لكي يظهر الإمام لابد أن تكون الأجواء العامة مهيأة لذلك، فكيف تتهيأ الأجواء العامة؟ الجواب يأتي في كلمة، لعلها تمثل جواباً أو جانباً من الجواب، وهو الشعور بالضعف والعجز والانقطاع، إن هذا يُعدّ بمثابة مقدمة للتهيؤ العام، وسنأتي بمثالين أحدهما فردي والآخر على صعيد الأمة.
إن الإمام المهدي هو الذي يحقق الحلم الذي كانت تحلم به جميع الرسالات الإلهية، وهو إقامة دولة العدل
في المحاضرة السابقة دار الكلام حول السبب الكامن وراء غيبة الإمام المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه وكيف يمكن تفسير هذه الغيبة المحيّرة؟ وذكرنا إن هذا السؤال لا يختص بغيبة الإمام المهدي (عليه السلام) بل يعمّ غيبة كثير من الأنبياء والأولياء، فلماذا غاب نبي الله موسى (عليه السلام) أربعين ليلة؟ ولماذا غاب نبي الله المسيح ابن مريم (عليه السلام) حوالي ألفي عام؟ ولماذا غاب ذو النُّون (عليه السلام) في بطن الحوت أربعين يوماً؟ ولماذا غاب أهل الكهف ثلاثمائة سنة وازدادوا تسعاً؟
الإجابة الرابعة:
وفي هذه المحاضرة سنطرح الإجابة الرابعة، وقد ذكرها بعض مراجع التقليد الماضين قبل حوالي ثلاثين عاماً، وسنحاول أن نوضح هذه الإجابة كإجابة محتملة عن السؤال المذكور سلفاً، فنقول: إنَّ غيبة الإمام صلوات الله وسلامه عليه من العوامل والأسباب التي تهيّئ الأجواء العامة لنجاح الحركة، وبداية ينبغي أن نعرف أن النجاح على نحوين:
النحو الأول: النجاحُ بمنطق المعادلات الغيبية.
النحو الثاني: النجاحُ بمنطق المعادلات المادية.
إنَّ النجاحَ بمنطق المعادلات الغيبية هو مضمون للحركة الإلهية في كل تقدير، حيث لا يمكن أن يتطرق الفشل إلى الحركة الإلهية، كذلك كل عمل نعمله لأجل الله لا يمكن أن يتعرض للفشل، يقول الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم: (إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ)(1) فالانتصار حسنى والشهادة في سبيل الله حسنى أيضا، فإذن سيكون المؤمن المجاهد بين إحدى الحُسنيين.
قال (عمرو بن ود) لعلي أمير المؤمنين صلوات الله عليه: أما خاف ابن عمك حين بعثك إليّ أن أضربك برمحي هذا فأجعلك معلقاً بين السماء والأرض لا أنت حي ولا أنت ميت.
فقال أمير المؤمنين صلوات الله عليه كما جاء في البحار: (لقد علم ابن عمي أنك إن قتلتني فأنا في الجنة وأنت في النار وإن قتلتك فأنت في النار وأنا في الجنة). فقال عمر بن ود: كلتاهما لك يا علي، تلك إذاً قسمةٌ ضيزى(2).
فإذا كان المؤمن حاكماً على كل الكرة الأرضية فهذا نجاح له، وإذا كان مُبعَّضاً تحت سنابك(3) الخيول فهذا نجاحٌ له أيضا ما دام سائراً في خط الله، إذاً فلا يتطرق الفشل للحركة الإلهية بمنطق المعادلات الغيبية أبداً، ولذلك ينبغي أنْ يعرف المؤمن الحقيقي أن كل شيء يعمله لله ولأجله تعالى مهما كانت نتائجه فهو ناجحٌ وفق كل تقدير.
ولكن هنالك نجاحٌ آخر وهو النجاح بمنطق المعادلات المادية، أو ما يُسمى بالنجاح الظاهري، والمقصود في العنوان هو المعنى الثاني للنجاح وليس المعنى الأول، إن تهيئة الأجواء العامة لنجاح الحركة، تعني النجاح المادي مضافاً إلى النجاح الغيبي.
بعد هذه المقدمة نطرح السؤال الآتي: هل تحتاج حركة النبي أو الوصي أو الولي إلى وجود أجواء توفر له النجاح بمنطق المعادلات المادية، أم أنَّ الولي أو النبي يقوم بالحركة مهما كانت النتائج، فلا تهمنا النتيجة وإنما أداء الوظيفة، إننا غالباً ما نقول ليس لنا شأن بالنتيجة بل علينا بالوظيفة، فهل يحتاج النبي أو الوصي أو الولي إلى تهيئة الأجواء العامة لضمان نجاح حركته الإلهية؟
يبدو أن الإجابة عن هذا السؤال ترتبط بطبيعة المهمة التي أُنيطت بالنبي أو الولي، فما هي هذه المهمة؟ فإذا كانت المهمة هي إقامة الحجة فقط، حيث يأتي النبي لئلا يكون للناس حجة على الله، إن إقامة الحجة لا تحتاج إلى تهيئة الأجواء العامة للنجاح بمنطق المعادلات المادية، لأنها تتم بإبلاغ الدعوة، مهما كانت النتيجة فالنتيجة الظاهرية غير مهمة.
ولكن إذا كانت المهمة التي أُنيطت بالنبي أو بالولي مصحوبة بتضحية تهزّ وجدان الأمة وتوقظها من نومها العميق، فلا يحتاج في هذه الحالة إلى تهيئة الأجواء العامة، فإن الولي يقوم بهذه العملية ذات التضحية الكبيرة مهما كانت النتائج.. لصالح إقامة الدولة، أو الشهادة.
لكن إذا كانت المهمة التي أُنيطت بالولي هي إقامة دولة العدل التي تعم الكرة الأرضية كلها، وتبقى إلى ما شاء الله، ألا يحتاج القيام بهذه المهمة إلى تهيئة أجواء عامة للنجاح في هذا الهدف؟ وهل يوجد بديل عن تهيئة الأجواء العامة؟
الجواب: نعم، يوجد هنالك بديل، وهو تحكيم منطق القوة، أو منطق الفرض، فإذا كانت الأجواء العامة غير مهيئة لمنطق الفرض، فالنتيجة الطبيعية هي الرفض.
وهنالك قاعدتان للفرض:
القاعدة الأولى: إنَّ الفرض غير دائم، فإذا كان للشيء المعرض للفرض طبيعةٌ معينةٌ وحصل عامل ضغط خارجي خلاف طبيعته، فهذا الضغط لا يكون دائماً، حيث طالما أنَّ عامل الضغط القسري القاهر موجودٌ فإنَّه سيُعيق الشيء عن حركته الطبيعية، ولكن بمجرد أنْ يزول الضغط يعود الشيء إلى حالته الأولى، بل يقول العلماء في الحكمة أن القسر لا يكون أغلبياً.
ويمثّل العلماء بمثال معروف هو: إن طبيعة أي حجر هي الإنشداد إلى الأسفل بفعل الجاذبية الأرضية، فلو رمينا الحجر إلى الأعلى بالقوة وبالضغط سيرتفع إلى الأعلى، إنَّ الحجر هنا يعاكس طبيعته الأولى، لماذا؟ لأنه يوجد عامل ضغط يرفعه إلى الأعلى وسيرتفع الحجر ما دام الضغط موجوداً، ولكن بمجرد ما ينتهي الضغط ويزول يعود الحجر إلى طبيعته الأولى ويهبط إلى الأسفل.
ولذلك فإن الضغط غير دائم في عمق الزمن، وليس أكثرياً كما يقول العلماء، فلو تم فرض نظام ما على مجتمع لا يريد ذلك النظام وغير مقتنع به، فالمجتمع سيقاوم، وقد رأينا تجارب كثيرة في التاريخ عن ذلك، حيث يقاوم المجتمع بمختلف أنواع المقاومة، هذا من جانب.
ومن جانب ثانٍ، إذا أردنا أن نقيم دولة العدل، والنخبة المتنورة فئة محدودة، فكيف تقام دولة العدل والحق إذا كانت غالبية الأمة غير مهيّأة لذلك، ولنفرض أن هذه الدولة دامت وبقيت، وحاكمها الأعلى متقٍ إلى أبعد الحدود، ولديه عشرة أو عشرون أو ثلاثون أو مئة من أعوانه، وهؤلاء قمة في التقوى والإخلاص والأخلاق، ولكن تبقى الدولة دائماً وكما يقول العلماء مؤسسة صغيرة في بحر، فإذا كان جميع الموظفين غير مهيّئين، وجميع الوزراء والمدراء كذلك، فمَنْ الذي يدير الدوائر؟ إنه الموظف الذي يسيّر معاملات المواطنين، ولكن إذا كان هذا الرجل غير مهيّأ لذلك فسيظلم الناس.
لماذا رفض الإمام الصادق (صلوات الله عليه) الحكم كما ذكر التأريخ؟ لو قيل للمؤمن: تعال، وكن حاكماً على الدولة الكافرة؛ وزراؤها ومدراؤها وموظفوها كلهم كفار، ما الذي استطيع أنْ يعمله في مثل هذه الدولة؟ لقد بعث أبو سلمة الخلّال (4) - في الظاهر - مكتوباً للإمام الصادق (عليه السلام) وقال فيه: تعال، وكن أنت قائداً للدولة العباسية، ولنفترض أن الإمام الصادق (صلوات الله عليه) صار قائداً للدولة العباسية حيث إن جميع وزرائها ومدرائها وموظفيها غير مهيّئين لإقامة العدل والحق وحكم الله، فكيف سيحكم الإمام دولة كهذه؟
ولذلك اخذ الإمام الصادق (صلوات الله عليه) تلك الرسالة، وكان هنالك سراج مُضاء فوضعها عليه فاحترقت، فسأل المبعوث الإمام (صلوات الله عليه) ما هو جوابك؟ فقال له الإمام (عليه السلام): (هذا، هو الجواب)(5).
إنَّ أئمة أهل البيت (صلوات الله عليهم) كان بإمكانهم أنْ يحكموا في بعض المراحل التاريخية، ولكن الإمام الصادق (صلوات الله عليه) رفض أن يكون حاكماً، لأن الحكم في حدِّ ذاته لم يكن هدفاً له، لأنه إذا أصبح حاكماً في تلك الدولة، فهذا يعني إبدال فرد بفرد، وسيبقى النظام كما هو، وعندما أُجبرَ الإمام الرضا (صلوات الله عليه) على ولاية العهد، شرطَ أن لا يتدخل في أي أمر من الأمور، ربما كان لايستطيع أنْ يعمل في مثل نظام المأمون لأنه محاصر.
ولذلك لابد أن تكون الأجواء العامة مهيّأة، إن الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) هو الذي يحقق الحلم الذي كانت تحلم به جميع الرسالات الإلهية، وهو إقامة دولة العدل، ومن اجل تحقيق مثل هذا الهدف هناك حاجة إلى تهيئة عامة، حيث تحتاج البشرية الوصول إلى درجة تتقبل فيها مثل هذا الحكم، إذن الإجابة الرابعة هي تهيئة الأجواء العامة لنجاح الحركة الإلهية.
كيف تتهيأ الأجواء العامة؟
لكي يظهر الإمام (صلوات الله عليه) لابد أن تكون الأجواء العامة مهيأة لذلك، فكيف تتهيأ الأجواء العامة؟
إن الجواب عن ذلك يأتي في كلمة واحدة، لعلها تمثل جواباً أو جانباً من الجواب، وهو الشعور بالضعف والعجز والانقطاع، إن هذا يُعدّ بمثابة مقدمة للتهيؤ العام، وسنأتي بمثالين أحدهما فردي والآخر على صعيد الأمة.
المثال الفردي:
إن الله سبحانه وتعالى خلقنا: (مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا)(6)، فالإنسان في شبابه يتميز بحالة من الغرور والاعتماد على ذاته وقوته وقدرته وطاقته، ولكنْ شيئاً فشيئاً يجعل الله سبحانه وتعالى الحياة بصورة تصفع هذا الشاب، فكلما تقدم به العمر وإذا بالضعف والعجز يسري إليه، إن الضعف والفقر موجودان في الإنسان منذ البداية، ولكن المشكلة أن الفرد لا يشعر بهما، على العكس من أولياء الله سبحانه وتعالى حيث يشعرون منذ البداية بالضعف والفقر، ولذلك يتميزون بحالة انقطاع إلى الله سبحانه وتعالى في أيام شبابهم.
لكن المشكلة بصورة عامة تتعلق في الشعور والإدراك؛ وإلا ما أضعفَ وأفقرَ البشرَ لكنه لا يشعر، فالشاب يحتاج إلى صفعة، وهنالك بعض الأفراد في حالة نوم ولا ينتبهون فلابد من أن يُصفعوا لكي ينتبهوا، حيث الأمراض والمشاكل الاجتماعية والمعوقات تلمّ بهم من كل جانب، أما الشاب فهو يقاوم المشكلة ويقاوم المرض أيضا، ولكن شيئاً فشيئاً يبدأ باليقظة ويتنبّه حتى يصل إلى منتهى درجات الضعف.
هنالك بعض كبار السن لا يتمكن من تناول حتى الأكل أو الحركة، ولا يستطيع فتح عينه في بعض الأحيان، بل لا يستطيع التنفس مع أننا لا نشعر بقيمته، ولكي يتنفس فقط فإنه يحتاج إلى جهاز يُسلّط عليه ويضخ الهواء إلى رئته، وحين نذهب أحياناً إلى المستشفى نرى أمثال هؤلاء فنرى مستقبلنا أيضا، باستثناء أن يموت الإنسان فجأةً، وإلا فمسيرة حياة الإنسان الطبيعية تذهب به من ضعف إلى الضعف حتى يصل إلى منتهى درجات الضعف، لماذا؟
إن الله سبحانه وتعالى سلّط علينا هذه الحالة نحن البشر، حتى نشعر بضعفنا، إذن هذه نعمة من نعم الله علينا، طبعاً يختلف الأفراد في تعاملهم مع هذا الأمر، فبعضهم من يتنبّه بسرعة وآخرون يتنبهون ببطء وغيرهم قد لا ينتبهون إلى النهاية، فعلى الإنسان أن يشعر بأنه ضعيف وعاجز، كما في الأدعية حيث يوجد إلفات نظر عجيب، لنقرأ الأدعية المختلفة بهذا المنظار، فإنها تلفت إلى أنك أيها البشر ضعيف فقير بائس إلى أبعد الحدود، ومسكين مستكين لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً.
هناك تركيز في الأدعية على معنى الضعف البشري، فعندما يشعر الإنسان بالضعف يلتجئ إلى الله سبحانه وتعالى، فلا يعتمد بَعدُ على قوته وحوله، وإنما يبرأ منهما، ويلجأ إلى قوة الله وحوله، فحين نقول كلمة: لا حول ولا قوة إلا بالله، نعني أننا لا نملك أي شيء، إذن هناك تركيز على هذا المعنى، أي التحول من حالة إلى حالة.
فربما يكون الإنسان جالساً لكنه فجأة لا يتمكن من الوقوف إلا بقوة الله، فهذه هي قدرة الله وإرادته سبحانه التي أعطت للإنسان القوة والإرادة، في تلك اللحظات يشعر الإنسان بالضعف والفاقة والفقر ويلتجئ إلى الله سبحانه وتعالى، فمثل هذا الشعور مهم جداً لأنه يهيئ الأرضية لنزول الرحمة الإلهية على الإنسان.
جاء في الحديث: (شيوخٌ خشّع أو رُكّع)(7) فالشيوخ الخشع أو الركع لهم أهمية معينة، ينقل لنا أحد الخطباء الكرام حفظهم الله قضية عن فرعون، يقول فيها: إن فرعون ذهب إلى الله سبحانه وتعالى وقال: يا الله إن النيل قد جفّ وتوقف جريانه(8)، وقد ذهب فرعون إلى الصحراء ووضع الأغلال في عنقه ويديه وهو يبكي ويتضرع إلى الله سبحانه وتعالى من الليل حتى الصباح، قد يعلّق احد فيقول: وإذا جاء باكياً، قد يأتي فقير باكياً أو طفل يبكي وما أهمية ذلك؟ ولكن لنفترض أنَّ هذا الطفل كان مسيئاً لكنه جاءكم الآن باكياً، فماذا ستفعلون أمام بكاء طفلكم؟
المثال الثاني: على صعيد الأمة
هنالك أمة كتب الله سبحانه وتعالى العذاب عليها، لأنهم لم يعتنوا بنبيّهم، فكم عاماً أنذرهم هذا النبي وبلّغهم لكن من دون فائدة، فتركهم النبي (عليه السلام) وجاءهم العذاب حتى وصل إلى أيديهم، بمعنى صار قريباً منهم، وقد أنذرهم النبي (عليه السلام) ونبههم من هذا العذاب، فركضوا إلى عالمهم الذي يقال له: (روبيل) وسألوه: ماذا نفعل؟ فقال لهم: اذهبوا إلى الصحراء وتفرقوا فيها فالعذاب قادم، فرّقوا بين النساء والرجال وبين النساء وأطفالهن وليكن كل منهم مفترقاً عن الآخر وفرّقوا بين البهائم وصغارها.
مضوا إلى الصحراء وتضرعوا إلى الله سبحانه، الأطفال والأمهات يبكين والبهائم الصغار تبكي أو تتضرع، فرحم الله سبحانه وتعالى ضعفهم وعجزهم، وقد قال الله سبحانه: (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ)(9) فقد رحمهم الله تعالى لضعفهم بعد أن التجئوا إليه وكشف عنهم العذاب ومتعهم إلى حين(10).
إنَّ بعض الناس يعيشون حالة غرور فيشعرون أنهم لا يحتاجون لأحد، وعندما لا يشعر الإنسان بالاحتياج سيتضاعف لديه الغرور، كما لو أنَّ مريضاً يحتاج إلى دواء ولكنه لا يشعر بحاجته هذه.. هنا سوف يستفحل المرض حتى يصل إلى مرحلة الشعور بأنه لا بديل له إلا الرجوع إلى الطبيب، وسوف يعمل بأي شيء يوجهه به.
لقد علّم العالم (روبيل) أولئك القوم الذين ينتمي إليهم، فنادوا الله سبحانه وتعالى: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (11) يقولون: إننا سننتهي من الوجود، وستصل البشرية إلى هذا الشعور وإلى هذه المرحلة.
ففي يوم ما كانت البشرية تعيش غرور الشيوعية ولعلّ كبار السن عايشوا هذه الفترة، جاءت الشيوعية بإعلامها وقوتها وقنابلها الذرية التي يمكن أن تدمر الكرة الأرضية أكثر من مرة، ليس في بلاد الغرب فقط بل حتى في بلادنا، كم مليوناً وكم مائة مليون خُدعوا بهذا السراب الكاذب، فبعد ثمانين عاماً وإذا بالزيف ينكشف، ولكن بعد ذلك الدَّوي والبريق للشيوعية فقد انحسرت بل انتهت، ومن يقول الآن: أنا شيوعي سيُنظر له بامتهان، لقد انتهى كل شيء ولم يعد لهم أمل.
لكن ماذا خلّفت الشيوعية بعدها؟ لقد خلّفت الرأسمالية بشعاراتها وقوتها التي ربما لم تُتَحْ لِفئةٍ أخرى في التاريخ، وشعاراتها البراقة التي خدعت بعض شبابنا حين رأوا هذه الشعارات من بعيد، كالحرية والديمقراطية، إنَّ المريض الذي لا يريد أن يراجع الطبيب ماذا تفعلون معه؟ في حالة كهذه سيأتي الطبيب يجبره ويفرض عليه الدواء.
في الآية التي تلي الأولى من سورة يونس يقول الله سبحانه وتعالى: (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)(12) لا يمكن الإكراه، لأن سنة الله لم تقم على الإكراه، ولكنْ شيئاً فشيئاً ينكشف لنا أن الرأسمالية سراب أيضا.
هنالك حديث مرويٌ في (كتاب الغيبة للنعماني ص274)(13) عن الإمام الصادق صلوات الله عليه وهو أحد الأئمة الذين أكثروا الحديث حول الإمام المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه يقول: (ما يكون هذا الأمر - ويقصد قيام الإمام المهدي صلوات الله عليه - حتى لا يبقى صنفٌ من الناس إلا وقد وُلّوا على الناس)(14) فالكل حكموا، ومن كل الأصناف، فقد حكم الشيوعيون والبعثيون والرأسماليون والديمقراطيون والقوميون، لأنه لا يزال يوجد بريق في هذا المجتمع وهو لا يشعر بالحاجة على الرغم من أنها موجودة فيه.
فشل النظام العالمي
إننا حتى في بحوثنا العلمية نشعر بالحاجة، فنحن نشعر بالحاجة في كل يوم، فعندما نفتح الكتاب ونقرأ نشعر ونقول لقد اكتفينا بهذا، ولكن عندما نخوض بالميدان مرة أخرى نشعر بالحاجة، فهل هي وظيفة وتوجب على الإنسان أن يعمل؟ ولكن ما هو الشعور بالحاجة؟ إذا أُدخل ابن رجل ما في غرفة الإنعاش - إن الأمهات والآباء يفهمون ما أعني - وإنَّ هذا الابن يعيش في حالة غيبوبة ما بين الموت والحياة، فما هي حالة الأب والأم، إنهما لا ينامان الليل ولا يمكنهما ذلك، فيقصد مسجد (جمكران)(15) أو يذهب إلى حرم السيدة معصومة (عليها السلام)، ويدعو ويتضرع وينهض ليصلي عند منتصف الليل، لماذا؟ لأنه يشعر بالحاجة نتيجة الخطر الذي يحيق بابنه.
فهل نحن ندعو للإمام المهدي (عليه السلام) كما ندعو لولدنا بالمقدار نفسه، وهل ندعو للإمام (عليه السلام) كما ندعو لحاجة من حاجاتنا الدنيوية الصغيرة، على أي شيء يدل هذا؟ فقد ندعو بألفاظ يقولها الإنسان في أي وقت، غير تلك الألفاظ التي يدعو بها الإنسان وهو يمرّ في حالة خطر، من جرب ركوب السفينة في عرض البحر، يعرف ما هي حالة الركاب عندما تتعرض السفينة للخطر، حيث تكون في طريقها إلى الغرق، فما هي حالة ركاب هذه السفينة؟ يقول الإمام صلوات الله عليه: (حيث لا سباحة تغنيك ولا سفينة تنجيك)(16) بمعنى لا أمل هناك، فكيف ستكون حالة الإنسان في تلك اللحظات؟ وكيف سيكون انقطاعه إلى الله سبحانه وتعالى.
يقول القرآن الكريم: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ)(17) هذه هي حالة الاضطرار، لا أعلم من منكم كان موجودا بمنى في عام الحريق الذي اشتعل في المخيمات وقد أخذت حاويات الغاز تنفجر وتتطاير في الهواء لتحرق خيما أخرى، إن النار لها رعب عجيب كما أن الماء له رعبٌ عجيب، لقد كنت أنا في ذلك العام بمنى، حيث التهبت النار في الخيام وفر الحجاج، بعضهم إلى الجبل، وبعضهم ذهبوا في اتجاه الخيام، وقد احترق كثير منهم، أما نحن فقد صعدنا فوق الجبل، وكنا نرى الخيام وهي تحترق ورأينا خيمتنا تحترق كذلك فإنها كانت ذات علامة مميزة.
وقد بدأ الدعاء والتضرع، يا الله اغفر لنا فلقد أخطأنا ولن نعود إلى الخطأ، لا أدري إذا كان بإمكان أحد أن يتصور حالة الإنسان وتضرعه في تلك اللحظات: (فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا)(18). إننا كأفراد، ولا أقول كلنا، لم نصل إلى هذه الحالة مما يدل على أننا لا نشعر بالاحتياج، والبشرية ككل لم تصل حالة الاحتياج بعد -ولو إنها تتململ الآن- فالأنظمة الوضعية لم تقدم للبشرية إلا الدمار الذي يزداد يوماً بعد يوم، ولكن البشر بشكل عام لا يزال لم يشعر بالحاجة، وعنده أمل في غير الله سبحانه وتعالى.
يقول الإمام (عليه السلام): (ما يكون هذا الأمر حتى لا يبقى صنفٌ من الناس إلا وقد وُلّوا على الناس، حتى لا يقول قائل: إنا لو وُلّينا لعدلنا) أنا لا أقول على الإنسان أن لا يدرس أو لا يعمل، فالوظيفة شيء آخر، لكن قلب الإنسان يجب أن لا يكون مشدوداً لدرجة أنَّ الفرج يكمن في عمله، فيقول لو أننا حكمنا لكنّا حوّلنا الدنيا إلى جنة، فلا تفضلوا هذا القول، إن حكمتم لحوّلتم الدنيا إلى جنة أم لا تحوّلونها، لقد حكم الشيوعيون والبعثيون والقوميون والديمقراطيون والرأسماليون، فهل لا يزال لدى شبابنا أمل في هذه الأنظمة؟ ثم يقوم الإمام المهدي صلوات الله عليه بلفظه الآخر الذي يُقام لأجله بالحق والعدل. لقد تعب الجميع وهم يشعرون بأن لا أمل في هذه الأنظمة الوضعية التي دمرتهم وحطمتهم.
لاحظ كم بقعة من العالم تمتلئ بالقتل والتدمير في ظل النظام العالمي الحالي؟ فأي فشل هذا للنظام العالمي؟ وكم نقطة ملتهبة يغصّ بها العالم حالياً؟ ألا يدل هذا على فشل هذا النظام العالمي الذي يبشرون به؟ والى أين تصل مسيرته؟ فالكوارث التي يصبّونها على البشرية لا تعد، ولا نعلم ما الذي يخبئه لنا القدر في ظل هذه الأنظمة الحاكمة؟
في رواية مذكورة في (كمال الدين: المجلد الثاني ص655) سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (قُدّام المهدي (صلوات الله عليه) موتان: موت أحمر وموت أبيض)(19)، إن هذا النظام العالمي يجر البشرية كلها نحو الهاوية: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً)(20) فنحن لا نعيش حالة الأمن والنظام: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ)(21) إن الآثار الوضعية لا تفرق بل تشمل الجميع.
إن (قُدّام المهدي صلوات الله عليه موتان: موت أحمر وموت أبيض) فالموت الأحمر هو الحروب بالسيف، فهذه القنابل الذرية لمن هيّؤوها؟ لقتل البشر طبعاً، فما الذي سيحدث إذا قامت حرب عالمية ثالثة؟ لقد قتلت القنبلة الذرية الصغيرة التي ألقوها على (هيروشيما) في لحظات أكثر من مائة ألف إنسان، وقد بخّرتهم وتحولوا إلى عدم.. أما القنبلة الثانية التي ألقوها على (ناكازاكي)، فربما قتلت أكثر من سبعين ألف إنسان، والمجموع هو مائة وسبعين ألف، فماذا تفعل هذه القنابل التي صنعوها بالبشرية(22).
إن الموت الأحمر بمعنى الموت بالسيف، أما الموت الأبيض فيكون بالطاعون، إن ابتعاد الأنظمة الحديثة والبشر عن الله تعالى هو الذي يولد هذه الأوبئة والأمراض، فكم مليون إنسانٍ مصابون بمرض نقص المناعة المكتسبة الخطير المعدي الذي طال الملايين من الأبرياء أيضا، وتشير الإحصائيات إلى موت خمسة من كل سبعة مصابين، بمعنى أن خمسة أسباع البشرية تنتهي على أثر هذه الأنظمة الوضعية وابتعادها عن الله سبحانه وتعالى.
جاء في (دلائل الإمامة ص249)(23) عن النبي صلى الله عليه وآله:
(أبشروا بالمهدي، فإنه سيأتي في آخر الزمان على شدةٍ وزلازل)(24) فلماذا تحدث الزلازل؟ إنها رعب عجيب، بغتة تشعر بأن البناء الذي بنيته لحمايتك هو يهدد حياتك، قبل فترة حدث زلزال في قم، وكنا حينها في الغرفة، فلاحظنا البناء يتحرك، وفي ثوان لا يعلم الإنسان ماذا يفعل، يتحيّر لماذا تحدث هذه الزلازل، ربما هو فعل البشر، حيث يخبّئ إحدى القنابل الذرية تحت الأرض فتخل بالمعادلات الطبيعية، فماذا يفعل الإنسان في تلك الحالة، ليس له ملجأ آخر، إن ملجأه هو الله وهو المنجي سبحانه.
جاء في (كتاب غيبة النعماني ص269)(25) عن الإمام الباقر صلوات الله عليه في تفسير قوله تعالى: (سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)(26)) يعني بذلك خروج المهدي، حيث: (يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) فهو من عند الله عز وجل ولابد أن يراه الخلق)، وربما تعني هذه الجملة أن الخلق سيدركون أنْ لا ملجأ ولا ملاذ لهم إلا الإمام المهدي (عليه السلام)، في ذلك الحين سيأتي الإمام المهدي صلوات الله عليه كمنقذ ومنجي.
وهنا لا بأس أن نقرأ الحديث المذكور في (كمال الدين ج1 ص318) عن الباقر صلوات الله عليه: (ثم يضع السيف على عاتقه)(27) فكم سيحارب الإمام؟ إنها حرب محدودة سيثيرها الظالمون ضد الإمام ثمانية أشهر فقط، ثم بعد ذلك ينتهي كل شيء، ولعلّ الجو العام يكون مهيّأ لذلك.
ولا بأس أيضا أن نذكر هذه الحادثة، فقد اجتاحت قبل سنوات موجة من الفيضانات بعض دول أوربا وقتلت وشرّدت الآلاف، فلم تشهد أوربا مثل هذه الموجة من الفيضانات منذ مئة وخمسين عاما حتى حدوث موجة الفيضانات هذه، لماذا؟ إن السبب هو ظلم البشر، والسبب أيضا هو رفض الدولة الفلانية التوقيع على بندٍ يتعلق بالشركات الكبرى التي توجه الآن سياسات الدول العظمى، فالحاكم هو الشركات الكبرى التي تحكم وتفرض على الآخرين ما ترغب به، فضغطت على تلك الدولة لكي لاتوقع هذا البند، مما قاد إلى ظهور الخطر العظيم للاحتباس الحراري الذي زاد من درجة الحرارة فأدى بدوره إلى زيادة ذوبان الثلوج وغزارة الأمطار فحدثت هذه الفيضانات(28).
نأمل قريبا أن يأتي اليوم الذي تشعر فيه البشرية أن لا ملجأ لها إلاّ الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه، ولذلك عندما يخرج هذا المنقذ، ستقبل البشرية به ويؤمن به المسيحيون ويلجأ إليه المسلمون، ويمكننا أيضا في هذا العهد أن نسرّع من نضج الناس ووعيهم، لأن العالم تحوّل إلى قرية صغيرة، ففي هذه الغرفة توجد الآن كل الأديان والمبادئ والمذاهب، ويمكن أن يصل التشيّع الآن إلى كل غرفة، ويمكن أن تدخل فكرة المهدي المنتظر (عليه السلام) إلى كل غرفة.
فالحال ليس كما كان في السابق حين كانت توضع علينا الحدود، لا تتكلمون ولا تذهبون إلى مجالسهم ولا تسمعون كلماتهم، فليس هناك حدود بعد الآن، حيث يمكن للشاب أن يدخل في غرفته ويغلق الباب ويرى كل شيء، في هذا العهد يمكننا دفع البشرية وتسريعها إلى الإيمان بالمهدي وانتظاره والتضرع إلى الله سبحانه وتعالى للتعجيل في ظهوره.
ختاماً نذكر هذه الرواية التي وردت في (مكيال المكارم)(29) حيث أوصي الأخوة القراء جميعاً وأوصي نفسي بقراءة هذا الكتاب، فهو بحر من المعرفة والعلم، نذكر مضمون الرواية في (المجلد الأول ص467) إن الله سبحانه كتب العذاب على بني إسرائيل فترة طويلة بسبب موقف لا نتطرق إلى تفصيله الآن، فلما طال عليهم العذاب ضجّوا - نحن أيضا جميعاً نعيش الآن عذاب الغيبة، وإذا لم يشعر الإنسان بعذاب الغيبة فذلك لقصور فيه، لقد حُرمنا من بركات ظهور الإمام - فلما طال العذاب على بني إسرائيل ضجّوا وبكوا وتضرعوا إلى الله أربعين صباحاً، فأوحى سبحانه إلى موسى وهارون أن يخلّصاهم من فرعون، فحطّ عنهم عذاب مائة وسبعين عاماً(30) وخُفّض عنهم على أثر تضرعهم.
وصل الله على محمد وآله الطاهرين.
اضف تعليق