هيمنة السلطة السياسية، كانت وما تزال هي المرجعية والفيصل في تفاعل وطبيعة عمل المؤسسات الثقافية والإعلامية في العراق منذ أكثر من نصف قرن. فوزارة ثقافة البعث الصدامي كانت واجهة وإنعكاس للسياسة الدكتاتورية ووكيل المديح وتلميع صورة الطاغية وتقديمه كبطل وتسويق ثقافة الحرب والعنف والخنوع والخوف...
ورقة دراسة موجزة: د. جواد بشارة
ما هي الثقافة؟ من هو المثقف؟ ما هو الإعلام؟ من هو الإعلامي؟
قيل سابقاً في وصف المثقف: إنه الشخص الذي يعرف كل شيء عن شيء (الإختصاص) وشيء عن كل شيء (المعرفة الموسوعية). فهل هذا الوصف ينطبق على من نسميهم مثقفين في العراق اليوم؟ هل ما يزال هناك فضول معرفي ونهم في القراءة لدى العراقيين الموصوفين بالمثقفين كما كان المثل السائد (مصر تكتب وبيروت تطبع والعراق يقرأ)؟
قد يكون هذا التشخيص صحيحاً في خمسينات وستينات وسبعينات القرن الماضي، لكنه قطعاً لا يصلح على شريحة كبيرة ممن نسميهم مثقفين في العقدين الأولين من القرن الواحد والعشرين، ومنذ أن بدأ العد العكسي لعملية التجهيل والعزل للمثقفين العراقيين وللثقافة العراقية منذ سنة 1980 وهي بداية الحرب العراقية الإيرانية، فالثقافة في العراق اليوم هي ثقافة تجهيل وبث الخرافات والإيمان بها وسيادة العقل الخرافي، وليس ثقافة معرفة وتطوير للذات الواعية ومسايرة العلوم والنظريات العلمية والمدارس والتيارات الحداثية في كافة المجالات. ولا أدري ما هو سبب الإصرار على ربط الثقافة بالإعلام لدى العراقيين حتى إن النظام الشمولي السابق أوجد وزارة بهذا العنوان وهي وزارة الثقافة والإعلام، وحتى في مجلس النواب الحالي هناك لجنة للثقافة والإعلام بل وحتى لدى المعارضة للنظام الحالي هناك قسم للثقافة والإعلام في هيئة علماء المسلمين. فتحرير الموصل من براثن داعش الإرهابية من وجهة نظر النظام هو إعتداء على الموصل من وجهة نظر مسؤول الثقافة والإعلام في هيئة علماء المسلمين في حينها، حيث كان التصريح آنذاك بأن الميليشيات الإيرانية هي العمود الأساس في العدوان على الموصل.
فالإعلام ميدان مستقل عن الثقافة كلياً رغم أن الإعلامي الجيد والمهني الكفء يفترض به أن يتمتع بقدر معين من المستوى الثقافي اللازم لكي يمارس مهنته الإعلامية على وجه صحيح.
الإعلام مهنة تدرس في الجامعات ولها أصولها وقواعدها ولغتها الخاصة ومعاييرها المهنية. وهناك إعلام محايد وإعلام متحيز، إعلام هادف وإعلام مضلل، إعلام مكتوب وإعلام مرئي وإعلام مسموع وهناك إعلام شعبي يمارس على صعيد شبكات التواصل الإجتماعي كالفيسبوك وتويتر ويوتيوب وغيرها، ويمكن أن يكون أداة لغسيل الأدمغة والتحكم بالرأي العام وتوجيهه الوجهة المطلوبة من قبل الأنظمة الشمولية والديكتاتورية الإستبدادية الحاكمة كالنظام العراقي السابق. وفي العراق هناك نوع من التداخل المقصود بين عالم الثقافة وعالم الإعلام حيث أن هناك العديد من المثقفين والمبدعين، شعراء وروائيين وكتاب وباحثين يمارسون العمل الصحافي ويعملون في مؤسسات إعلامية حكومية وأهلية تابعة لأحزاب أو شخصيات ثرية.
وبإمكان المثقف أن يكون إعلامياً ناجحاً والعكس ليس صحيحاً فليس كل إعلامي أو صحافي أو معد أو مقدم برامج تلفزيونية أو محرر في صحيفة أن يكون عضوا فاعلاً ومنتجاً في الوسط الثقافي. ففي الفترة النازية كانت الثقافة عدو وخصم لدود للإعلام النازي حتى يشاع عن غوبلز وزير الإعلام والدعاية النازي عن هتلر كان يقول: "عندما أسمع كلمة ثقافة أتحسس مسدسي". وفي العراق المعاصر، إبان النظام السابق أو في ظل النظام الحالي، لا تُعَدُّ الثقافة مهنة ولا يمكن للمثقف أن يعيش من نتاجه الثقافي (قصة، رواية، ديوان شعر، بحث أو دراسة أو كتاب ينشر في أحد المجالات الثقافية والبحثية) كما هو الحال مع المثقفين في العالم الغربي المتقدم. فالمثقف كي يعيش عليه أن يزاول مهنة كالتدريس أو أية وظيفة حكومية أو في مؤسسة خاصة تؤمن له مرتب شهري مريح ومضمون ولا يشترط في مثل هذه المهن أن يكون من يمارسها مثقفاً.
فالمثقف كائن يتمتع بحس ووعي عالٍ وإدراك متقدم لما يحيط به من أحداث وتطورات وصراعات في عالمنا ويمتلك فضولاً معرفياً ومتابعة لأغلب منابع المعرفة (القراءة للكتب والصحف والدوريات والنتاجات الإبداعية كالرواية والشعر والمسرح والسينما والفنون التشكيلية والموسيقى وغالباً ما يمتلك مكتبة غنية بمختلف المؤلفات والاختصاصات الخ).
الثقافة والإعلام والصحافة في العراق:
الإعلام وسيلة مؤثرة على الإنسان الفرد والمجتمع وعلى العقل الفردي والجمعي إنطلاقاً من طبيعتها ووظيفتها ودورها في تشكيل الرأي العام وترسيخ القناعات والمعتقدات في نفوس عدة أجيال وفئات عمرية. فلكل فئة وجيل لغته الخاصة وخطابه الخاص الذي تستخدمه وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية والمسموعة لضمان التأثير والإقناع والتحكم بالبناء الفكري والإجتماعي والنفسي للفرد والمجتمع. والإعلام ليس نشاطاً منعزلاً في برج عاجي بل هو متداخل مع السياسة والاقتصاد وتستخدمه الشركات وأصحاب رؤوس الأموال والسياسيين في كل مكان في العالم والعراق لا يشذ عن هذه القاعدة.
تتجاذب التطلعات المستقبلية للتطوير والاحتكاك والإطلاع على تجار العالم والأمم المتقدمة، وفي نفس الوقت الحنين للماضي وهيمنة ثقافة وإلام السلطة الاستبدادية وتوفيرها لسبل عيش المثقفين والإعلاميين المتواطئين والمتعاونين الخانعين، بذريعة المحافظة على الموروث القديم والدفاع عن أسسه الأخلاقية والفكرية ومعتقداته الدينية والإجتماعية. وهذا يمس أغلب العاملين في الوسطين الثقافي والإعلامي مما يشكل عقبة أمام أي تحول أو تنمية ثقافية ممكنة وبالشكل الصحيح. فهيمنة السلطة السياسية، كانت وما تزال هي المرجعية والفيصل في تفاعل وطبيعة عمل المؤسسات الثقافية والإعلامية في العراق منذ أكثر من نصف قرن. فوزارة ثقافة البعث الصدامي كانت واجهة وإنعكاس للسياسة الدكتاتورية ووكيل المديح وتلميع صورة الطاغية وتقديمه كبطل وتسويق ثقافة الحرب والعنف والخنوع والخوف والإذلال.
أما وزارة الثقافة اليوم (التي عشتها من داخلها باعتباري كنت أحد مدرائها لفترة وجيزة في بدايات التغيير) فهي تعبير عن حالة العجز والفوضى وغياب الأفق الثقافي الحقيقي لدى القائمين عليها وهم الذين يبحثون عن المال والسلطة والامتيازات والشهرة وغير ذلك، رغم فقرها وإهمال الطبقة السياسية الحاكمة لها، وكأنها عبء لا فائدة منه. فالنشاط الثقافي الحقيقي يكاد يكون منعدماً وماهو موجود ليس سوى مناسبات للسرقة والنهب للمال العالم تحت عناوين ثقافية براقة مثل بغداد عاصمة الثقافة العربية وغير ذلك من الفعاليات والمهرجانات الخاوية والساذجة والمثيرة للسخرية.
تساءل الكاتب والشاعر والسياسي المعروف د. نبيل ياسين في إضاءة إعلامية له:
تضعنا تجربة وزارة الثقافة ووزرائها غير المعنيين بالثقافة العراقية أمام سؤالين اثنين: الأول: ألا يتحمل رئيس الوزراء مسؤولية اختيار وزرائه، أم إن قوائم المحاصصة كانت القرار الفصل في الاختيار؟ والثاني: ماذا فعلت المؤسسات والمنظمات الثقافية إزاء العبث بالثقافة العراقية، وهل كانت تحمل مشروعاً ثقافياً واضح المعالم والدلالات والرؤية الثقافية؟ أم إننا أمام حملات إعلامية لا غير؟. والأمر ذاته ينطبق على المؤسسة الثقافية الأولى والأهم في العراق وهي "الإتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق" الذي يعاني من الركود وقلة الإمكانيات مايعيقه عن حمل مسؤولية ومهمة إعادة بناء وترميم الثقافة العراقية المستباحة في الوقت الحاضر من قبل التثقيف الديني الغيبي وثقافة الممنوعات والتابوات المحرمة التي تفرضها بعض المؤسسات الدينية من كافة الانتماءات.
وبهذا الصدد يقول د. نبيل ياسين:" لا يبدو أن "الاتحاد" في واقعه الحالي ومنذ سقوط النظام السابق وحتى الآن في صدد إعادة ترتيب أولوياته الثقافية على مستوى الإعداد والتنظيم والتحليل والبرنامج وإشاعة الثقافة النقدية وثقافة الحوار واستيعاب التعدد الثقافي في العراق، للإسهام في بناء رؤية ثقافية ورأي عام وطني ثقافي نقدي يمكنه ان يزيح الحجر الجاثم منذ عقود بفعل الكلمة والوضوح والاستغراق في فهم شروط المرحلة الثقافية وأهمية الانتشار والتنسيق مع القوى الثقافية على تنوعها وأشكالها على مستوى فروع الاتحاد في المحافظات والاشتغال لكشف الطاقات ومدى تأثيرها في المحيط الاجتماعي الثقافي وعلى مستوى الجامعة العراقية ومراكز البحوث والدراسات ومنظمات المجتمع المدني ذات الأبعاد والنشاطات الثقافية”. ويضيف مستدركاً:" لا ينكر احد منا أهمية النشاطات الثقافية التي يتولاها مركز "الاتحاد" في بغداد، إلا أنها تظل محدودة في إطارها الثقافي، اذ يمكن ان تنجزها منظمات ثقافية من دون ضجيج أو حملات إعلامية". هل بوسع الإتحاد استثمار الطاقات العراقية الخلاقة داخل الوطن وخارجه والتنسيق فيما بينها لطرح صورة حقيقية وواقعية لواقع الثقافة في العراق وسبل تطويره وانتشاله من الهوة التي يغرق فيها؟
منذ التحول السياسي والاقتصادي الكبير في العراق عام 2003 ازداد عدد خريجي الجامعات والمعاهد، الحكومية والأهلية، ونزول عدد كبير من هؤلاء الخريجين إلى سوق العمل في مؤسسات صحفية وإعلامية حتى بدون امتلاك خبرة مهنية وممارسة مهنية متراكمة وبعضهم عمل بنظام القطعة أو بالعقود المؤقتة المحدودة الأجل، سواء داخل مؤسسات إعلامية حزبية أو مكاتب صحفية أهلية أو نشرات غير دورية. وبسبب قلة كفاءتهم المهنية أصبحوا فرائس سهلة لتجنيدهم لممارسة جرائم التشهير والتسقيط والتشويه للسمعة بقصد الابتزاز.
وتجدر الإشارة إلى أن هناك قانون ينظم الفساد والتدني في النشاط الإعلامي هو قانون 206 الصادر عام 1968 بغية تنظيم عمل الإعلام ووسائل الإعلام والنشر بما يتوافق مع رؤية ومخططات ونوايا حزب البعث الحاكم وأنيطت المهمة بمكتب الثقافة والإعلام في القيادة القومية لحزب البعث المنحل الذي تولى مهمة توجيه السياسة الإعلامية في العراق والسيطرة عليها وتحديد ملامحها ما أدى إلى ظهور إعلاميين إنتهازيين تسببوا في تدهور الصحافة ووسائل الإعلام الأخرى وتحويلها إلى مؤسسات إعلامية حكومية دعائية فجة وهزيلة تدعو للسخرية.
وما يزال الإعلام العراقي حتى اليوم يعاني من تلك الصورة السلبية الهزيلة عن الإعلام العراقي ما قبل 2003 وما بعدها. وهناك قانون مماثل (ولكن للثقافة) هو قانون 94 لسنة 1981 للسيطرة على الأنشطة الثقافية والفنية والإبداعية لنشر فكر حزب البعث الحاكم وبث الدعاية له ومحاربة الاتجاهات المنافسة أو المعارضة والسعي لكسب الرأي العام العراقي والعربي والعالمي إن أمكن من خلال بث الرؤية الحكومية الرسمية وإنتاج الثقافة المتطابقة مع مطالب الحزب الحاكم والتطبيل له من خلال جميع الإنتاج الثقافي أياً كان شكله.
وكما قال الباحث والإعلامي د. نبيل ياسين: أنّ الصحافة المستقلة مفهوم متوقف مفرغ من محتواه، ملتزم بقوانين مجلس قيادة الثورة التي تعمل بها نقابة الصحفيين وتصر على استمرارها لمصادرة حرية الرأي والهيمنة على الحياة الإعلامية في العراق واحتكار امتيازات الحكومة. وتبقى القوانين القديمة المعمول بها لحد الآن تمنع التعددية وتأسيس نقابات أو إتحادات أخرى منافسة كما هو الحال في جميع الديموقراطيات الحقيقية في العالم.
الحلول المقترحة:
لا يوجد حل سحري لإنتشال الوضع الثقافي والإعلامي المتردي في العراق إلا بمنحهما الحرية الكاملة لممارسة دورهما على أكمل وجه وتوفير الإمكانيات المادية اللازمة وتوفير الفرص للكفاءات والقدرات الكامنة للشخصيات الثقافية والإعلامية المعروفة والمشهود لها بالكفاءة والجدية والخبرة أن تمارس نشاطاتها وتشرف على إعداد وتأهيل أجيال جديدة من الإعلاميين وخلق البيئة الملائمة لتنشيط الإبداع الثقافي والفني في جميع المجالات الثقافية والفنية (نشر الكتب والمجلات وإنتاج الأفلام والمسرحيات وإنشاء مراكز أبحاث وترميم التخصصات الجامعية والأكاديمية الرصينة في هذين الحقلين وإبعاد السياسية والسياسيين عن المثقفين والإعلاميين وحمايتهم بتشريعات ملزمة وحماية مصادر المعلومة وحرية التعبير).
اضف تعليق