التنمية ليست حُزمة من المشاريع المظهرية، ولا عدد من المشاريع الاستعراضيّة - الاحتفاليّة وليست أيضاً دعوةٌ للتعرُّف، والتفرُّج، على استكمال و"انجاز" هذه المشاريع، جميع تجارب ونماذج وعمليات التنمية الناجحة، في مختلف بلدان العالم، وفي جميع مراحل نهضتها التاريخية، تعاملت مع البعد الاجتماعي للتنمية بعدّهِ شأنا اقتصادياً تنمويّاً ذو عائدٍ وكُلفة...

السؤال الرئيس هنا هو: لماذا باتَ من الصعب (إن لم يكن من المستحيل) تحقيق عمليّة تنمية شامِلة ومُستدامَة في العراق؟

والجواب هو: لأنّنا نرفض جميعاً (حكومات، وشعوب، وقبائل، و"أشباهُ دُوَلٍ" داخلَ "دولةٍ" يُفتَرَضُ أنّها "واحدة")، ومع سبقِ الإصرار والترَصُّد، دفعَ "الكُلَفِ" السياسية والاقتصادية والمُجتمعيّة المُترتِبّة على القيام بهذه العملية (الشاقّة، والمُركّبة، وطويلة الأجل).

كيفَ يُمكِنُ انتظارُ "حصادِ" العائدِ من "مشروعٍ" ما، دون القبولِ بتحمُّلِ كُلفة "تأسيس" هذا المشروع أصلاً؟ لماذا يكونُ "التطفّل" الدائم على عائدات تصدير النفط الخام هو "فِعلُنا" التنمويّ الوحيد، في مواجهةِ جَهلنا، وأمراضنا "الانتقاليّةِ" المُستدامة، وفقرنا، وتخلّفنا المُستدام؟

هل لأنَ هذا "السَطوِ السُلطويّ" على المصادر الرئيسة للفائض الاقتصادي (الفِعلي والمُحتَمَل) في العراق، هو أسهلُ طريقةٍ للحُكمِ والإدارةِ والتحَكُّمِ بالرقاب؟

لم تكن لدينا يوماً "دولة حديثة" (لا من قبلُ ولا من بَعد) في العراق، ولم يكن "التشكيل الاجتماعي" العراقي (ولأسبابٍ شتّى) سيسمحُ بوجودها أصلاً.

ولم يكن لدينا يوماً "مواطِنٌ" في "مُجتَمَعٍ حديثٍ" ومسؤول، يُدرِكُ أنّ للسَخاءِ و"الكَرَمِ" الحكوميّ في منحِ الحقوقِ حدوداً ترسمها الصرامةُ في أداءِ الواجبات.

ولم يكُن لدينا يوماً "رجالُ دولةٍ" مؤسِّسون، و"بُناة"، ينتَظِمون في كيان سياسي وطني جامع، ويعملونَ في إطارهِ وفضاءهِ العام، ويطرَحون على أنفسهم (وعلينا) السؤالَ الرئيس والوحيد الذي ينبغي طرحهُ، وهو: ماذا بعدُ أيّها العراق "العظيم".. وإلى أينَ أنتم ذاهبون بعدَ كُلّ هذا الذي مرّ بكم وعليكم، أيّها العراقيّونَ "الأفذاذ" و"الأشاوس"؟

لو كانت كُلّ هذه "العناصر" موجودة، وفاعِلة، ومُتفاعِلة، لكانَ العراقُ الغنيُّ بالمواردِ الاقتصاديّةِ الآن في مصافِ دولٍ مثل كوريا الجنوبيّة وسنغافورة وماليزيا، وليسَ في مصاف دول يمكن أن تكون (بل وتكاد أن تتحوّل إلى) دويلات فاشلة ومُنقَسِمة على نفسها، مثل لبنان وليبيا واليمن وأفغانستان.. والسودان.

إذا كانت كُلفة التنمية "صِفريّةً"، فإنّ عائدها (الحقيقي وليس المظهري) سيكونُ "صِفريّاً" أيضاً.. وسيُعيدُ كُلّ حاكمٍ أُتيحت له "فُرصةُ" حُكمِ هذا العراق (سواءَ أكان شخصاً أم مجموعة أشخاص) إعادةُ اختراعِ "العَجَلةِ" برؤوسنا من جديد.. هذهِ "العَجَلةُ" التي تمّ اختراعها (في العراق وغير العراق) قبل عشرةِ آلافِ عام.

الخُلاصة :

لا تنمية حقيقية دونَ ثمن.. وثمنٍ باهظٍ أحياناً.

لا تنمية حقيقيّة دون تكلفة مجتمعيّة.

مُراعاة البُعد الاجتماعي للتنمية شيء.. وعدم القبول بتحمُّل أعباء التنمية شيءٌ آخر.

التنمية لها أعباء.. سياسية واقتصادية ومُجتمَعيّة.

عدم القدرة على تحمُّل هذه الأعباء، وعدم القدرة على إدراكها، والتعامل معها، والعجز عن فهم جدواها من عدمه على المدى الطويل.. يعني عدم القدرة على التنمية.

التنمية ليست "حُزمة" من "المشاريع المظهرية" Prestige projects، ولا عدد من المشاريع الاستعراضيّة - الاحتفاليّة Demonstration - Celebration projects .. وليست أيضاً دعوةٌ للتعرُّف، والتفرُّج، على استكمال و"انجاز" هذه المشاريع.

جميع تجارب ونماذج وعمليات التنمية الناجحة، في مختلف بلدان العالم، وفي جميع مراحل نهضتها التاريخية، تعاملت مع البعد الاجتماعي للتنمية بعدّهِ شأنا اقتصادياً تنمويّاً ذو عائدٍ وكُلفة، وليس شأناً سياسياً – شعبويّاً عقيماً، لا تجني منه الأمم وشعوبها غير التهريج.

العراقُ ليس استثناءً من ذلك.. ولا يجب أن يكون.

الدولة التي لا تفهم ذلك، ولا تُدرِكُ أبعاد ذلك، أو تتجاهلُ ذلك.. ليست دولة.

دولة الهِبات و "المكارِم" ليست "دولة"، بل "تجَمُعّاً " تخادميّاً لشيوخ "المضايف" مع اتباعهم "العبيد".

دولة الأجل القصير.. الأجل القصير الدائم.. ليست دولة.

دولة "رَدّ الفِعل" الآنيّ، غيرُ القادرةِ على ممارسةِ أيّ فِعلٍ استراتيجيّ.. ليست دولة.

دولة "الفَزعَة"، و "ها خوتي ها"، "وعليهم خوتي عليهم".. ليست دولة.

إنّها "منظومة" بدائيّة، تستحوذُ على السلطة والثروة، وتمنحها كـ "مكارم" و "هِبات"، لأولئكَ "المحرومينَ" و "المُستَجيرينَ" الذين يطرقونَ عليها.. دائماً.. أبوابَ "المضيف".

وحين تجِفُّ "المنابع".. سيرفعُ "الشيوخُ" أوتادَ خيمتهم، ويمتطونَ دوّابهم، ويفِرّون خِلسَةً إلى حيث أخفوا عن أبناء "القبيلةِ" الجياع، أرصدةَ الماءِ والكلأ.

اضف تعليق