ان وجود خطوات واضحة واستراتيجية حقيقية تتسم بالاصالة والقدرة على التنفيذ بالشكل الذي يحدد دور الدولة التنموية في الاقتصاد يمكن الاقتصاد من النهوض والانطلاق وكما حصل في دول شرق آسيا، شريطة أن تؤخذ الظروف الموضوعية في رسم شكل الدولة التنموية ومسارها في المستقبل...
عانت معظم دول العالم الثالث من مشاكل تحقيق التنمية في بلدانها، تارة بسبب اعتمادها لنماذج جاهزة لم تكن متوافقة مع امكانياتها الاقتصادية والاجتماعية، وتارة اخرى لعدم وجود نموذج اصيل قادر على تحقيق اهدافها التنموية المطلوبة، فضلاً عن ان النجاحات التي كانت تتحق سرعان ماتتضمحل او يخفت بريقها بمرور الوقت لتعود لوضع الازمة كنتيجة لعدم المواصلة والاستمرار في تطوير البرامج والنماذج التنموية لها، الا ان هذا لم يمنع دول اخرى من تحدي كل هذا والعمل على وضع نموذج انمائي خاص بها ينطلق من حاجتها وامكانيتها وظروفها الاقتصادية، وهو مانجحت به دول شرق آسيا كاليابان وكوريا الجنوبية وهو ما يعرف بنموذج الدولة التنموية.
إن مصطلح "الدولة التنموية" يشير إلى الدولة التي تتدخل وتوجه مسار التنمية الاقتصادية. وهي ترتبط بالأساس بنمط السياسات الاقتصادية التي اتبعتها حكومات شرق آسيا في النصف الثاني من القرن العشرين، وتتمثل بالتحديد في نموذج الاقتصاد الياباني بعد الحرب العالمية الثانية. وقد حدد المؤلف المعالم الرئيسية لهذا النموذج في المعالم التي حددها شالمر جونسون في كتاب له حول الموضوع، وهي على النحو التالي:
- توفر بيروقراطية من نخبة الدولة صغيرة العدد وغير مكلفة من أصحاب المواهب الإدارية المتميزة. وتتمثل مهامها في تحديد واختيارات الصناعات التي تحتاج للتطوير، أي وضع سياسة صناعية، وتحديد واختيار أنجع الطرق لتطوير هذه الصناعات في أسرع وقت، أي سياسة الترشيد الصناعي، والإشراف على القطاعات الإستراتيجية المحددة لضمان جودة وتأثير عملها الاقتصادي. هذه المهام الثلاث يتم تنفيذها في ضوء تدخل الدولة باستيعاب قوى السوق.
ولعل المؤلف هنا يشير في مواضع داخل المقال إلى حسن اختيار الشركات المتعاونة في عملية التنمية، أي السماح لقوى بعينها للمشاركة في التنمية، بحيث يكون الهدف ليس الربح السريع، وفق معطيات السوق، بل لها أن تتنافس فيما بينها لخدمة هدف أسمى وهو "تنمية اليابان".
- استخدام آليات الجمع بين آليات السوق وتدخل الدولة في الاقتصاد، وقد قدمت اليابان نموذجا على ذلك تمثل في بناء مؤسسات مالية حكومية ذات نفوذ كبير، وصلاحيات واسعة، وأهداف محددة، وتقوم بالمراجعة للحوافز الضريبية، وتضع الخطط التي تحدد أهداف الاقتصاد، ولها أن تنشئ منتديات رسمية عديدة ومستمرة لتبادل الأراء ومراجعة السياساتن والاستفادة منها في حل الخلافات، كما تعمل على منح بعض وظائف الحكومة لمنظمات خاصة وشبه خاصة. ومن هذه الإجراءات الاعتماد الواسع على الشركات العامة، وبالذات التي هي شراكة بين الحكومة والقطاع الخاص في ملكيتها، لتنفيذ السياسة في المجالات ذات المخاطر الكبيرة، وأن تخصص الحكومة ميزانية للاستثمار، وتوجيه سياسة للتنافس الدولي والتنموي وليس فقط الحفاظ على المنافسة المحلية، ورعاية الحكومة للبحث العلمي وتطبيقاته (صناعة الحاسب الآلي).
- وجود تنظيم ريادي مثل وزارة الصناعة والتجارة اليابانية. هذه الهيئة المنظمة التي تضبط السياسة الصناعية تحتاج أن تتحكم في التخطيط وصناعة الطاقة والإنتاج المحلي والتجارة الدولية والتمويل (سياسة توفير رأس المال وتحديد الضريبة). وأهم مميزات هذه الهيئة الضابطة هي صغر الحجم، وتحكمها غير المباشر في ميزانيات الحكومة، وامتلاكها مركزا بحثيا، ولها مكاتب لتنفيذ السياسة الصناعية، وتمتاز بطابعها الديمقراطي، وليس لها نظير في النظم الديمقراطية الصناعية المتقدمة وهناك اتجاهان في وصف الدول التي تتدخل في مجال الاقتصاد. بحسب المركز العربي للبحوث والدراسات.
الاتجاه الأول في مجال العلاقة بين رجال الأعمال والحكومة وهو يركز على تنظيم المنافسة الاقتصادية لا أكثر ولا أقل مثل الولايات المتحدة الأمريكية، والاتجاه الثانى لا يقنع بتنظيم المنافسة وإنما تقوم الدولة فيه نفسها بالتنمية تخطيطا وتنفيذا، ويمكن أن يشارك القطاع الخاص فى هذا المسعى. ومن هنا يختلف هذا النموذج عن النموذج الرأسمالى التقليدى الذى ينفرد فيه القطاع الخاص بجهد التنمية. ويمكن القول إنه منذ أن سك (جونسون) مفهوم الدولة التنموية والجدل لم ينقطع حول سلبياتها وإيجابياتها بحسب جريدة الاهرام.
ان التجارب التنموية المتعددة في جنوب شرق آسيا، عكس ما يروى من أساطير عنها، دلَّلَت على أهمية دور الدولة في التخطيط الاستراتيجي، وتغيير تركيبة القطاعات الاقتصادية في تلك البلدان، ودعم الصناعة، من خلال منح حوافز للصناعات الممكن تصديرها، والترويج للاستثمار في هذا المجال، وتالياً، تحقيق معدلات نمو استثنائية في الناتج المحلي الإجمالي، فالتحول الجذري في هياكل الإنتاج، تمثل آسيوياً بالانتقال من صناعات خفيفة إلى صناعات حديثة ومتقدمة تقنياً، مثل صناعة الالكترونيات، ضمن توجيه الدولة وإشرافها، وفي إطار تخطيط استراتيجي، اتسم بالانحياز إلى الصناعات التصديرية. الصادرات في تلك الدول لم تكن المحرك لعمليات النمو والتنمية، كما في حالة الدول التي تُصدر سلعاً أولية مثل النفط والمعادن، بل كان العكس صحيحاً، أي أن عمليات النمو والتنمية التي وجهتها الدولة، ساهمت في تحفيز الصادرات، فنتج النجاح الضخم للتصدير في دول شرق آسيا. كذلك، كان للسياسات المساندة، مثل السياسات التعليمية، دور أساسي في إنجاح عملية التنمية هناك.
اما في كوريا الجنوبية، فقد كان التفوق الصناعي الذي نشهده نتاج السياسات الحكومية التدخلية، من حيث دفع الشركات الصناعية لتكوين وحدات اقتصادية عملاقة لدخول الأنشطة الصناعية المتقدمة تقنياً، ودعم رؤوس الأموال الوطنية بتقييد الاستثمار الأجنبي المباشر، وتقديم التسهيلات للمجمعات الصناعية العملاقة، التي أصبحت منتجاتها علامات تجارية شهيرة في العالم اليوم. بالتأكيد ساعدت كوريا في نهوضها التنموي المساعدات الأمريكية الكبيرة، الاقتصادية والعسكرية، لكن منذ منتصف السبعينات وحتى التسعينات، اعتمدت كوريا على الجهد الذاتي في الادخار، وحققت قفزة تنموية هائلة منذ منتصف الثمانينات، كما أن رؤوس الأموال الأجنبية لم تساهم مساهمة كبيرة في عملية التنمية الكورية، وقد كان الاستثمار الأجنبي محدوداً بقطاعات مثل البتروكيماويات والالكترونيات ومعدات النقل.
لم تحصل عمليات الخصخصة في غالب التجارب الآسيوية الناجحة تنموياً إلا على مراحل وبالتدريج، بعيداً عن عقيدة (الصدمة) النيوليبرالية، وكذلك الأمر مع فتح الأسواق للاستثمار الأجنبي، فقد حصل بالتدرج، وبتقييد كبير، يحمي الصناعات المحلية. في المقابل، قامت مصر في السبعينات، باعتماد الوصفة النيوليبرالية في الخصخصة، القائمة على الصدمة، وإنهاء دور الدولة في التوجيه والتخطيط الاستراتيجي، لمصلحة الشركات الخاصة، وضمن حالة غير إنتاجية، وهذا نموذج للعديد من الدول النامية، التي ابتلعت أساطير نيوليبرالية، فجنَت كوارث اقتصادية بحسب صحفية اليوم.
ويبدو بأن مصر ليست الوحيدة في ذلك وفي تطبيق الوصفة النيوليبرالية وصدم اقتصادها الذي كان يعرج بساق ضعيفة في الاصل، بل تبعها في ذلك العراق باعتناقه لمبدأ الصدمة في ان يحول اقتصادها وبلمسة ساحر الى اقتصاد سوق حر، وان كان شكلاً هو كذلك ومضموناً هو العكس، وبالتالي على القائمين ان يفهموا أهمية دور الدولة التنموي في تطوير القطاع الخاص ليتسنى له قيادة العملية التنموية في البلد، وان يبقى دور الدولة بعد ذلك توجيهياً او تأشيرياً كما موجود في فرنسا فقد يحدد الاهداف العامة للتنمية. ان الدولة التنموية ليس تكريس لشمولية الدولة او هو ستار لبقاء اشتراكية الدولة بقدر ما هو تصحيح مسار التنمية في بلدان ظروفها تختلف عن البلدان التي نجح فيها نموذج الحرية الاقتصادية والوصفات النيوليبرالية الجديدة، وبل ذهبت بعض الدول للاسترشاد بالنموذج الصيني والذي شراكة الدولة مع القطاع الخاص ونجاح الصين في تحقيق معدلات نمو كمية ونوعية هائلة في هذا المجال.
ان وجود خطوات واضحة وستراتيجية حقيقية تتسم بالاصالة والقدرة على التنفيذ بالشكل الذي يحدد دور الدولة التنموية في الاقتصاد يمكن الاقتصاد من النهوض والانطلاق وكما حصل في دول شرق آسيا، شريطة أن تؤخذ الظروف الموضوعية في رسم شكل الدولة التنموية ومسارها في المستقبل.
اضف تعليق