتوي على خامات معدنية هي السبب في ظهور الحضارات العظيمة، وأبرزها الحضارة الصناعية الراهنة.
فلو اختفى بعض هذه المواد الكيمياوية من التراب هل كان من الممكن أن تحصل على الكثير من النباتات والثمار اللازمة لنمو الجسم البشري وتقويته، ولاستمرار حياة الحيوانات؟
4 ـ هناك امور ترتبط بالأرض من حيث بعدها عن الشمس، ومن حيث دورتها حول نفسها والشمس في نفس الوقت تعتبر ضرورية وهامة بالنسبة الى الحياة فوق الأرض.
فالأرض تبعد عن الشمس بمسافة (۹3 مليون ميلا) ولذلك فان الحرارة التي تصل اليها من الشمس تكون بمقدار يلائم الحياة، ويتناسب مع متطلباتها.
فلو زادت المسافة بين الشمس والأرض على المقدار الحالي الى الضعف مثلا لنقصت كمية الحرارة التي تتلقاها من الشمس، وقطعت دورتها حول الشمس في زمن أطول، وتضاعفت على أثر ذلك مدة فصل الشتاء، وطولها، وتجمدت الاحياء على سطح الأرض.
ولو نقصت هذه المسافة الى النصف لبلغت الحرارة التي تتلقاها الأرض الضعف وتضاعفت سرعة دورانها حول الشمس ولالت الفصول الى نصف طولها الحالي (1) ولصارت الحياة على سطح الأرض غير ممكنة.
وهكذا لو أن الأرض كانت بحيث لا تدور حول نفسها، أي كان جانب واحد منها مواجه للشمس دائماً لحرم الوجه الاخر عن حرارة الشمس بل وعاد زمهریراً لا يطاق، فلابد من دورة الأرض حول نفسها لتتعرض كل أجزائها للشمس، وتتمتع بحرارتها على قدم المساواة.
على أن دورة الأرض حول نفسها يجب أن تكون بنفس السرعة التي هي عليها الأن ـ لا أكثر ولا أقل ـ حتى تتلائم مع حياة الانسان وغيره من الأحياء وحاجتها الى الليل والنهار.
٥ ـ ان الهواء الذي يحيط بنا مكوّن من الأوكسجين والنتروجين ويوجد الأول في الهواء بنسبة (21%) عادة في حين يوجد الثاني بنسبة (78%) تقريباً ويعد الأوكسجين نسمة الحياة لكل الحيوانات التي تعيش فوق الارض، وهذه النسبة للاوكسجين هي النسبة الضرورية المعقولة المناسبة للحياة فلو كان الاوكسجين بنسبة (50%) مثلا أو أكثر من الهواء بدلا من (21%) فان جميع المواد القابلة للاحتراق في العالم كانت عرضة للاشتعال لدرجة أن أول شرارة من البرق تصيب شجرة تكفي أن تلهب الغابة وتفجرها بأجمعها.
ولو أن نسبة الاوكسجين في الهواء قد هبطت الى (10%) أو أقل، فان الحياة ربما طابقت نفسها على هذه الحالة في خلال الدهور، ولكن لم يكن يتوفر للانسان الكثير من المواد اللازمة لحضارته النار اذ لولا الاوكسجين لما وجدت النار لافتقار الحرارة إلى الاوكسجين. واذا امتصت النار الأوكسجين فان كل حياة حيوانية تتوقف على الفور.
اذن فكمية الأوكسجين الفعلية مطابقة تماماً لحياتنا، ومناسبة لاحتياجاتنا.
6 ـ بالنسبة الى حجم الأرض لو كان أصغر مما هو عليه الان لضعفت جاذبيتها ولافلت الهواء من جوها وتبعثر في الفضاء، ولتبخر الماء، وأصبحت الكرة الأرضية جرداء لا ماء فيها ولا هواء ولا انسان ولا حيوان.
ولو كان حجمها أكبر من الحجم الفعلي لها لازدادت قوة جذبها، فأصبحت الحركة على متنها أكثر عسراً ولازداد وزن كل واحد منا أضعافاً، وأصبح جسده حملا ثقيلا يتعذر رفعه ونقله وحمله(2).
هذه هي بعض الشرائط اللازمة لتوفر الحياة بشكلها الفعلي، وهي قليل من كثير لا يحصى، فهل من المعقول أن تحدث كل هذه الامور وتجتمع كل هذه العوامل والشرائط بهذه النسب والمقاييس الضرورية بمحض المصادفة؟ أم لا بد من وجود عقل جبار خبير هو الذي جمع هذه الشرائط مع هذه النسب وهذا الترتيب المؤدي إلى حدوث ظاهرة الحياة، وهو الذي اختار من بين جميع الصور والاشكال التي كان يمكن أن تقع هذه الصورة من التأليف والنظم الملائم للحياة.
ان احتمال اجتماع هذه الشرائط الجمة بمثل هذه النسب ومثل هذا الترتيب اللازم لحصول وتحقق ظاهرة الحياة واستقرارها على وجه الأرض عن طريق الصدفة من الضعف والبعد بحيث لا يتصوره عاقل ولا يحتملة العادي فضلا عن المفكر اللبيب، ولهذا ذهب العلماء إلى استحالة هذا الاحتمال.
قال عالم الاعضاء «مارلین. ب. كریدر):
«ان الامكان الرياضي في توفر العلل اللازمة للخلق ـ عن طريق الصدفة ـ في نسبها الصحيحة هو ما يقرب من لا شيء» (3).
ولا يمكن التمثيل لإبطال الصدفة واثبات استحالة أن تجتمع كل هذه العوامل والشرائط مع مقايیسها ونسبها بمحض الصدفة إلا الاستشهاد بما ذكره بعض العلماء من الأمثلة بلسان الرياضيات.
أمثلة رياضية لامتناع الاجتماع الصدفي للشرائط:
هناك أمثلة رياضية عديدة تثبت استحالة اجتماع شرائط عديدة مركبة بنسب متفاوتة بطريق التصادف نكتفي بادراج بعضها هنا:
1 ـ لو تناولت عشرة دراهم، وكتبت عليها الأعداد من (1) الى (1۰) ثم رميتها في جيبك وخلطتها جيدا، ثم حاولت أن تخرجها من الواحد الى العشرة بالترتيب العددي بحيث تلقي كل درهم في جيبك بعد تناوله مرة أخرى فإمكان أن تتناول الدرهم المكتوب عليه رقم (1) في المحاولة الاولى هو واحد بالعشرة (أي يمكن أن يخرج بدل الرقم 1، الرقم 2 أو 3 أو 4 أو 5 الى آخر ذلك فخروج الرقم 1 هو احتمال واحد من عشرة احتمالات) وامكان أن تخرج الدرهمین (1 و 2) بالترتیب هو واحد في المئة، وامكان أن تخرج الدراهم (1 ثم 2 ثم 3) بالترتيب هو بنسبة واحد الى ألف وفرصة أن تخرج (1 ثم 2 ثم 3 ثم 4) بالتوالي هي بنسبة واحد في عشرة آلاف وهكذا حتى ان الامكان في أن تنجح في تناول الدراهم من (1 الى 10) بالترتیب هو واحد في عشرة ملايين. (4)
هذا اذا كان عدد الدراهم من (1 الی 10) فكيف اذا كان عدد الدراهم 1000 مثلا أو مئات الالاف فماذا ستكون نسبة الاحتمال حينئذ.
2 ـ لنفترض أن معك كيساً يحوي مأة قطعة رخام تسع وتسعون منها سوداء وواحد بيضاء والان هز الكيس وخذ منه واحدة، أن فرصة سحب القطعة البيضاء هي بنسبة واحد الى مأة (لانه يمكن أن تخرج البيضاء أولاً أو ثانياً أو ثالثاً وهكذا الى مأة احتمال) والان أعد قطع الرخام الى الكيس وابدأ من جديد، أن فرصة سحب القطعة البيضاء لا تزال بنسبة واحد إلى مأة غير أن فرصة سحب القطعة البيضاء مرتين متواليتين هي بنسبة واحد إلى عشرة آلاف، المأة مضاعفة (أي مضروبة في نفسها) مرة.
والان جرب مرة ثالثة، أن فرصة سحب تلك القطعة البيضاء ثلاث مرات أي بنسبة واحد من مليون، (أي بنسبة مأة مرة عشرة آلاف) ثم جرب مرة أخرى أو مرتين تصبح الأرقام فلكية (5).
٣ ـ لو أن أعمى جلس وراء آلة كاتبة ذات 100 حرف وضرب بعشوائية على تلك الالة ليحصل على بيت شعري ذات 46 حرفاً هو:
ومهما تكن عند امرئ من خليقة
وإن خالها تخفى على الناس تعلم
فانا نحتمل أن تقع يده على الحرف الأول عند أول ضربة ثم الحرف الثاني ثم الحرف الثالث على الترتيب ولكن هذا واحد من ملايين الملايين من الاحتمالات الممكن وقوعها بالنظر إلى عدد أحرف البيت مضروبة في عدد أحرف الطابعة وما يحصل من ذلك من رقم كبير نتيجة التقديم والتأخير بين أحرف البيت لدى طبعها حتى ليكاد يبلغ الاحتمال الأول (أي طبع البيت الشعري صحيحا عند طريق الصدفة) الصفر.
هذا بالنسبة الى بيت شعري واحد ذي 46 حرفاً فكيف اذا كانت هناك قصيدة طويلة فكم ستكون النسبة حينئذ؟
ثم هذا بالنسبة الى قصيدة فكيف بالكون والحياة الناشئ من اجتماع ملايين الملايين من الشرائط والعوامل بنسب معينة في غاية الاتقان والدقة. الا يبلغ الاحتمال حينئذ الصفر الرياضي كما قالوا؟
هذا ولقد فطن العلماء إلى هذه المحاسبة فدفعتهم ذلك إلى أن يعتبروا هذه المحاسبة دليلا على بطلان الصدفة وبالتالي استحالة اجتماع شرائط الحياة عن طريق الصدفة، واسناد ذلك الى ارادة وفعل خالق عليم.
ولهذا قال «العلامة كریسي موریسن» بعد ذكر بعض الأمثلة السالفة:
«ان حجم الكرة الارضية وبعدها عن الشمس ودرجة الحرارة في الشمس وأشعتها الباعثة للحياة وسمك قشرة الارض وكمية الماء ومقدار ثاني اوكسید الكاربون، وحجم النتروجين، وظهور الانسان وبقاءه على قيد الحياة كل اولاء تدل على خروج النظام من الفوضى (أي انها نظام لا فوضى) وعلى التصميم والقصد كما تدل على أنه ـ طبقا للقوانين الحسابية الصارمة ـ ما كان يمكن حدوث كل ذلك مصادفة في وقت واحد على كوكب واحد مرة في بليون مرة. كان يمكن أن يحدث هكذا، ولكن لم يحدث هذا بالتأكيد».
اشكال وجواب:
قد يقال: صحيح ان اجتماع كل هذه الشرائط اللازمة لتوفر الحياة على ما هي عليه الان من التوافق والتناسق لا يمكن بمحض الصدفة.
ولكن هذا يختص بصورة اجتماعها بصورة دفعية فجائية لا ما اذا حصل هذا الاجتماع بصورة تدريجية اثر الانفجارات المتلاحقة عبر الدهور والقرون فان ذلك ممكن ولا يبطله برهان المحاسبة.
ويجاب على هذا الاشكال بأن النظرية التي تحدد عمر منظومتنا الشمسية بشمسها وأقمارها ومن جملتها الأرض تدحض هذا الزعم وترده، وتحيل هذا التصور، اذ أن عمر الأرض أقصر من المدة التي يحتاج اليها اجتماع تلك الشرائط الكثيرة مع نسبها الملحوظة بصورة تدريجية اتفاقية، والتي تحتاج الى زمن غير متناه في الطول في حين أن أطول تقدير لعمر الأرض هو ثلاثة مليارات من السنوات فكيف نستطيع أن نضمن اجتماع بلايين الشرائط وبصورة تصادفية تدريجية في مثل هذا الوقت القصير.
وخلاصة القول حول هذه الصورة من برهان النظام (اي برهان حساب الاحتمالات وابطال الصدفة رياضيا) هو ان اجتماع شرط او شرطين على وجه الصدفة امر ممكن وجائز، وللعقل أن يحتمله، ولكن اجتماع هذا الحشد الهائل من الشرائط على الترتيب المؤدي الى ظهور ونشوء الحياة في شكلها المناسب من غير أن يتقدم شرط او يتأخر وذلك على نحو الصدفة أمر لا يقبله العقل مطلقاً.
وبتعبير آخر هذا ان الكون عند انفجار المادة كان من الممكن ان يتجلى في ملايين الصور الأخرى بحيث لا يصلح منها للحياة غير صورة واحدة فكيف حدثت هذه الصورة بالذات من دون بقية الصورة والحال أنها كانت متساوية في احتمال التحقق مع بقية الصور؟
اليس ذلك يدل على وجود قوة عليا هادفة هي التي اختارت هذه الصورة دون سواها وهذا الشكل والترتيب دون غيره من التراتيب والاشكال؟
ان العقل لا يمكن ان يصدق مطلقا بان وقوع هذه الصورة دون غيرها كان بمحض الصدفة ودون قصد، اذ العقل لا يمكن أن يصدق ذلك في ما هو أصغر من الكون وذلك كمعجون علاجي مؤلف ومركب من عدة عقاقير وعناصر بنسب مختلفة يحصل الشفاء به اذا كان علی تركیب معین ونسب معينة بحيث لو اختل هذا التركيب وزادت النسب او نقصت تحول ذلك المعجون الطبي الى سم قاتل.
فان العقل يرفض أن يكون مثل هذا المعجون الشافي قد حدث بفعل انسان جاهل بشؤون الصيدلة والطب، تناولت يده بصورة عفوية وعشوائية العناصر المختلفة والفت مثل هذا الدواء، فصار ذلك المعجون الشافي، والدواء الناجع.
واذا كان العقل يرفض مثل هذا في نظام دوائي بسيط فكيف يصدقه ويقبله في نظام كوني عظيم وعریض، مبني على محاسبات دقيقة وخطيرة، ويتكون من عناصر بالملايين ونسب في غاية الدقة؟؟
وسيوافيك تفصيل هذا السؤال والجواب عنه عند البحث في الأسئلة المتوجهة الى برهان النظم فلاحظ السؤال.
يبقى أن نعرف أن اليقين في مثل هذه المسائل لا يعني انتفاء أي احتمال مخالف، بالمرة، بل يعني أن الاحتمال المخالف من الضعف والضئالة بحيث لا یركن اليه أي عاقل سليم التفكير.
ومثل هذا الاحتمال الضعيف جداً يساوي في جميع العلوم (الصفر الرياضي) الذي لا يذهب اليه أحد، ولو ذهب لم يعد سوي العقل سالم التفكير.
فاحتمال أن يكون كتاب (الشفاء) لابن سينا أو (تاریخ الطبري)، أو (بحار الانوار) للمجلسي من فعل اشخاص غیر عارفين بالفلسفة والتاريخ والحديث، أو نتيجة جرة لاهية عابثة لأقلامهم وان كان مطروحاً، الا ان نسبة صحته هي بنسبة واحد على واحد في مقابله اصفار كثيرة تمتد إلى القمر، وهو لا شك احتمال لا يذهب اليه الا معتوه، فاقد الرشد، عديم الصواب.
وان اردت المزيد من التوضيح لهذه المسألة فنقول: أن اليقين المتعلق بالنسبة الموجودة في قضية على نوعين:
الأول: أن يتعلق اليقين بأحد طرفي القضية بحيث يجعل الطرف المخالف ممتنعاً ذاتياً، وذلك في ما إذا كان أحد الطرفين ممكن الوقوع، والآخر ممتنع الوقوع. وذلك كما اذا قلنا: يمتنع اجتماع النقيضين أو ارتفاعها، أو يمتنع الدور والتسلسل، فان اليقين تعلق بالامتناع نافياً امكان جواز الاجتماع، أو جواز تحقق الدور والتسلسل، ففي هذه الموارد يتعلق اليقين بأحد الطرفين، وبحكم العقل في هذا المقام على نحو القطع والبت، ولا يحتمل خلافه حتى اذا كان احتمالا ضعيفاً غاية الضعف، احتمال الواحد من مليارد.
الثاني: أن يتعلق اليقين بأحد طرفي القضية ولكنه لا يجعل الطرف المخالف ممتنعاً بالذات كما في الأمثلة المتقدمة، بل لو ترك الانسان ونفسه ليغور في اعماق ذهنه ربما عدّ خلافه ممكناً، ولكنه احتمال ضعيف غاية الضعف، لا يتوجه اليه الانسان العادي أبداً، ولا يزاحم يقينه أصلا، وذلك نظير ما يقول العلماء في حق الخبر المتواتر، فقد عرفوه بانه اخبار جماعة عن شيء يمتنع عادة تواطؤهم على الكذب.
فلو اخبرنا مأة شخص متفرقين من حيث الشخص والشخصية قاطنين في نقاط مختلفة من البلد غير مرتبط بعضهم ببعض، بموت زید مثلا، فان الانسان يتيقن بتلك القضية، وبعد تواطؤهم على الكذب محالا عادياً، وبما أن تواطؤهم على الكذب ليس محالا ذاتياً بل هو محال عادي، لا ينتفي الاحتمال المخالف بتاتاً بل يبقى في اعماق الذهن بصورة الأمر المحتمل، ولكن تحقق هذا الاحتمال لما كان ضعيفاً غاية الضعف لا تقبله النفس أبداً، يعد كالمعدوم ولا يزاحم اليقين.
ولو ان امثال هذا الاحتمال كان مزاحماً لليقين لما حصل للانسان أي يقين في كثير من الحالات حتى في أوضح الواضحات. فلو رأى الانسان أباه أو أخاه في السوق والشارع أذعن بانه أبوه أو اخوه اذعاناً قطعياً يقينياً، ومع ذلك كله يحتمل أن يكون تحت السماء وعلى أديم الارض انسان في صورة والده في جميع خصوصیاته، وان يكون الذي شاهده هو شبيه والده لا والده حقيقة، فان هذا الاحتمال ليس أمراً منفياً بالذات والاصالة ولكنه مع ذلك كله لا يزاحم يقين الانسان واذعانه ولا يرتب عليه أثراً.
وهناك أمثلة أخرى تلقي الضوء على المسألة، منها لو ان كل من قام من نومه ورأى الجو مشرقا أذعن بان الشمس طلعت، وان الاشراق هو أثر الشمس ومع ذلك هناك في المقام احتمال ليس منفیاً بالذات والاصالة، وهو أن يكون ضوء الجو ناشئاً من قنابل مضيئة انفجرت في الجو، فاضاءت ما حولها.
وهذا الاحتمال ليس ممتنعا بالذات بل هو أمر محتمل ومع ذلك لا يضر بيقين أي انسان واذعانه، وما ذاك الا لأجل ان الاحتمال لغاية ضعفه يتراءى في نظر الانسان كالمعدوم.
وبذلك يعلم أن اليقين ذو مراتب، ففي مرتبة يحصل اليقين بشيء، ويذعن الانسان بقضية ما مع كون الطرف المخالف أمراً ممتنعاً بالذات.
وفي مرتبة أخرى يحصل اليقين بأمر مع ان طرفه المخالف ليس أمراً منتفياً وممتنعاً بالذات بل هو أمر محتمل لا يضر لاجل ضعفه باليقين.
وقس على ذلك مورد البحث.
اشارات القرآن الى هذا الدليل:
هذا وفي الكتاب العزيز ما يمكن أن يكون اشارة الى هذا النحو من الاستدلال، ومن ذلك قوله تعالی:
﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّـهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾. (البقرة ـ 164)
وقوله تعالى: ﴿اللَّـهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۖ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ﴾ (الرعد ـ 2)
قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا ۖ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ۖ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الرعد ـ 3)
اضف تعليق