هذه الروايات تؤكد بأن هنالك بعداً طبيعياً في حركة الإمام (عليه السلام) فلابد أن يكون هنالك عددٌ كافٍ من الرجال ويجب أن يكونوا في درجة رفيعة وراقية جدا من التقوى والإيمان والإخلاص والإطاعة، فهل وُجد هذا العدد الذي يتمكن من أن ينهض بهذه المهمة...
هذه هي حلقة أخرى نتناول فيها ظاهرة غيبة الإمام الحجة عجل الله تعالى فرجه، وتتضمن الإجابة الخامسة التي يشير إليها الشيخ المفيد (رحمة الله تعالى عليه) في كتاب (رسائل في الغيبة في المجلد الثالث ص11)، وتأتي هذه الإجابة قريبة من الإجابة الرابعة حيث يمكن أن تكون تفسيراً لاستمرار ظاهرة الغيبة وليس لأصل حصول هذه الظاهرة، وهي انتظار تمام العدة.
ربما لا تكون الصفات التي يجب توفرها في هذيــــن النوعين متطابقـــــة، فقد يوجد هنالك نوع من الاختلاف، ويشير لنا القرآن الكريم فيما يبدو إلى بعض صفات هذين النوعين، مثلاً يبيّن الله إنَّ الحركة الإصلاحية التي تهدف إلى تغيير الواقع القائم تحتاج إلى رجال على نوعين ولابد أن تتوفر لكل منهما صفات معينة وهما: النوع الأول: رجال مرحلة التكوين، والنوع الثاني: رجال مرحلة البناء.[1]
النوع الأول: رجال مرحلة التكوين
يستفاد من قضية طالوت وجالوت: إن الرجال الذين يهدفون إلى التكوين من خلال هدم الواقع القائم وبناء واقع جديد على أنقاضه، يجب أن تتوفر فيهم صفة نكران الذات وتجاوزها، فهناك الفرد الذي لا يستطيع أن يتجاوز ذاته ولا يتمكن أن يضحي ببعض شهواته ومثله لا يمكن أن يكون من رجال هذه المرحلة.
لقد أجرى طالوت اختباراً، فجيشه يريد أن يحارب العمالقة وهم قوة كبيرة، فمن يتمكن من أن يحارب هؤلاء العمالقة، إن محاربتهم تحتاج إلى صفات نفسية معينة وهي أهم شيء ينبغي أن يتصف به رجال المرحلة الأولى، ولذلك أجرى قائد الجيش طالوت اختباراً لرجاله وقال لهم: يا من تريدون دخول ميدان المعركة، إن أمامكم امتحاناً صغيراً - وكان جيشه عطشاناً - فقال لجيشه: (إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ)(2) أي غرفة واحدة فقط، لكن حين يأتي الجيش وقد بلغ به العطش أشده ويرى الماء أمامه فماذا يفعل؟ لقد دخل الجيش النهر وارتوى من الماء ارتواءً تاماً.
لذلك فإن من لا يتمكن أن يتجاوز حالة العطش، هل يتمكن أن يتجاوز حبه للحياة ويضحي بحياته؟ إنَّ هذه القضية واضحة، فقط جماعة قليلة من الجيش اغترفوا غرفة واحدة بأيديهم عندما عبروا النهر، وإذا بأكثرية الجيش تقول: (لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ)(3).
فمن يفشل في الامتحان الصغير قطعاً سيفشل في الامتحان الكبير، ومن يفشل في امتحان الدينار قطعاً سيفشل في امتحان القنطار، إذن تحتاج المرحلة الأولى، وهي مرحلة هدم الواقع القائم لبناء واقع جديد على أنقاضه، إلى رجال معينين وإلى صفات نفسية معينة.
النوع الثاني: رجال مرحلة البناء
نأتي إلى المرحلة الثانية وهي مرحلة البناء والإدارة، إن البيت له مرحلة هدم وله مرحلة بناء، ويحتاج رجال هذه المرحلة أيضا إلى صفات معينة، ربما تلتقي مع صفات رجال المرحلة الأولى ولكن ربما يحتاج رجال هذه المرحلة إلى صفات أخرى إضافية، فليس كل من يخوض في الميدان يتمكن من إدارة الحكم والمجتمع لأن هذا الأمر يحتاج إلى صفات أخرى.
يقول الله تعالى في القرآن الكريم: (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ) ربما تعني الآية الكريمة، اجعلني وزيراً للمالية (إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ)(4) ولعلّ المقصود بحفيظ هو الأمانة، فمن تكون جميع الأموال تحت يده، يجب أن يكون على درجة عالية من الأمانة والحفظ، وإلاّ فالأموال تغري الإنسان.
يُنقل عن السيد البروجردي(5) (رحمة الله تعالى عليه) أنه كان يقول: (إن الأموال لا تغريني والمال ليس قضية مهمة لدي)، ولذلك عاش السيد زاهداً إلى آخر حياته، لأن المال لا يمكن أن يؤثر على صفته الأُخرى، (إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) فيجب أن تكون لوزير المالية الخبرة والمعرفة في هذا المجال.
حركة غيبية أم حركة طبيعية؟
هل إنَّ حركة الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) تستند إلى الإمداد الغيبي؟ أم هي حركة تعتمد على منطق المعادلات الطبيعية، بمعنى أنها حركة غيبية أم حركة طبيعية؟
إن الإجابة عن ذلك وحسب ما جاء في الروايات المتعلقة بهذا المجال: إنَّ هذه الحركة تشبه حركة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)، فهي حركةٌ (طبيعيةٌ - غيبيةٌ) في آن واحد، صحيح أنَّ النبي الأعظم كان يعتمد ويستند إلى الإمداد الغيبي، لكن حركته كانت تعتمد على منطق المعادلات الطبيعية أيضا.
نذكر هنا روايتين تدلان على وجود البعدين الطبيعي والغيبي في حركة الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه)، فالرواية الأولى تشير إلى البعد الغيبي: حيث جاء في (تفسير العياشي(6) المجلد الأول ص197) عن الإمام الباقر (صلوات الله وسلامه عليه): (إن الملائكة الذين نصروا محمداً صلى الله عليه وآله يوم بدر هم خمسة آلاف)(7) فقد نصروا النبي صلى الله عليه وآله في الأرض وهم موجودون فيها، فليس نحن فقط نعيش حالة الانتظار، بل أولئك الملائكة يعيشون حالة الانتظار أيضا ولم يصعدوا بعد، حتى عهد الإمام الباقر (عليه السلام) فهم باقون في الأرض حتى ينصروا صاحب هذا الأمر وهم خمسة آلاف إذ أنَّ عدَدَهُم مذكورٌ في القرآن الكريم.
إذن فهذا الجانب يمثل إمداداً غيبياً للإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه)، ولكن وكما يبدو من روايات أخرى، أنَّ الإمداد الغيبي هو جزء من القضية، إن الروايات تنفي التصور الموجود لدى بعضنا بأن الإمام المهدي (صلوات الله عليه) سيأتي ومن دون أية مقدمات أو مؤونة وتصبح الكرة الأرضية كلها خاضعة له، فهنالك جبابرة وطغاة يحكمون في هذا العالم وهنالك أفراد ستتعرض مصالحهم للخطر، ألم ينكر بعض علماء اليهود والنصارى النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) عندما جاء وهم (يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ)(8)، ولكن هنالك مصالح في القضية، فهناك جماعة يخرجون إلى الإمام المهدي (عليه السلام) ويقولون له: (لا حاجة لنا بك، فارجع من حيث أتيت)، ألم يحارب الطواغيت النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)؟ وكذلك سيحاربون الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه).
إن الخط الأموي ما يزال موجودا ولم يَنْتَهِ، وقد لاحظتم في العراق بعض آثار ومظاهر هذا الخط، حيث كانوا يأخذون المؤمنين ويأمرونهم بأن يشتموا أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب (صلوات الله عليه)، رغم إنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) هو الخليفة الرابع على الأقل - كما يقولون - لكنهم يهددون الناس، إما تشتم أو نذبحك! وهؤلاء هم الذين يقفون أمام الإمام المهدي (صلوات الله عليه).
إن الإمام المهدي (صلوات الله عليه) لا ينتصر على هؤلاء بالمعجزة أو بالإمداد الغيبي فقط، هناك رواية مذكورة في كتاب (الغيبة للنعماني ص284)، ومذكورة في (بحار الأنوار) أيضا، يقول الراوي: لما قدمت إلى المدينة قلت لأبي جعفر الباقر (عليه السلام): إنهم يقولون - الناس: إن المهدي لو قام (صلوات الله عليه) لاستقامت له الأمور عفواً - بمعنى من دون تعب أو مئونة - فقال الإمام الباقر (عليه السلام): (كلا، والذي نفسي بيده لو استقامت لأحد عفواً لاستقامت لرسول الله حين أُدميت رباعيّته، وشُج في وجهه)، وكما هو معروف فأنَّ أسنان النبي الأعظم الأمامية قد كُسرت في معركة أحد، وكان الوالد(9) (رحمه الله) ينفي ذلك ويقول: لم تُكسَرْ رباعية النبي الأعظم، لكن هذه الرواية تقول: أدميت إدماءً وشُجّ وجهه.
إذن، كان الإمداد الغيبي للنبي (صلى الله عليه وآله) جزءً من المعادلة ولم يكن كلها، وكانت هنالك معاناة: (كلا والذي نفسي بيده حتى نمسح وأنتم العرق والعلق، ثم مسح جبهته)(10)، يقول العلامة المجلسي رحمه الله في البحار: إن العلق هو الدم الغليظ وهذه(11) كناية عن ملاقاة الشدائد التي تُسيل العرق والعلق وتُحدث الجروح المسيلة للدم(12)، فهناك عرق وجهاد ميدان، نحن وأنتم.
تحقيق حلم دولة العدل والحق
في المراحل الأُولى لحركة الإمام المهدي (صلوات الله عليه) يُقتل بعض الولاة الذين يعيّنهم في بعض البلدان من قبل جماعة يقومون ضدهم، فيرجع الإمام المهدي إليهم(13).
وفي رواية أخرى موجودة في (تفسير العياشي المجلد الأول ص103) يقول الإمام الباقر (صلوات الله عليه فيها): (ينزل المهدي يوم الرجفة بسبع قباب من نور لا يُعلم في أيّها هو، حتى ينزل ظهر الكوفة)(14)، وربما تعني كلمة: (ينزل) في ظاهرها، أن الإمام الحجة (عجل الله فرجه) ينزل من السماء في قباب من نور لا يُعلم في أيّها هو، ولكن لماذا لا يُعلم في أيّها هو؟ إنَّ هذا يحدث في المراحل الأولى، ربما تحفظاً من بطش الأعداء، فإذا عرف الخط الأموي بظهور الإمام المهدي، وهم خط الجبابرة ربما يقتلونه، أو يحاولون ذلك.
إذن فالقضية ليست غيبية فقط، نعم الجانب الغيبي وإمداد الله وعنايته موجودة قطعاً، وينزل خمسة آلاف من الملائكة لنصرة الإمام (عليه السلام)، ولكن تدل هذه الروايات أيضا على أن هنالك بعداً طبيعياً في حركة الإمام المهدي (صلوات الله عليه) كما كان هذا البعد الطبيعي موجوداً في حركة رسول الله (صلى الله عليه وآله).
فكم تحتاج من الرجال مثل هذه الحركة التي يجب أن تعتمد على منطق المعادلات الطبيعية أيضا؟ فالمرحلة الأولى وهي مرحلة الهدم تمتد ثمانية أشهر، فهي مرحلة الحرب كما ذكرناها، إذن نحتاج من الرجال لإدارة هذه المرحلة، أما المرحلة الثانية فهي تتعلق بصفات هؤلاء الرجال، فما هي صفاتهم؟
إنَّ المرحلة الثانية هي مرحلة البناء، ولكن أي بناء؟ إنه بناء دولة عالمية لم يأت لها نظير على وجه الكرة الأرضية حتى الآن، إنها دولة العدل الإلهية.
فالقضية تتطلب الدقة في اختيار الرجال، حيث لا يجوز الاعتماد على ظاهر الرجل لوضعه في أحد المناصب، ثم يتبيّن أنه لم يكن كما ينبغي، فنحن كثيراً ما نعتمد على الظاهر، وغير مكلفين بالنتائج أيضا، إنَّ حركتنا حركة ظاهرية، فيكون خالد ابن الوليد قائداً للجيش ويقتل الأبرياء ويريق الدم، أو ربما يكون فلان والياً ثم يخون ويهرب بالأموال ويكتب رسالة شديدة اللهجة إلى أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)، فيقول له الإمام: إنك تخون المسلمين فتسرق أموالهم، ألا تخاف من فعلتك هذه؟ فيرد هو أيضا ردّاً قاسياً وشديداً على الإمام، راجع نهج البلاغة(15).
إذن يراد لهذه الدولة أن تحقق ذلك الأمل والحلم الذي بشرت به رسالات السماء، في تحقيق دولة العدل والحق، فكم تحتاج إدارة هذه الدولة من رجال وفي أي مرتبة يجب أن يكونوا؟ وإذا كان التوقع الأقرب أنَّ الإمام المهدي (صلوات الله عليه) سيدير كل الأمور بالقضايا الطبيعية، إذن ألا يحتاج الأمر إلى تهيئة وذراع تدير الأمور؟
إنَّ هذه الروايات، وروايات أخرى تؤكد بأن هنالك بعداً طبيعياً في حركة الإمام، فلابد أن يكون هنالك عددٌ كافٍ من الرجال ويجب أن يكونوا في درجة رفيعة وراقية جدا من التقوى والإيمان والإخلاص والإطاعة، فهل وُجد هذا العدد الذي يتمكن من أن ينهض بهذه المهمة؟
يؤسفنا أن نقول: كلا، لا يوجد، وقد يستغرب البعض من هذا الكلام، فهل ينتظر الإمام المهدي (صلوات الله عليه) إتمام العدد؟
الجواب عن هذا السؤال، يشير إليه الشيخ المفيد، ولا بأس أن أذكر عبارة الشيخ المفيد رحمة الله عليه حيث يقول: (ولو علم الله تعالى أن العدد المذكور على ما شرطنا موجود في جملتهم لظهر الإمام لا محالة، ولم يغب بعد اجتماعهم طرفة عين)(16)، بمعنى أنَّ هذا العدد لو اكتمل كما يقول الشيخ المفيد لظهر الإمام (عليه السلام) في لحظة اكتماله نفسها.
فهل يبدو هذا القول غريباً؟ نعم، ربما يبدو المنطق الذي يقوله الشيخ المفيد غريباً، كلا انه ليس غريباً، يشير أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) إلى نظيره في نهج البلاغة، لاحظ الخطبة الشقشقية، يبدأ الإمام (صلوات الله عليه) بهذا المقطع: (فما راعني إلا والناس... ) أي عندما هجم الناس على الإمام صلوات الله عليه لمبايعته.
ثم يقول (عليه السلام): (لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارُّوا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها)، وهذا هو الفرق بين الأول والآخر، كما يقول الإمام في الخطبة الشقشقية: (حضور الحاضر).
يقول شارح نهج البلاغة: بأن حضور هؤلاء الذين هجموا نحو الإمام (عليه السلام) لم يكن في اليوم الأول، ولذلك ألقى حبلها على غاربها في ذلك اليوم، أي ألقى حبل الخلافة على غاربها، وبمعنى على عاتقها، وترك الأمر، ولكن بعد حضور الحاضر اختلف الأمر لدى الإمام(17).
لماذا أذكر هذا الكلام؟ الجواب: لأن ذلك ربما يدفع البعض كي يتأمل في جواب الشيخ المفيد، فلولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر لما رضي الإمام بالخلافة الظاهرية بعد أن كانت له الخلافة الواقعية من البداية.
إذن فإن العدد المطلوب لنصرة الحجة عجل الله تعالى فرجه لم يكتمل، نعم يوجد مؤمنون كثيرون، ولكن ما هو العدد؟ وما هي الصفات المطلوبة؟ إن الصفات التي ينبغي أنْ تكون متوفرة في هذا العدد صفات رفيعة جدا لكن هذا غير متوفر، ولذلك جاء في شرح التجريد على ما أتذكر: (وعدمه منا)، أي أننا السبب الذي يقف وراء ظاهرة الغيبة: (وجوده لطفٌ وتصرفه لطفٌ آخر وعدمه منا)(18).
هنا أذكر بعض الروايات التي تبيّن صفات هؤلاء المناصرين، وفي أي مرحلة من الاستعداد ينبغي أن يكونوا؟ لكي تعرفوا أن القضية تحتاج إلى عمل كثير، وثمة ملاحظة أشير إليها، وهي أن هذا لا يعني أن نصل إلى اليأس، وهذه نقطة محورية.
فحين تضع أمامك نموذجاً رفيعاً فإن هذا النموذج يحرك كل طاقاتك، لذلك جعل الله سبحانه وتعالى مراتب، المرتبة الأولى أن تبدأ، وليس هنالك سقفا معينا، مثالا على ذلك، إن أوقات الصلاة متحركة وليست ثابتة كما نعرف، فيمكننا أداء صلاة المغرب والعشاء عند منتصف الليل، لقد قمنا بهذه الوظيفة قبل منتصف الليل بدقائق لكن يمكن أن نؤديها أول وقت الصلاة: (الصلاة في أول الوقت جزور وفي آخره عصفور) حيث يكون ثوابها لو أقيمت بهذه الصورة قليلا، هذا ما يخص ناحية الوقت، أما من ناحية التوجه إلى الله سبحانه وتعالى، فإن الصلاة تبدأ من لحظة الصعود إلى فوق، وتُلف ثم يرمى بها رأس صاحبها(19)، إن صلاتك لا تفيدنا بل هي لك أنت، ولا يكتب في ديوانه ولا ركوع ولا سجود ولا تكبير، إنها ستكون مُسقطة للوظيفة طبعاً، أي انك تؤدي الفرض، ولكن كل شيء لا يُكتب، هذه إحدى المراتب.
لكن اذهب إلى مرتبة صلاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وصلاة وأمير المؤمنين (عليه السلام) الذي يُنزع السهم من رجله أثناء صلاته وهو لا يشعر بذلك، فإذا وضعت أمامك احد الأهداف المحدودة ستذهب إليه بحركة متئدة، وربما تصل إلى ذلك الهدف المحدود أو لا تصل، لكن الدين سيجعل أمامك هدفاً لا حدَّ له - وهذه إحدى نقاط قوة الدين - فكم لديك من طاقة ستركض إليه، وستذكر الله سبحانه وتعالى بكل ما لديك من مجال؟
بعض المؤمنين يذكرون الله حتى في حالة النوم لأنهم معتادون على ذلك، وكان الشيخ الكعبي(20) (رحمة الله عليه) يؤدي الخطبة والمجلس الحسيني حتى أثناء نومه في بعض الأحيان، فكانت أمه تستيقظ وتبكي بسبب خطبته، فيستيقظ هو أيضا فيرى أمه تبكي ويسألها عن السبب، فتقول له: لأنك كنت تقرأ عن مصاب الحسين (صلوات الله عليه).
فليس هنالك حدّ للذكر ولروح التقوى النفسية الرفيعة، أُدرس وابحث في الفقه ثمانين عاماً فلا ينتهي، كذلك ليس هنالك حد لقراءة القرآن الكريم أو مفاتيح الجنان: (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى)(21)، لذلك يفجّر الإيمان جميع طاقات المؤمن.
ليس لدينا في التاريخ على ما أظن عالم من علماء الشرق والغرب ألّف (1000) كتاب كالعلامة الحلي (22)، إن تأليف مثل هذا العدد من الكتب قضية ليست هيّنة، فالإيمان هو الذي فجر طاقات العلامة الحلي، فيبحث قدر ما يستطيع في هذا المجال، وحين نقول أن هؤلاء يجب أن يكونوا في المرتبة الأولى، ألا يسأل أحدنا ما هي المرتبة التي أستحقها؟ وهل يمكن أن أكون من هؤلاء أو لا يمكن؟
رجال لا ينامون الليل
إن هذا الهدف الكبير يجب أن تضعه في الحسبان، وتتعب وتركض وتجهد نفسك في العلم والعبادة لعلك تكون واحدا منهم، وربما يكون تمام العدد المناصر بهذا الجهاد والإيمان والعبادة، أذكر هنا قضية الخادم المعروفة للمؤمن، حيث تحول في إحدى الأيام إلى واحد من تلك الجماعة المحيطة بالإمام المهدي (صلوات الله عليه) في قضية طويلة التفاصيل.
ونذكر هنا بعض الروايات التي تبيّن صفات هؤلاء المناصرين، ونذكر عددهم لاحقا، وكيف يجب أن يكونوا، هذه رواية مذكورة في (بحار الأنوار المجلد 68 ص164)، وربما تشير هذه الرواية إلى ما نحن عليه - دقق في الرواية -:
دخل أحدهم على الإمام أبي عبد الله الصادق (صلوات الله عليه) فقال له: جُعلت فداك، إني والله أحبك، وأحب من يحبك يا سيدي، ما أكثر شيعتكم؟ ــ فقد انتشر التشيع في عهد الإمام الصادق (عليه السلام) بعد الضغط الشديد ــ.
فقال له الإمام (عليه السلام): (اذكرهم كم عددهم). فقال: كثيرون. فسأله الإمام (عليه السلام): (هل تستطيع أن تحصيهم كم فرداً؟) فقال: لا، هم أكثر من ذلك. أي أكثر من عددهم.
فقال أبو عبد الله (عليه السلام): (أما لو كمُلت العدة الموصوفة ثلاثمائة وبضعة عشر)(23) - إن هذا العدد هو العدد الأولي، فهنالك أعداد أُخر سنذكرها إنشاء الله - فعددهم ثلاثمائة وبضعة عشر، وفي بعض الروايات الأخر العدد المذكور هو ثلاثمائة وثلاثة عشر، ثم يذكر الإمام (صلوات الله عليه) صفات هؤلاء، كما جاء في هذه الرواية.
الرواية الثانية جاءت في (البحار المجلد 52 ص307) عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) في صفات أصحاب الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه): (ورجالٌ كأن قلوبهم زبر الحديد، لا يشوبها شكٌ في ذات الله)، فلا يوجد لديهم أي نوع من الشك، لأن قضية اليقين مهمة، وإنهم: (أشد من الحجر يتمسّحون بسرج الإمام (عليه السلام)، يطلبون بذلك البركة) وعقيدتهم وولاؤهم قوي، (ويحفّون به ويقونه بأنفسهم في الحروب ويكفونه ما يريد فيهم، رجال لا ينامون الليل)، فالمؤمن لا يستطيع النوم، لأنه محب، والمحب لا يتمكن من النوم، لكن لماذا ينام بعضهم من أول الليل إلى الصبح؟ لأن هذا الحب غير موجود في القلب كما ينبغي، أما المحب فلا يستطيع النوم، فمن يدرك عظمة الله سبحانه وتعالى وعظمة الآخرة لا يتمكن أن ينام إلا مضطراً، احد العلماء قال لابنه: ينبغي أن تنام هكذا، أخذ الدفتر والقلم ووضعهما جانبا وأطرق برأسه قليلاً، نام دقائق معدودة ثم استيقظ، فالإنسان إذا كان منهكا كثيرا، بمجرد ما يغمض عينيه سينام.
وهناك رجال لا ينامون الليل، ففي رواية عن الإمام الصادق (صلوات الله عليه) تذكر صفات أصحاب الإمام المهدي، (لهم دويّ في صلاتهم كدويّ النحل)، فماذا يعني هذا الدوي؟ انه بكاؤهم وأنينهم، يقرأ بعضنا: (بسم الله الرحمن الرحيم) بسرعة وعجالة، ولكن للمحب صلاة من نوع آخر: (يبيتون قياماً على أطرافهم)، وتعني الأطراف أما الأرجل أو أطرافها: (ويصبحون على خيولهم)، فطيلة الليل لم ينم وفي الصباح ينهض ليجاهد، لماذا لأنه مكدودٌ في ذات الله.
إن كلمة مكدود تعني: منهك، (يَا أَيُّهَا الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ)(24)،: (رهبانٌ بالليل ليوثٌ بالنهار) فهم في قمة العبادة، كأنه راهب في الليل وأسد في النهار، هم أطوع له من الأَمَةِ لسيدها، إن التسليم المطلق صفة مهمة ويجب أن نتحدث عنها في وقت آخر، حتى مالك الأشتر على عظمته وجلاله، مالك وما أدراك ما مالك؟ لم يصل إلى درجة التسليم المطلق، إنهم كالمصابيح: (كأن قلوبهم القناديل) قلوبهم مضيئة مشرقة (وهم من خشية الله مشفقون) والإشفاق من الخوف، وجاء في الآية الكريمة: (فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ)(25).
إنهم يدعون بالشهادة ويطلبون من الله أن يُستشهدوا بين يدي الإمام المهدي (صلوات الله عليه) و(يتمنّون أن يقتلوا في سبيل الله وشعارهم: (يا لثارات الحسين) )، وهم يتمسّحون بالسرج، وولائهم للإمام الحسين (صلوات الله عليه): (بهم ينصر الله الإمام المهدي إمام الحق)(26)، والباء سببية، فهل فينا هذه الصفات، نحن نطمح في ذلك، قلوبنا لا يشوبها شك كزبر الحديد، أشد من الحجر لاينامون الليل يبيتون قياماً على أطرافهم، إنه تسليم محض للإمام الحجة (عليه السلام).
التسليم المحض والتطهير التام
أنقل هذه القضية المذكورة في بعض الكتب، هناك رجل طاعن في السن عاشق أو محب للإمام المهدي (صلوات الله عليه)، إنه يبكي ويتضرع في كل ليلة ويطلب من الله سبحانه وتعالى أن يتشرف بلقاء الإمام المهدي، في إحدى الليالي وهو في حالة السجود حيث كان يبكي ويتضرع لله تعالى، وإذا برجل يحضر قربه ويقول له ارفع رأسك، فيرفع رأسه وإذا به يرى الحجرة وقد امتلأت نوراً والرجل يقف أمامه، فسأله الرجل الطاعن في السن: من أنت؟ ــ فَكِّرْ وضع نفسك في مكان هذا الرجل المسن ــ.
فقال له: أنا الذي كنت تدعوه، وهي هذه القضية مذكورة في الكتب، فيقول له الرجلُ المسن: وهل أنت المهدي؟
فيجيبه: نعم ماذا تريد؟ إنك أقسمت على الله سبحانه وتعالى بأغلظ الأيمان لكي ترى الإمام المهدي (عليه السلام)، فماذا تريد؟
فقال الرجل المسن: إنني أتمنى أن أكون من أنصارك وأن أجاهد بين يديك وأن أقتل في ركابك وأن أدخل الجنة على أثر ذلك بدون حساب، هذه هي أمنيتي. فقال له الإمام (صلوات الله عليه): إن أصحابي صفَّوا ما عليهم، فهل صفّيت أنت ما عليك؟ بمعنى تطهروا طهرا كاملا. فقال الرجل المسن: نعم أنا صفّيت ما علي، ولكن إذا بقي شيء عليّ فأنا حاضر، بأي شيء تأمرني. طبعاً كل شخص له امتحان معيّن، وليس شرطا أن يكون الامتحان في شكل معين، إن الله سبحانه يمتحننا جميعا في نقطة حيوية، فقال الإمام للرجل الطاعن في السن: أولاً إنَّ هذا البيت الذي تسكن فيه مغصوب لأنه بيت أيتام، فخال هؤلاء الأيتام غصب هذا البيت منهم وباعه لك، دون وجه حق، فيجب عليك أن تعيد البيت إلى الأيتام وتأخذ ثمنه من خالهم.
وهذه المشكلة موجودة الآن في بعض البلاد، وقد ولدّت مشكلات اجتماعية، فهذا الرجل المتديّن قد اشترى البيت ولا يعرف بقصته وإذا به يكتشف بأن البيت مغصوب، فأين يسكن؟ هل يسكن في الشارع؟ لقد فشل كثيرون في هذا الامتحان، أين يسكن هو وعائلته؟ إننا إذا اكتشفنا الآن أنَّ البيت الذي نسكنه مغصوب فأين نسكن؟ لاحظ درجة إيمان الرجل المسن، لقد قال للإمام (صلوات الله عليه): أنا حاضر، سأخرج من هذا البيت وأعيده فوراً يبدو أن هذا الرجل مشتغل على نفسه في الإيمان والتدين، وإلا لا يمكن أن يقوم بإعادة البيت إلى الأيتام، ثم قيل له إن ملكية البيت لم تنتقل إليك، فلك حق أن تأخذ ثمنه ممن باعه لك.
ثم هنالك مشكلة ثانية صعبة جدا، فقد قال الإمام (عليه السلام) للرجل المسن: إن زوجتك هذه أختك من الرضاعة، فقد أرضعت أمك هذه المرأة رضعات كاملة، إذن هي أختك وعليك أن تنفصل عنها فوراً!!.
انه رجل مسن ولابد أن يكون له أولاد وبنات وأصهار، وإذا بأعصابه تنهار تماما، فلم يتمكن أن يقوم بأكثر مما قام به، إذ يبدو انه تصور ما الذي سيحدث بعد ذلك، وماذا سيقول للناس، ومن سيقبل قضية الانفصال عن زوجته، وإذا به يخرج إلى ساحة البيت، وأخذ يصرخ ويصيح بالجيران، فاجتمعوا كي يفهموا ماذا حدث؟ فقال لهم الرجل الطاعن في السن: هنالك رجل في غرفتي. وحين ذهبوا للغرفة لم يجدوا أيَّ شخص!
وتوجد قضايا مماثلة أيضا، لكن الرجل المسن فشل في امتحان الزوجة، وشخص آخر فشل في امتحان الحورية وآخر فشل في امتحان القتل، فيجب أن يكون هنالك تسليم محض.
سأنقل باختصار بعض الروايات الأخرى وأنهي الموضوع: وسوف لا اذكر هنا مصادر الروايات بدقة لضيق الوقت، جاء في كتاب (كمال الدين) عن الإمام الجواد (صلوات الله عليه): (إنه يجتمع بالإمام ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً من أصحابه عدة أهل بدر ومن أقاصي الأرض، وذلك قول الله عز وجل: (أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) )(27) - لاحظ هذه الجملة الشرطية التي يستوحش منها البعض - (فإذا اجتمعت له العدة من أهل الإخلاص التام والكامل اظهر الله أمر) - هذه إذن هي الجملة الشرطية، بمعنى أن الظهور معلق بوجود هذه العدة - (فإذا اكتمل له العقد) - هذه هي المرحلة الثانية -: وهو عشرة آلاف رجل خرج بإذن الله عزّ وجل)(28) حيث توجد مرحلتان هما: مرحلة الظهور. والثانية: مرحلة القيام والنهضة.
على أي شيء يتوقف ظهور الإمام (عجل الله تعالى فرجه)؟
إنه متوقف على ثلاثمائة وثلاثة عشر من أهل الإخلاص الذين لا شائبة فيهم، ولكن المرحلة الثانية وهي مرحلة القيام تتوقف على عشرة آلاف رجل، فلابد أن يوجد هذا العدد.
في تفسير القمي(29) لقوله تعالى: (فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)(30).
إن هذه الآية الكريمة نزلت في المهدي (صلوات الله عليه) وأصحابه وهم (يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ)(31)، أما كلمة: لا يخافون لومة لائم فهي من أعقد الأمور، ويحتاج هذا الموضوع إلى شرح في مقامٍ آخر.
جاء في (البحار) عن الإمام الصادق (صلوات الله عليه): (كأني أنظر إلى المهدي صلوات الله عليه وأصحابه في نجف الكوفة قد أثرّ السجود بجباههم ليوثٌ بالنهار رهبانٌ بالليل)(32).
وفي تفسير العياشي: (يجيء الإمام (عليه السلام) ومعه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، من بينهم خمسون امرأة)(33)، منهن فقط بلغت ذلك المقام.
وجاء في البحار عن الإمام الصادق (صلوات الله عليه): (إذا قام المهدي (باللفظ الآخر)(34) بعث في أقاليم الأرض)، فيعين على كل إقليم رجلاً للإدارة، وهؤلاء الرجال القادة يجب أن يكونوا في قمة القمة، في الصفات النفسية والأخلاقية، (يقول: عهدك في كفك)(35)، وهنالك روايات أخر في هذا المجال.
إذن تتوقف المرحلة الأولى على: ثلاثمائة وثلاثة عشر، منهم خمسونَ امرأة يحملن هذه الصفات بهذه الدرجة التي ذكرناها، ثم يُستند إلى: عشرة آلاف في المرحلة الثانية وهي مرحلة القيام، فكما ذكرنا يجب أن نضع هذا الطموح أمام أعيننا، فالإنسان يستطيع أن يصّعد نفسه ويقويها ويبدلها من حال إلى حال، حتى لو كان يعاني من مشكلات لأن الله سبحانه وتعالى أعطى لهذه النفس قدرة كبيرة على التبديل والتغيير.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا منهم، وأن يعجل لوليّه الفرج ويسهل له المخرج، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
اضف تعليق