\"يتعلق الأمر بمنح الأولوية إلى قوى الإبداع والخلق والعمل. وينبغي القفز على العوائق والاحراجات التي تمنع وتعقم\"1
من المضحك في الوقت الحالي الحديث عن أزمة عابرة في المجال الاقتصادي بالنسبة للدولة الضعيفة وذلك لفشل البدائل العمومية الاجتماعية من ناحية والعزم على الذهاب إلى أبعد من التصورات التحررية الخاصة من ناحية مقابلة، والبحث الجاد عن إنقاذ في إطار سلطة القرار الاستثنائي من جهة والنظر إلى الدولة بوصفها الحل وليست المشكل من جهة ثانية.
بهذا المعنى مارس الفكر الاقتصادي أسلوب الإعلام المراوغ والمحذر بحيث لم يتوانى عن إعلان وجود الأزمة المستفحلة وعن سرد حكايات عن المشكلة الشاملة ولكنه لم يقم بتشريحها ولم يحولها إلى مادة للتفكير الاستراتيجي وظل متمسكا بمراجعة النظريات الاقتصادية وتقديم الحلول الإصلاحية الترقيعية، وأمسك عن التفكير في الأزمة بالمعنى الهيكلي وبقيت الأزمة من الناحية الاقتصادية أمر غير مفكر به.
لكن هل يؤدي تخطي الأزمة المالية إلى تحقيق نسب هامة ومعدلات مرتفعة في التنمية والايرادات والفوائد على الصعيد الاقتصادي؟ الى أي مدى يفاقم العجز المالي للدول من حدة الاحتدام بين الطبقات ويزيد من الغضب الشعبي على الحكومات؟ وماذا لو تدخلت السياسات المالية في امتصاص الحركات الاحتجاجية؟
أن نفكر في الأزمة الراهنة من الناحية الاقتصادية هو أن نولي عناية قصوى بالأنماط الموازية ونهتم بمظاهر اختفاء السوق بالمعنى المنظم والمهيكل للكلمة وما رافقه من انحباس في تدفق للسيولة المالية. إذا كانت الرأسمالية تعتمد على الهدم الخلاق من أجل الإنتاج وتطرح مشكلة الاستمرار في الاستثمار ومراكمة الربح وخلق الرفاه للجميع فإن الاشتراكية تواجه مشاكل في مستوى الوظيفية في آليات الاشتغال وتحرص على تطوير القطاع العام وضمان العناية بالمسألة الاجتماعية وتراهن على الابتكار من أجل تنمية المال المشترك2.
ليست البشرية فقط على حافة أزمة اقتصادية منظومية تهدد بتفشي الجوع والعطش والمرض والعوز وإنما هي أيضا تعاني من فشل البدائل وعجز الخيارات التنموية المعتمدة وتقطع أوصال النشاط المادي ويظهر ذلك بصورة واضحة في اضطراب المبادلات وخلل في التوزيع وتدني قيمة تداول العملات في البورصات وتزايد مديونية الدول الضعيفة وتلازم ارتفاع نسق العولمة بتدني مستويات النمو والتعافي.
على هذا المنوال يتحمل أصحاب رؤوس الأموال ورؤساء الشركات وباعثو البنوك العالمية المسؤولية في بناء اقتصاد عالمي يجمع بين نجاعة الاستثمار والإنتاج والفائدة وعدالة فرص الشغل والتنمية المستدامة وفي تخليص الشعوب من التبعية وتخفيف اقتصاديات الدول الضعيفة من عبء الديون المتخلدة بذمتها في ظل انتشار الفساد السياسي والإداري وتزايد نفقاتها على تمويل فض النزاعات الداخلية بعد تكاثر الحروب الأهلية والتحديات الخارجية وعجزها عن فرض على أرضها وعن تحكمها بصورة تامة على ثرواتها.
لا يكمن المشكل فحسب من الناحية الاقتصادية في ازدياد درجات التفاوت على مستوى الاستثمار والإنتاج والتبادل والاستهلاك بين المركز والمحيط وبين الجهات الساحلية والجهات الداخلية وبين الغرب والشرق وبين الشمال والجنوب وإنما يزيد على ذلك انتشار الفساد في الحياة الاقتصادية واقتران آفة التهريب بداء الإرهاب والجريمة المنظمة وتعدد مسارب الاقتصاد الموازي والأنشطة المنفلتة والمخاطر المترتبة عنها.
ما يلفت الانتباه في أزمات الأزمات هو معالجة الانحباس المالي والتوجه نحو امتلاك الأرباح والعمل على الزيادة في الاستثمار وتوسيع وحدات الإنتاج والرفع من الأجور قصد التشجيع على التوزيع والاستهلاك.
لكي يلعب الرأسمال الوطني دورا نضاليا في الواقع\"هناك جملة متزايدة من المسائل، ليس على صعيد الاقتصاد والقوة فحسب، وإنما على صعيد السياسة ناجمة عما يلي:
- أولا كون كل فائض القيمة هذا غير مستعمل الا جزئيا لغايات استهلاكية، في حين أن القسم الأكبر منها يجري ادخاره ورسملته مجددا (تثميره)، وبالتالي يشكل كما في الماضي القاعدة الفعلية لتوسع رأس المال.
- ثانيا كون حجمه يتشكل بصورة عفوية صرفة خلال الصراع بين الأجراء ومالكي رأس المال في سبيل تقسيم الدخل الوطني.\"3
اللافت للنظر أن الأزمة الاقتصادية هي أزمة مالية بالأساس وأنها ترجع إلى تعطل في السيولة وحياد السوق عن دوره المركزي في التنظيم وفقدانه لقدرته على التجميع والتوزيع وضبط القيمة التداولية والاستعمالية وتزايد البضائع المهربة والمنتوجات المقلدة والأنشطة المجهرية والمعاملات المالية الجزئية.
بطبيعة الحال المتسبب الرئيسي في هذه الأزمة المالية هو الفساد الإداري وإهدار المال العام والخلل في الإنفاق والتفاوت بين قيمة الموارد وقوة الإنتاج من جهة وبين كمية الاستهلاك ومستوى التمويل الحكومي للمشاريع من جهة أخرى وتعثرها ووجود هوة بين التصدير والتوريد وبين الدخل الفردي والمستوى المعيشي.
إذا كانت المشكلة بالأساس متعلقة بالتحكم المنهجي بالمالية العمومية وضرورة تحقيق الملاءة بين العائدات إلى الدولة ونسب الإنفاق على المرفق العمومي فإن المخرج الناجع للمأزق هو وضع المالية العمومية في خدمة الاقتصاد الوطني والمراهنة على الإرادة السياسية في مقاومة الأنشطة الموازية والمعاملات السرية والقيام برقمنة الحياة الاقتصادية وإعادة تشييد منظومة استثمار وإنتاج وتبادل واستهلاك تتميز بالفاعلية4.
بهذا المعنى تحتاج الدول النامية إلى قيام نظام اقتصادي ثالث يجمع بين حرية وإنتاجية النظام الرأسمالي وعدالة واجتماعية النظام الاشتراكي ويزيل العقبات التي تحول دون تفتح وتنمية نظام مجتمعي جديد ودون بلوغ مستوى الحياة الجيدة التي تمنح الأفراد والجماعات الحقوق الأساسية وترفع مؤشرات الأمل في الحياة وجودة التمدن والتطوير في المجال الحضري.
غاية المراد بالنسبة للتفكير في الأفق البعدي للأنماط السائدة هو أن \"مفهوم الطريق الثالث يتم تناوله للاشارة إلى إطار فكري لصنع السياسي التي تبحث عن تكييف الديمقراطية الاجتماعية مع العالم الذي أصابه التغيير بشكل جذري...انه الطريق الثالث بمعنى محاولة تخطي كل من الديمقراطية الاجتماعية ذات الطراز القديم واللّبيرالية الجديدة.\"5
بهذا المعنى يتبع الطريق الثالث خيار الاستثمار الاجتماعي الذي يجمع بين مجتمع الرفاهة الايجابية واقتصاد الأمان في سبيل التوقي من المخاطر ومقاومة البطالة والانكماش ويستثمر تعددية هيئات المجتمع المدني من أجل حماية الضعيف ويطرح للنقاش العمومي مشروع الشراكة العامة بين النشاطات الخاصة للأفراد والموارد المشتركة التابعة للمصلحة العامة.
لكن ماهي الشروط التي تتوفر لكي يتم الانتقال من استهلاكية الاقتصاد البضاعي إلى الاقتصاد الإنتاجي؟ والى مدى تقدر المعالجة المالية على الإنقاذ من الإفلاس؟ وكيف السبيل للخروج من كماشة الاقتراض من أجل الإنفاق والرفع في الضرائب للتعويض عن المديونية؟
اضف تعليق