بدأت مسيرة الهجرة باتجاه المدن العراقية منذ عقودٍ طويلة، لاسيما في السنوات الاخيرة... وأخذت كتل بشرية ضخمة تتوافد على المدن الرئيسية لتصبح جزءاً منها ولتواجه فيها أسوأ الظروف غير الانسانية. لكي نستطيع دراسة ظاهرة النمو الحضري في العراق والاندفاعة غير الطبيعية للسكان نحو التجمعات البشرية...
بدأت مسيرة الهجرة باتجاه المدن العراقية منذ عقودٍ طويلة، لاسيما في السنوات الاخيرة... وأخذت كتل بشرية ضخمة تتوافد على المدن الرئيسية لتصبح جزءاً منها ولتواجه فيها أسوأ الظروف غير الانسانية.
لكي نستطيع دراسة ظاهرة النمو الحضري في العراق والاندفاعة غير الطبيعية للسكان نحو التجمعات البشرية الكبيرة في المدن العراقية، لابد من تحليل عاملين مهميّن اثنين وهما:
العامل الأول: يتمثل بالزيادة الطبيعية في عدد السكان.
العامل الثاني: في الهجرات الريفية... ومجموع واقتران العامليّن معاً يؤدي الى سرطان حضري وتفريخ الاحياء العشوائية الفقيرة التي زادت بنسبة كبيرة جداً خلال السنوات الأخيرة، لاسيما في المناطق الوسطى والجنوبية من العراق، والتي تفتقد الى أبسط مقومات الحياة الحضارية.
أولاً: الزيادة الطبيعية في السكان
ان الفارق الناجم عن الولادات والوفيات لدى سكان معينين ولفترة محدودة تشكل العامل الداخلي للنمو الحضري... وتبدو هذه الزيادة في المدن العراقية أعلى منها في مدن البلدان المجاورة للعراق... حيث ارتفاع معدل الولادات الحاصلة على رغم من فقر القرى والارياف الشديد، ويعود ذلك الى عوامل عدة أهمها الاجتماعية والدينية... هذا التناقض يُفسر بأن حياة المدينة العراقية على الرغم من تعاستها بالنسبة للقادمين إليها من المناطق المعدمة، إلا أنها يمكن ان تؤمن لهم الحد الأدنى من الحياة خصوصاً فيما يتعلق بإيجاد فرص العمل وتوفر المواد الغذائية ومياه الشرب الصافية والخدمات الصحية.
وتبقى الحياة في المدن أرحم من الحياة في القرى والأرياف، أي بعبارة أخرى يختار المهاجرون بين الأمريّن الأقل سوءاً، غير ان المدينة بالنسبة للكثيرين منهم تبقى السبيل الوحيد الذي يقدم على الرغم من الظروف المعيشية الصعبة والرديئة للأحياء العشوائية الفقيرة، لتوفر بعض الخدمات الضرورية مقارنة بالمناطق التي قدم هؤلاء الناس منها والتي يمكن القول عنها بأنها مناطق معدمة من جميع الخدمات الضرورية لحياة الانسان.
ثانياً: الهجرات من القرى والارياف الى المدن العراقية
هي حركة وتنقلات السكان المدهشة في البحث عن الحياة الأفضل والأكثر ملائمة، والعامل الأساس والأكثر أهمية في ظاهرة النمو الحضري في العراق... لأنها ترتبط بتخلف بنية القرى والأرياف العراقية الاقتصادية، الاجتماعية والانسانية، وتتمثل عادةً في هجرة السكان من القرى والأرياف الى المدن الرئيسية التي غالباً ما تكون العاصمة بغداد بالدرجة الاولى، وتليها المدن الدينية المقدسة، كالنجف الاشرف وكربلاء المقدسة والكاظمية وسامراء لتوفر فرص العمل فيها على مدار السنة، هرباً من الفقر والعوز وكوارث الجفاف والمجاعات وكذلك الهجرات المستمرة بسبب الحروب التي استمرت لسنوات عدة في زمن النظام السابق، والارهاب والنزاعات المذهبية والدينية والسياسية... وكلما تراجعت الزراعة في القرى والارياف تضخمت المدن العراقية الرئيسية بقوة العمل البشرية، وليس بالإمكانات الصناعية... فطرق الزراعة لاتزال قديمة والمناطق القابلة للزراعة تبقى مهملة بسبب عدم اهتمام الحكومات العراقية بتلك المناطق وتوفير طرق وآليات زراعية حديثة وتوفير الاعتمادات اللازمة لها.
النمو الحضري والتخلف الريفي في العراق
ان ازدياد السكان في العراق مرتبط أساساً بالتخلف العميق في القرى والأرياف نتيجة التسلط الفردي لإدارة البلد ولعقودٍ طويلة، مما نتج عنه سحق البنى الاقتصادية والاجتماعية، على الرغم من ان العراق قد مرّ في ظل حكومات ما تسمى مستقلة... ولكن لا تزال مشكلة التخلف قائمة فيه بل انها تزداد يوماً بعد يوم. وان الحكومات العراقية عاجزة الآن عن حل مثل هذه المشاكل... ولا تزال هجرة السكان من القرى والارياف تندفع نحو المدن الرئيسية الكبرى ويزداد عددها يوماً بعد يوم لأسباب عدة نورد أهمها: ـ
ــ لا يزال العراق من الدول المتخلفة في تنفيذ مشاريع التنمية نتيجة تخلف البرامج والخطط التنموية بسبب اعتماد نظام المحاصصة الحزبية المقيت في ادارة مؤسسات الدولة.
ــ عجز الحكومات العراقية في تسيير ادارة المشاريع الزراعية والصناعية على حدٍ سواء بسبب عدم كفاءة القيادات الادارية والمهنية، ولايزال الروتين الاداري المستحكم والمحسوبيات والفساد المستشري تعيق كل محاولات التقدم والازدهار.
ــ عدم تمكن جميع فئات المجتمع الاستفادة من واردات الدولة والمساعدات التي تقدمها ولجوء البعض من المواطنين الى الاقتراض من البنوك والمرابين بفوائد كبيرة جداً.
ــ الدور السلبي للنشاط التجاري في المدن العراقية بسبب بنيتها الموروثة، وذلك باستيراد أكثر حاجات البلاد من الخارج وهذا يلحق الضرر بقطاعات النشاط التي تشكل حياة البلاد الداخلية كالزراعة والصناعات المحلية والحرف التقليدية.
ــ النقص في وجود أسواق مهمة (منافذ التوزيع) في القرى والأرياف بسبب عدم وجود شبكات الطرق.
ــ إغراء وتشجيع اليد العاملة الشابة الزراعية في القرى والارياف بالانخراط في أجهزة الجيش والشرطة والأمن والمخابرات وإغرائهم بالمال وغير ذلك.
ــ تمركز الخدمات التعليمية والصحية والصناعات وشبكات الطرق في المدن وانعدامها في القرى والارياف.
ونتيجة للأسباب التي ذكرت أعلاه وغيرها فإن الهجرة من القرى والارياف العراقية الى المدن تزداد يوماً بعد يوم، وهذا ما يزيد في تعميق الأزمة ويساعد على افراغ القرى والأرياف العراقية من سكانها خصوصاً اليد العاملة الشابة والى هجر الاراضي الزراعية وتدهور الانتاج الزراعي والى تخلخل في الزيادة السكانية في القرى والارياف.
أما المدن العراقية الكبيرة فتعاني بدورها من الاكتظاظ بالسكان وزيادة اليد العاملة فيها ومن أزمات الخدمات الاجتماعية والصحية والتعليمية والسكن والتموين ومياه الشرب الصافية والطرقات والادارة وارتفاع الاسعار وغيرها.
وبسبب هذا النمو الحضري المشوه الذي تفرضه ظروف التخلف تلجأ الحكومات العراقية الى دعم أسعار المواد الغذائية واستخدام البطاقة التموينية في توزيع المواد الغذائية دون مقابل، مما تؤثر على ميزانية الدولة التي من المفروض ان تذهب هذه الاموال الى دعم مشاريع التنمية والاعمار.
دور المدينة في العراق
ان المدن العراقية اليوم غريبة على عاداتنا وتقاليدنا، كل شيء فيها مصطنع وغريب ولا علاقة له بالتقدم الحاصل في الدول الاخرى... الأبنية المشوهة، السلوك، التصرفات، الفساد، الاحتياجات، كلها مستوردة ولا تمت بصلة الى بيئتنا الاجتماعية الجميلة والمتوارثة... فإنها صورة مشوهة في مخططاتها التنظيمية وأنماط بنائها وفعالياتها.
فالمدينة لاتزدهر إلا عندما تنتج ما كانت تستهلكه وتصدر الفائض منه.
جذور المشكلة ومعالجتها
ان المشكلة في حقيقتها تكمن في تخلف القطاعات الانتاجية وما يتعلق بها من بنى اجتماعية وثقافية، لذلك فأنه من البديهي أن يبدأ العلاج من الجذور وبشكل متناسق ما بين كافة القطاعات... فنجاح ظاهرة النمو الحضري تمر أولاً بالتنمية الريفية وبالتبادل النشط بين الريف والمدينة، وبإعادة توزيع المراكز الحضرية عن طريق تخفيف الضغط عن التجمعات السكانية الكبيرة، من خلال بناء مدن سكنية ثانوية خارج المدن الرئيسية تستقطب الفائض من المدن الكبرى... وإنشاء مجمعات سكنية في القرى والارياف تتآلف مع البيئة المحيطة بها، وتتوفر فيها كافة الخدمات الضرورية.
ان مشكلة النمو الحضري في العراق ستبقى قائمة كما هي وتزداد يوماً بعد يوم طالما ان المدن العراقية تنفتح على عشرات الآلاف من العاطلين عن العمل الذين يعيشون في ظروف مأساوية نتيجة السياسات الخاطئة من قبل الحكومات العراقية خلال العقود الماضية، والتي تفاقمت في السنوات الأخيرة.
ولاحل لتلك المشكلة المزمنة إلا بانتهاج سياسات سليمة للتطور الحضري تعتمد على العلم والمعرفة، تبدأ:
أولاً: بالاهتمام والتركيز على القرى والارياف وتوفير كافة الخدمات الضرورية اللازمة لها وتطويرها وتحسينها والابتعاد عن الاساليب الشكلية والروتين الاداري والمحسوبيات ونظام المحاصصة الحزبية المقيت في ادارة مؤسسات الدولة...
ثانياً: إيجاد الحلول العلمية السليمة لمشكلة سكنة الاحياء العشوائية في محيط المدن الرئيسية التي ازدادت في السنوات الاخيرة بسبب عجزهم عن امكانية تأمين سكن أو مأوى لائق بهم، مما يؤدي الى تفاقم المشكلات الامنية والخدمية والاجتماعية والصحية والانسانية والبيئية التي يعاني منها العراق في الوقت الحاضر.
اضف تعليق